في السادسة صباحًا تنطلق سيارات نقل حجارة محملة بنحو ثلاثين عاملًا، تقطع أراضي قرية الديابة بمحافظة المنيا (جنوب القاهرة)، متجهة إلى المحاجر (تبعد نحو 40 كيلومترًا عن القرية)، تدل عليها ذرات الغبار الأبيض المتطايرة، فوق آلات يسيرها عمال لا يحميهم إلا وشاح من الصوف أو قناع وجه مهترئ.
هنا يعمل الطفل محمود عاطف (13 عامًا)، تحت ماكينة تقطيع الأحجار. وفي يوم أثناء تحميله قطع الحجارة على السيارات تعثر في بلوكات حجرية، ليجرح حاجبه الأيمن تاركا اثراً واضحا على فوق عينه.
محمود عاطف ليس وحده، فوفقًا لدراسة أجرتها مؤسسة وادي النيل لحماية عمال المحاجر، فإن الأطفال يشكلون نحو 23 في المئة من مجمل العمالة في هذا القطاع.
وبناء على جولة ميدانية فيما بين كانون الأول/ ديسمبر 2021 وآذار/ مارس 2022، ومعاينة 50 طفلًا، يوثق هذا التحقيق انتشار عمل الأطفال داخل المحاجر، بالمخالفة للتشريعات الدولية والقوانين المحلية، التي تصنف العمل داخل المحاجر من الأعمال الخطرة.
ونتيجة لخطورة هذا العمل، رصد التحقيق تعرض 42 طفلا من العاملين في المحاجر لإصابات عمل، في ظل غياب أدوات السلامة المهنية، والرقابة على المحاجر من الجهات المنوط بها حماية الأطفال.
والعمل في المحاجر لما ينجم عنه من أخطار، ينتهك اتفاقية حظر "أسوأ أشكال عمل الأطفال"، التي تلزم الدول الموقعة عليها، ومن ضمنها مصر، بالتصدي لأي عمل يعرض صحة الطفل للخطر.
وسنت مصر قانون الطفل في العام 1996، الذي يسمح بعمل الطفل البالغ 15 عامًا أو أكثر، شرط ألا يعرضه العمل للخطر، أو يمنعه من فرص استكمال تعليمه.
عند وضع قدمك في جبل المنيا، حيث موطن صناعة المحاجر، أول ما تسمعه هو صوت الآلات الصاخبة. مناشير الطوب تندفع بفعل الكهرباء، والتروس المكشوفة تنبش في الطبقات الصخرية الصلبة.
تنتشر في الموقع كابلات وأسلاك كهربائية بقدرات مرتفعة، لاستيعاب تشغيل الماكينات الضخمة، هذه الأسلاك والكابلات المكشوفة مثبتة في اتجاهي الذهاب والعودة مع خط سير الماكينات بامتداد طول وعرض المحجر.
في 10 محاجر زارتها معدة التحقيق من بين 172 محجرًا تقع على امتداد 300 كيلومتر مربع شرق مدينة المنيا، شاهدنا مئات العمال يعملون بوجوه وأياد مكشوفة، في إنتاج الحجارة، وغيرها من مواد البناء.
في هذه البيئة يعمل آلاف الأطفال، فوفقًا لمسح أجرته مؤسسة وادي النيل لحماية عمال المحاجر في 2010، يشكل الأطفال 23.3 في المئة من عدد عمال المحاجر.
وتقدر نقابة عمال المحاجر عدد العاملين في محاجر المنيا بـ 55 ألف عامل. قبل ثلاث سنوات انضم محمود عاطف إلى رفاقه في المحجر، متوارثًا هذه المهنة من أبيه، الذي أقعدته إصابته في المحاجر عن العمل، ولم يجد أمامه سوى الدفع بابنه إلى المكان الذي تسبب في عجزه.
اعتادت المحاجر أن تستقبل الأطفال في سن يماثل سن محمود، فالعمل في المحجر يبدأ في العادة من سن 9 سنوات. وعلى أساس السن، تصنف فئات العمل داخل المحاجر.
في كانون الثاني/ يناير 2020، صدرت اللائحة التنفيذية لقانون الثروة المعدنية، والذي يتضمن شروط ترخيص المحاجر والعقوبات المفروضة على المخالفين.
ولم تراع اللائحة وضع العاملين في المحاجر، ما أثار استهجان نقابة عمال المحاجر، التي اقترحت إدراج التأمين على العاملين في المحاجر ضمن شروط ترخيص المحاجر.
وأتت العقوبات المنصوص عليها في قانون العمل المصري هزيلة عند مقارنتها بالعقوبات المنصوص عليها في قانون الثروة المعدنية.
الناتج عن غياب الأمن الصناعي داخل المحاجر يسبب كوارث، على حد قول عبير محمد عبد الرحمن الممرضة في وحدة الديابة الصحية.
ويقصد مصابو المحاجر في القرية الوحدة الصحية، وأغلبهم من الأطفال، "إذ يأتي الطفل وهو ينزف من رأسه أو إحدى قدميه أو يديه إذا كانت الإصابة بسيطة، فأقوم أنا بالإسعافات اللازمة له من خياطة وضمادة ومتابعة".
وبالاطلاع على سجلات الوحدة الصحية داخل قرية الديابة في الأشهر الأولى من هذا العام، رصدنا إصابة 30 إلى 40 طفلا شهريًا. ولا تدون سجلات الوحدة مكان الإصابة، إلا أن الممرضة عبير، تؤكد أن معظمها إصابات عمل جراء عمل الأطفال في المحاجر.
يعمل محمود وعبد العال قبل بلغوهما سن 15 عامًا، وهو السن الذي حظر قانون الطفل (المادة 64)، تشغيل الأطفال قبل بلوغه.
وبموجب ذات القانون (المادة 97)، يتم تشكيل لجنة عامة في كل محافظة تسمى "اللجنة العامة لحماية الطفل".
كما ينشأ وفقا لنص القانون، بالمجلس القومي للطفولة والأمومة إدارة عامـة لنجدة الطفل، تختص بتلقي الشكاوى من الأطفال والبالغين، ومعالجتها بما يحقق سرعة إنقاذ الطفل من كل عنف أو خطر أو إهمال.
وعند اللجوء إلى خط نجدة الطفل لمعرفة الإجراءات اللازمة للتصدي لعمالة الأطفال في المحاجر، فكانت الإجابة أن الإجراءات المتبعة تنحصر في تلقي الشكاوى وتحويلها إلى وحدة حماية الطفل التابعة لجهة الشكوى.
ولدى الاتصال بوحدة حماية الطفل في مركز أبو قرقاص (مركز محاجر المنيا)، تبين أن الوحدة لم تخصص قسمًا لحماية أطفال المحاجر.
عمران أحمد محمود، أحد أصحاب المحاجر التي زرناها خلال عملنا على العمل، يبرر تشغيله للأطفال بـ"الظروف الاقتصادية" للأطفال.
ويوضح أن لجان حماية الطفل كانت تفتش في الماضي، وكانت تطبق غرامات على عمالة الأطفال في المحاجر، ولكنها كانت غرامات ضئيلة.
يعارضه في ذلك، أحمد مصيلحي، رئيس شبكة الدفاع عن الأطفال، موضحًا أن عمالة الأطفال في المحاجر ممنوعة في المطلق، بغض النظر عن الحالة الاقتصادية للطفل، وبالرغم من الغرامات الضئيلة التي تطبق يجب أن تصل العقوبة للحبس خمس سنوات لـ"استغلال أصحاب المحاجر للأطفال".
ويلقي المسؤولية على المجلس القومي للأمومة والطفولة باعتباره "الجهة المنوط بها حماية الطفل"، موضحًا أن القانون به خلل بإعطائه سلطة حماية الطفل للجان حماية الطفل التابعة للمحافظات، بالرغم من عدم تأهيلها للقيام بهذا الدور، وهو ما دفعه إلى تقديم مشروع قانون للطفل لمجلس النواب، يفعل الدور الرقابي لمجلس الأمومة والطفولة.
النشرة البريدية |