أشرقت شمس اليوم على عيادته مفتقدة وجوده، جدران الحوائط التي لطالما اتكأ عليها الفقراء يتشبثون بالأمل في الشفاء الآن فقد لا تجد من تتكئ عليه شاكية آلام الفراق، كل هذا الزحام وهذه الأصوات اختفت تمامًا، فلن يكون بعد اليوم في هذا المكان أنين للمرضى بين الرجاء والأمل، كل الرغبات انطفأت في لحظة رحيل “طبيب الغلابة” الدكتور محمد مشالي فجر اليوم عن عمر يناهز الـ 76 عام.
الطبيب الراحل كان يبدأ يومه في تمام السابعة صباحًا، يذهب لعيادته المجاورة حتى أذان المغرب، ثم يعود الى منزله، عقب ذلك يتوجه إلى عيادتين له في قرى مجاورة، لم يكن ليضيع وقته خوفًا من التأخر على نداء أحد المحتاجين، ظل هكذا على مدار نحو 50 عامًا، يتلمس كل طريق يمكنه به مساعدة شخص يحتاج إلى العلاج، لم يبحث عن الثراء يومًا، ولا حاول استغلال حاجة مرضاه، تاجر مع الله زاهدًا عن الإتجار بأرواح البشر، أعلى من الإنسانية فأصبح نموذجًا لها، وزهد في الحياة وقال “مش محتاج حاجة وأي حاجة بتكفيني سندوتش فول او طعمية مش عايز أي حاجة لأن عندي كل حاجة”، فسجل اسمه بحروف من ذهب حاملًا لقبًا يحتوي على حب حقيقي منزه عن الأغراض، وتوج على قلوب الجميع بـ “”طبيب الغلابة”.
الهدف والبدايات:
“طبيب الغلابة” سخر وقته وعمره لخدمة محدودي الدخل والفقراء قالها مرات عديدة “انا هنا علشان اخدم من أوصاني أبي بهم خيرًا”، الطبيب الشاب أدرك معنى الحرمان والفقر مبكرًا حينما كان يرى معاناة والده الذي كان يعمل مدرسًا لينفق على تعليمه، لمس الاحتياج كثيرًا فحمل على كاهله آلام المرضى منذ تخرجه في كلية الطب بالقصر العيني عام 1967 وتخصص في أمراض الباطنة والأطفال والحميات، وفتح أول عيادة له عام 1975 في طنطا بمحافظة الغربية.
أما سعر الكشف، فقد ظل حتى فترة قريبة 5 جنيهات يدفعها المرضى على مدى سنوات عديدة، ولم يتأثر إلا حينما قرر أن يجعل من هذه النقود هامشًا لتوفير الدواء لمن لا يمتلكون شراءه، فارتفع سعر الكشف إلى 10 جنيهات فقط واستمر هكذا حتى وفاته، نعم 10 جنيهات قيمة الكشف الذي جعل منه مثار حديث الكثيرين، وسخرية أقرانه، وبهذا المبلغ الزهيد كان يبحث دائمًا عن فرص أكبر لتوفير العلاج للبسطاء من أهالي قريته والقرى المجاورة محاربا نزعات وغرائز الباحثين عن الثراء من تجار المرض وأطباق السبوبة التي أصبحت فواتير كشفهم طائلة لا يتحملها متوسط الدخل.
ظل “طبيب الغلابة” يكافح كجندي مجهول حيث تم تعيينه بعد التخرج في القطاع الريفي بمحافظة الغربية، حيث كان مقيمًا في طنطا آنذاك ثم تمت ترقيته إلى مدير مستشفى الأمراض المستوطنة في مركز سعيد الطبي، إلى أن وصل إلى نهاية الخط الحكومة وخرج على المعاش عام 2004.
قصتان مؤثرتان
أعلن الدكتور محمد عبد الغفار مشالي، أستاذ الأمراض الباطنية وطب الأطفال، أنه عند وفاة والده علم كم كان الوالد يقتطع من مصاريف علاجه كي ينفق على تعليم أبنائه إلى أن أصبح على فراش الموت، فقال له الجملة التي اعتبرها الابن البار دستور حياته: “خلى بالك من الفقرا يامحمد اوعى يجيلك يابني محتاج وتاخد منه تمن الكشف”.
رواية أخرى مؤثرة يتحدث عنها الدكتور “مشالي” هزت كما وصف حياته حيث قال: “كنت طبيبًا في إحدى الوحدات الصحية، وكان هناك طفل مريض بالسكر، وطلب من أمه حقنه بالأنسولين التي لم يأخذها منذ يومين فقالت له الأم إذا اعطيتك الحقنة فلن أطعم إخوتك فقرر الطفل حرق نفسه وقال فعلت ذلك لأوفر الطعام لإخوتي ومات هذا الطفل بين يدي أثناء محاولتي إنقاذه”.
لولا مجانية التعليم لما كان هناك طبيب غلابة
الدكتور محمد مشالي بعد حصوله على الثانوية العامة بتفوق ذهب إلى القاهرة مع والده من أجل التقديم في كلية الطب، إلا أنهما فوجئا بأن المصاريف باهظة، عاد الأب وابنه خائبي الأمل، محاولين البحث عن بدائل إلا أن القدر أبى عليه هذه الخيبة، ففي مساء ذات اليوم، أصدر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قرار مجانية التعليم.
“طبيب الغلابة” أكد قبل رحيله أن هذا القرار أنقذه من الحياة المجهولة فعلى الفور طلب منه والده الإسراع للتقديم إلى الكلية، وبالفعل درس وفقًا لهذا القرار وكانت له مقولة مؤثرة في هذا الصدد: “ابى اتنفض من الفرحة وكان قبلها بيقولى هجيبلك منين بسر ربنا كرمني بالمجانية وانا كمان قررت اساعد من كرمه كل محتاج”.
رفض التبرع الإماراتي
لم يكن “طبيب الغلابة” فقط يدعم الفقراء ويوفر لهم الكشف بمبلغ زهيد ولكنه أيضًا زاهدًا في الدنيا، وما فيها فقد أتى إليه مقدم برنامج “قلبي اطمأن” الإماراتي ليتبرع له بعيادة والكثير من الأموال، ولكنه رفض، وطالبه بالتبرع إلى الجمعيات الخيرية أو أطفال بلا مأوى أو حتى محافظة الغربية نفسها.
وقال “طبيب الغلابة” لمقدم التبرع “أنا زاهد ولن اترك عيادتي التي اتاجر بها مع الله”، وأصر على مواصلة مشوار عطائه منفردًا دون مساعدة من أحد أو قبول تبرعات وهدايا البرامج التليفزيونية المختلفة، سواء في مصر أو الخارج، معليًا من قيمة عطائه للإنسانية الى أن تركها اليوم.
“من يداوي الغلابة بعد رحيله”؟
“أنا اتخلقت للغلابة وكل إنسان مهيأ لما خلق له”، قانون ظل الدكتور محمد مشالي يسير عليه، بينما راح الكثير من الأطباء يبحثون عن الثراء ويستزيدون منه دون النظر الى مصير من يحتاجون المساعدة ولا يمتلكون النقود لذلك.
أهالي قريته ظهر التمساح التابعة لمركز ايتاى البارود بمحافظة البحيرة، نعوا الدكتور محمد مشالي، على صفحة القرية عبر “فيس بوك” مؤكدين أنه طبيب قرر أن يتاجر مع الله فأهداه الله دعوات 100 مليون مصري قائلين: “كم من أطباء أثرياء رحلوا ولم يشعر بهم أحد وما نفعتهم الأموال التي جمعوها من الناس ولا شهرتهم لأنهم لم يتركوا هذا الأثر الطيب في نفوس الناس؟”.
أهالي قرية الطبيب أصبحوا أسرى لأحزانهم، فمن للفقراء بعد رحيل طبيبهم؟، فسعر الكشف يتراوح من 100 لـ 500 جنيه، والراحل كان يوفره لهم بسعر 10 جنيهات بل كان يساهم في توفير بعض الأدوية للمحتاجين وغير القادرين، كما أنه لا يقبل الكشف من محتاج قصد عيادته، وأصبح سؤال “من يداويهم بعده” لا يجد إجابة في ظل هرولة بعض أقرانه حول البحث عن الثراء بل وترك المرضى للموت في حال عدم القدرة على الإنفاق، في مناخ أصبح العلاج والمرض مجالًا للاستثمار والتربح”.
نعي وبكاء
فور تأكيد وليد نجل الدكتور محمد مشالي خبر الوفاة، انطلقت الدعوات له بالرحمة، ونعاه الكثيرون بل وسادت حالة من الحزن مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، ليأتي في مقدمتها نعي أهالي قريته على صفحة “صدى ظهر التمساح”، بالإضافة إلى أن الكثيرين من رواد موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”.
وراح مغردون يتحدثون عنه في “تويتر” حيث كتب أحد الحسابات: ” عمل رحمه الله في الطب 50 عاما مانحاً جهده ووقته للفقراء والمساكين بلا مقابل ترحموا عليه رحمكم الله، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.. عاش طبيباً نبيلاً كريماً لمن لا يعرفه لقاء جميل معه”.
وفي حساب آخر غرد أحدهم: “ياليت بقية الاطباء يستفيدوا من تجربة الدكتور مشالي رحمه الله بدل من تحويل الطب من رساله الى تجاره!!! البعض لازم تحجز قبل الكشف بمده طويله مع دفع مبلغ مرتفع جدا!! غير التحاليل والأشعة والأدوية!!!”.
بينما كتب ثالث: “شخص لا يريد الأضواء ولا الشهرة يريد الأجر من الله سبحانه وتعالى الكثير لم يعرفه إلا بعد موته ويكفيك أنه عاهد الله أن لا يأخذ قرشاً واحداً من الفقراء والمعدمين ولا تنسوه من خالص الدعاء يارب تغفر له وترحمه وتسكنه الجنة وجميع موتى المسلمين عامة يارب العالمين”.