رغم انشغال الشارع المصري بالموقف الإثيوبي تجاه أزمة سد النهضة، إلا أن الموقف السوداني كان لافتًا للاهتمام، لأسباب كثيرة منها العلاقة التاريخية بين السودان وإثيوبيا، والتأثر الجيوستراتيجي لكليهما بالآخر، واشتباك الموقف المائي لهما كون الخرطوم دولة منبع ومصب لنهر النيل، كما تملك الدولتان ملفات مائية مشتركة شكلت نقاشًا ممتدًا بينهما، منذ مشروع الجزيرة وخزان جبل الأولياء واتفاقية 1929 واتفاق 1959 وإنشاء السد العالي.
موقف البشير من سد النهضة
اتسم الموقف السوداني من سد النهضة، في عهد الرئيس المخلوع البشير بالانحياز الواضح للموقف الإثيوبي، وظهر ذلك في الخلاف المكتوم وقتها بين وزير الري الإنقاذي كمال علي محمد الذي كان معارضًا لبناء السد والرئيس عمر البشير، والذي كشف عنه الوزير تفصيلًا في حوار مع صحيفة “اليوم التالي” في 11 يونيه 2020، قائلًا: أخبرت البشير وعلي عثمان طه بالدراسات العلمية لأضرار السد وفوجئت بأن الرئيس وأسامة عبد الله يرددون كلامًا إيجابيًا عن فوائد السد رغم كل ماقدمته لهم”.
ووضح الانحياز السوداني لبناء السد، في تعطيل الدراسات السودانية حول السد في الجامعات وأروقة وزارة الري نفسها التي أُجبرت على تبني خطاب يمجد السد ويعدد فوائده، وإسكات الأصوات التي ترى في السد خطورة على مصالح السودان، ومنع النقاش النقاش العلني حول السد، والتحكم في المحتوى الإعلامي”، وفقًا لصحيفة “اندبندنت العربية”.
انحياز السودان لمصر
تسببت ثورة ديسمبر 2018، في تغيير الموقف السوداني من الانحياز الواضح لإثيوبيا إلى الالتباس، وأرسلت الخرطوم إشارات متعاكسة أربكت المتابعين.
فمن الزاوية الإيجابية طبقًا للرؤية المصرية، أعلن رئيس الحكومة الانتقالية عبد الله حمدوك في أول زيارة له للقاهرة بعد توليه منصبه، في حوار له مع صحيفة “الأهرام”، أن موقف السودان من سد النهضة هو نفس موقف مصر، بل إنه معها في كل خطوة، معقبًا: “السودان دولة في المنتصف بين إثيوبيا ومصر وأي تاثير لسد النهضة سيكون السودان أول المتاثرين به .
وتضامن السودان، مع الرفض المصري لمقترح إثيوبيا في 10 أبريل 2010 بإبرام اتفاق جزئي لتمرير المرحلة الأولى من بدء بناء السد.
كما صرح وزير الإعلام السوداني فيصل محمد صالح، بشكل صريح أن السودان يؤمن بعدم أحقية إثيوبيا في ملء السد دون اتفاق، وتلاه تصريح وزير الري السوداني ياسر عباس، بأن الموقف السوداني متطابق مع الموقف المصري في ضرورة التوصل إلى آلية قانونية مُلزمة للأطراف الثلاثة، لاتنتهي عند اتفاق الرؤساء الثلاثة، أي أن تصبح اتفاقية دولية”.
تعارض السودان مع الرؤية المصرية
ومن الزاوية السلبية من وجهة النظر المصرية، تحفظ السودان على البيان التضامني الذي أصدره وزراء الخارجية العرب بالجامعة العربية دعمًا لمصر ضد الموقف الإثيوبي في 3 يونيو الماضي.
تصريح وزير الطاقة السوداني خيري عبد الرحمن، الذي أعلن فيه أن ارتفاع منسوب المياه سيعود بفائدة كبيرة على السودان في مجال الكهرباء لأنها تتيح له إمكانية زيادة السدود الحالية، يؤكد سلبية الموقف السوداني بالنسبة لمصر.
علاقة خاصة
من خلال تلك القراءة، في المواقف السودانية تجاه سد النهضة، يمكن القول أن الأمور لا تسير في تجاه واحد، وهذا التشوش يمكن فهمه عبر قراءة محددات الموقف السوداني، فالخرطوم بعد الثورة تحكمها علاقة واقعية خاصة جدًا مع إثيوبيا، في ظل الدور القوي المباشر الذي لعبه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في زيارته للخرطوم في 7 يوليه الماضي، وتدخله الناجح للوساطة بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، والتي انتهت بإبرام “الوثيقة الدستورية”، مما اعتبرته القوى السياسية السودانية بمثابة انقاذ للثورة.
وتربط عبد الله حمدوك رئيس الحكومة السودانية، علاقة خاصة بإثيوبيا، كونه أحد مهندسي التنمية في إثيوبيا، علاوة على الخلفية الأممية المتشابهة التي تجمع حمدوك وآبي أحمد، كون الأول النائب السابق للجنة الاقتصادية الأفريقية بالأمم المتحدة، الثاني حاصلًا على جائزة نوبل للسلام، وهذا لايعني و جود علاقة “زواج كاثوليكي” بين البلدين، ولكن يعني علي الأقل عدم الدخول في حالة صدامية.
فوائد السد للسودان
لا ينكر السودانيون، فوائد سد النهضة، حيث تم توقيع اتفاقية بين السودان وإثيوبيا توفر للسودان 300 ميجاوات، وفقًا لتصريح وزير الري السوداني، كما أن هناك وعود إثيوبيه بتوفير الكهرباء للسودان بأسعار تفضيلية.
سد النهضة لديه القدرة على احتجاز كميات ضخمة من الطمي تفوق الـ50 مليون طن، مما يساعد في السيطرة على الفيضانات المدمرة، وتحويل الري الموسمي إلى دائم، كما يضيف ملايين الأفدنة للرقعة الزراعية.
توجد حالة سياسية غير متجانسة تحكم السودان، وتسمح بوجود درجة من التباينات في رؤية مصر وإثيوبيا، فالمرحلة الانتقالية هي حالة توافقية بين العسكر والمدنيين، الفريق الأول يمثل امتداد للنظام القديم بمفاهيمه وارتباطاته، والفريق الثاني يُعبر عن الجدية الثورية، ولا يعبر عن أيدلوجيا واحدة ولا تنظيم سياسي.
الحكومة السودانية، تسعى إلى رسم السياسة الخارجية لبلادها في ملف واحد وهو الحفاظ على جسد الدولة والإفلات من الجنائية الدولية وكسر عزلتها، كما يسعى إلى درجة من الاستقلال والريادة، ومن ثم قدمت نفسها في أزمة سد النهضة في دور الوسيط من جهة، ودور المستفيد من جهة أخرى، لتبيع هذه الشعارات للمواطنين الثائرين ضدها.
ويرى عضو موقف المفاوضات السابق الدكتور أحمد المفتي، أن حرص السودان على عدم التصويت ضد إثيوبيا أول موقف سليم للخارجية السودانية لأن التصويت يخلق مواجهة لا مبرر لها.