في السنوات الأخيرة أسست الدولة مجموعة من الكليات الجديدة، مثل النانو تكنولوجي، والذكاء الاصطناعي، والاستزراع السمكي؛ مجالات عصرية تؤهل خريجيها إلى وظائف المستقبل، لكن ما أثار الجدل عبر مواقع التواصل الاجتماعي هو بقاء مقاعد شاغرة بهذه الكليات في المرحلة الثانية من تنسيق الدخول إلى الجامعات. إذ دارت التساؤلات عن محددات اختيارها من الطلاب والأهالي في مقابل كليات “القمة” التقليدية، فضلًا عن جدل القدرات الذهنية للمتقدمين لهذه المجالات.
“الذكاء الاصطناعي” مرحلة ثانية
أحد المنشورات التي لاقت رواجًا على “فيسبوك” بخصوص هذا النوع من الدراسة، كان لأحمد مسحال، من تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين. كتب: “مش عارف أجيبهالكوا ازاي.. متقولش الموضوع بسيط وعادي، كل كليات الذكاء الاصطناعي والحاسبات والمعلومات متاحة تنسيق مرحلة تانية.. يعني مفيش عليها إقبال. الوظائف الأكثر طلبًا في العالم محدش بيفكر فيها في مصر.. لما يبقي كل الجيل اللي اتولد بعد 2004 لسه بيفكر ويخطط زي جيل أبويا وجدي يبقي عليه العوض”.
بدأت المرحلة الأولى للتنسيق بدأت في 11 أغسطس/آب الماضي، بحد أدنى للشعبة العلمية 365 درجة فأكثر، أي بنسبة 89.02% فأكثر. ذلك بعدد طلاب 22 ألفًا و475 من حقهم التقدم، وشعبة الهندسة بحد أدنى 341 درجة فأكثر، أي بنسبة 83.17% فأكثر. وبطلاب يبلغ عددهم 15 ألفًا و220 طالبًا، أما الشعبة الأدبية فتبدأ بمجموع 264.5 درجة، أي بنسبة 64.51% فأكثر. وبعدد طلاب 80 ألفًا و63 طالبًا، وإجمالي طلاب المرحلة الأولى 117 ألفًا و758 طالبًا.
أما المرحلة الثانية، فبدأت في 18 أغسطس/آب الماضي، بحد أدنى 246 درجة فأكثر للشعبة العلمية، أي بنسبة 60% بإجمالي عدد طلاب 223 ألفًا و294 طالبًا. وسجل الحد الأدنى للشعبة الأدبية 238 درجة فأكثر بنسبة 58.05% وإجمالي عدد طلاب 45 ألفًا و908 طلاب، وبلغ إجمالي عدد طلاب المرحلة 269 ألفًا و202 طالب بجميع الشعب.
أبرز الكليات الجديدة وتوزيعها الجغرافي
تم إنشاء كليات للذكاء الاصطناعي حديثًا في بعض الجامعات أو إضافة قسم للذكاء الاصطناعي في كليات الحاسبات. إضافة لعلوم الفضاء والثروة السمكية. وأبرز الكليات التي كانت متاحة في المرحلة الأولى هي كلية الحاسبات والمعلومات والذكاء الاصطناعي في جامعات القاهرة ومطروح وحلوان والمنوفية وفرع الغردقة جامعة جنوب الوادي وجامعات بنها، وكفر الشيخ، والسادات.
ذلك بالإضافة إلى كلية حاسبات وعلوم البيانات جامعة الإسكندرية، وكلية التكنولوجيا والتنمية (زراعية) جامعة الزقازيق، وكلية تكنولوجيا العلوم الصحية التطبيقية، في جامعة المنوفية وجامعة بني سويف، والمصرية الصينية التكنولوجية بالإسماعيلية جامعة قناة السويس، وعلوم الأرض جامعة بني سويف، والثروة السمكية جامعة السويس، وكلية الملاحة وتكنولوجيا الفضاء بجامعة بني سويف.
أما الكليات التي تبقت من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية لشعبة علمي علوم هي: الطب البيطري، التمريض، العلوم، الزراعة، الجامعات التكنولوجية، الحاسبات والمعلومات، والذكاء الاصطناعي، الاقتصاد والعلوم السياسية، الإعلام، الألسن. وهنا نجد كليات تأسست حديثًا في السنوات الأخيرة مع كليات تقليدية في المرحلة الثانية.
أقسام بمقابل مادي كبير
الجدل حول الاهتمام بالعلوم الحديثة قادنا للبحث والتقصي حول سبب وجود مقاعد شاغرة ببعض الكليات مثل الذكاء الاصطناعي في مرحلة الثانية من التنسيق. إذ ذكر مصدر من كلية الملاحة وتكنولوجيا الفضاء بجامعة بني سويف -فضل عدم ذكر اسمه- أن هذه الكلية تأسست بقرار من الرئيس عبد الفتاح السيسي عام 2017، وفي 2018 كانت أول سنة دراسية بهذه الكلية الجديدة، مضيفًا أن نظام الدراسة بها لمدة 5 سنوات مثل كليات الهندسة وأولى دفعاتها ستدخل عام التخرج مع السنة الدراسية الجديدة 2022/ 2023.
في المرحلة الثانية من تنسيق العام الحالي طرحت هذه الكلية حتى مجموع 85% وفقًا لمصدرنا. وأوضح أن بها برنامج عام للطلبة الحاصلين على الدرجات التي حددها التنسيق بمصاريف 700 جنيه في السنة، وبرنامج خاص يمكن لمن حصل على مجموع 55% أن يلتحق بها، ولكن بمصاريف 40 ألف جنيه في السنة.
وكما أن هناك فارقًا في مصاريف الدراسة، كذلك هناك فارق بين برنامج الدراسة لكل منهم؛ فـ”العام” يدرس طلابه (ملاحة فضائية، ملاحة طيران، اتصالات علوم فضاء) أما “الخاص” فيدرس طلابه (ملاحة عالمية، وأنظمة مثل GNSS، واستشعار عن بعد).
10 جامعات تكنولوجية و52 برنامجًا دراسيًا جديدًا
يقول دكتور حسن شحاتة، أستاذ المناهج بكلية التربية بجامعة عين شمس، أن طلاب هذا العام المتقدمين للالتحاق بالكليات والجامعات المختلفة يجدون تنوعًا بوجود 12 جامعة أهلية، و10 جامعات تكنولوجية، و52 برنامجًا دراسيًا جديدًا في الزراعة والتجارة وريادة الأعمال، تمت إضافتها هذا العام.
يقول: “أصبحنا في عصر رقمي، ووظائف المستقبل تتطلب من الطلبة اختيار كلية مرتبطة بسوق العمل الجديد. بات من الضروري الاستثمار في البشر ذهنيًا وميدانيًا بتدريب الطلبة سواء في الكلية أو بعد التخرج”.
ومستشرفًا المستقبل، يقول أستاذ المناهج: “وداعًا لكليات القمة التقليدية، ونظم الدراسة القديمة التي لا تحقق متطلبات المستقبل”. وهو يرى أن المستقبل للتعليم المهني والفني لأنه مرتبط بسوق العمل. موضحًا أن مجاميع الطلاب هذا العام تعبر عن قدراتهم الحقيقية. ونوه إلى ضرورة الاهتمام بالطلبة المتفوقين واستقطابهم للكليات التكنولوجية ومراكز البحث العلمي ليتم تدريبهم أثناء الدراسة.
اقرأ أيضًا: عندما تخرج التقنية عن السيطرة.. الخوارزميات تراقبك وتقرر بالنيابة عنك.. ورقة جديدة من “دام”
الذكاء الاصطناعي.. تفاؤل حذر
“أفلح إن صدق” هو ما يتخوف منه أستاذ المناهج والخبير التربوي، دكتور حسني السيد، في التعامل مع الكليات الجديدة. متمنيًا أن تحدث فارقًا في العملية التعليمية على مستوى الجامعات. يقول: “يا ريت بتوع التعليم يصدقوا، لأن التعليم الحالي بعافيتين شوية، نعيش اليوم ضجيج بلا طحين”.
من الأمور المتعارف عليها في مصر في السنوات الأخيرة محاولة تقليد الآخرين بصرف النظر عن اتقان ما نريد تقليده. فقد انتشرت بمصر عدة مشروعات في السنوات العشرين الماضية. لكنها سرعان ما اندثرت، بسبب عدم التجديد فيها ومواكبة التطور أو دخول كثيرين لهذا المجال على غير دراية والسوق لا يتحمل الأعداد. وحتى لا يحدث الأمر مع الكليات الجديدة وخاصة فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، حذر دكتور حسني السيد من لجوء كثير من الطلبة لكلية الحاسبات والمعلومات وهم ليسوا مؤهلين لها.
شديد التنافسية متواصل التعلم
وقد كتب الدكتور أيمن بهاء، عميد كلية الحاسبات بجامعة مصر الدولية وأستاذ هندسة الحاسبات بكلية الهندسة جامعة عين شمس، في منشور عبر حسابه على “فيسبوك”، إنه “بمناسبة النصائح بدخول مجال الحوسبة (كونه تخصص المستقبل والأكثر طلبًا والأعلى دخلًا ومزايا كثيرة أخرى وكل ذلك حق). ويشمل هندسة الحاسبات والنظم والروبوتات وهندسة الذكاء الاصطناعي وعلوم الحاسبات والبيانات والبرمجيات وغيرها من علوم وتقنيات المستقبل. وتمثل أقسام هندسة الحاسبات (فرع من الهندسة الكهربية) بكليات الهندسة وكليات الحاسبات والمعلومات الجهات الجامعية لتقديم دراسة نظامية في المجال، يجب الانتباه إلى أن مجال الحوسبة شديد التنافسية، حيث يدخله عشرات بل مئات الآلاف سنويًا”.
وأضاف “بهاء” أن مجال الحوسبة عالمي؛ فأنت تنافس فيه كل العالم بكل جنسياتهم، وكثير من متخصصيه يعملون في شركات عالمية من بيوتهم ومن دولهم دون مغادرتها، وأمر شائع أن يكون متقدمًا لنفس الوظيفة التي تريدها مهندس أمريكي وآخر هندي وثالث صيني ورابع ليتواني وخامس مجري وغير ذلك. فهو مجال مستمر وأبدي للتعلم.
ويرى أستاذ هندسة الحاسبات أن المطلوب من المتخصص في هذا المجال أن يواصل التعلم والتطور وبشكل دائم. فتقنيات الحوسبة تتغير تمامًا كل عام إلى عامين، ومن لا يستطيع التعلم الذاتي المستمر يحكم على نفسه بالخروج من المجال فورًا. هذا مجال يحتاج تدريبًا لـ25 ساعة أسبوعيًا، بعيدًا عن ساعات الجامعة والمحاضرات والمعامل.
وفق عميد كلية الحاسبات بجامعة مصر الدولية، ليس كل شخص مؤهل لهذا النوع من الدراسة التي تحتاج تفكيرًا مختلفًا ومهارات تحليلية وعقلية ونقدية متميزة. يقول: “نصيحتي قبل أن تلتحق بهذا النوع من الدراسة لمجرد أنه الموضة أو لأن وظائفه كثيرة وأنها الأعلى دخلًا (وهو صحيح)، توقف مع نفسك وأصدقها: هل هذا هو نوع الدراسة والتخصص ملائم لك؟”.
علاقة الجامعة بسوق العمل
“الهدف من الكليات الجديدة التي تمت إضافتها أن تكون بوابة لسوق العمل”. تتردد هذه العبارة في وسائل الإعلام وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، باعتبار أن هذا دور الجامعات. لكن على العكس تمامًا، يرى المتخصصون في مجال الهندسة والذكاء الاصطناعي أن هذا ليس دور الجامعة خاصة في هذه المجالات.
يقول الدكتور أيمن بهاء، أستاذ هندسة الحاسبات، إن الجامعة لن تعطيك كل شيء. فقط تعطيك قاعدة علمية تستطيع البناء عليها لسنوات طويلة. ولكن مهمتك أنت أن تستكمل تلك القاعدة بالتكنولوجيا والمهارة والمواكبة للتطور المذهل.
وهو ما يتفق معه أيضًا المهندس محمد مشرف، مدير هندسة موثقية المواقع في جوجل. يقول في فيديو على “فيسبوك” من مقر سكنه بإنجلترا: “الجامعة ليس لها علاقة بتأهيل الطالب لسوق العمل. هذه ليست وظيفتها. الجامعة مكان أكاديمي وظيفته التعليم الأكاديمي. والجامعات في مصر (لا قادرة تركز في التأهيل الأكاديمي فقط. ولا بتركز في تأهيل الطالب لسوق العمل)، ولن تقدر لأنه ليس دورها. من يدرسون بالجامعة هم أكاديميون. ليسوا رجال سوق”.
المهندس فادي موريس ميلاد، المعيد بكلية الحاسبات والمعلومات بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا، تخرج من كلية طب الأسنان، في حين كان مهتمًا بعالم الكمبيوتر، فالتحق بكلية الحاسبات التي يعمل معيدًا بها حاليًا. يقول: “الجامعة لها وظيفة أكاديمية، تمنح أساسيات مهمة، تربي عقلية. أما الالتحاق بسوق العمل هو دور الطالب”.
الأمر ليس هينًا، وفق “موريس”، فقد كلفه شغفه سنوات من الجهد حتى وصل إلى ما وصل إليه.
ينصح موريس المتقدمين لدراسة علوم الحاسب والذكاء الاصطناعي بألا تكون رغبتهم معتمدة فقط على المجموع في الثانوية أو رغبة في الحصول على مجرد وظيفة دون شغف التعلم والتدريب المستمر. “الأمر ليس كذلك”؛ كما يؤكد.