طريق طويل يبدأ من سور ستاد نادي المقاولون العرب، إلى جامع الشرطة في منطقة صلاح سالم، حيث “تُرب الغفير”، والتي أثارت حالة من الجدل على مدار الأيام الماضية، بسبب قرار الحكومة بتوسيع طريق صلاح سالم بنطاق حي مُنشأة ناصر، إذ تسعى لإضافة حارتين جديدتين للطريق، وإقامة محور الفردوس، للقضاء على التكدس المروري بالمنطقة.
قرار الحكومة، تسبب في إزالة 6 أمتار من أحواش المقابر بالطريق، وإزالة 8 أمتار بشارع الغفير، لوقوعها في خط سير أعمال التطوير، مما أشعل غضب أهالي المنطقة، نظرًا لارتباطهم الوجداني والتاريخي بهذا المكان، فكل شخص به لله حكايات من الحب وقصص من الوجع والفراق.
حواديت الأحبة
ربما تبدو المقابر بوجه عام مكان كئيب، لا يُمكن أن يشهد قصص الود والمحبة بين الأهالي كتلك التي شهدتها “تُرب الغفير”، وتُعد تلك القصص والتفرقة التي سيسببها قرار إزالة بعض المقابر، السبب الأهم في غضب الكثير من الأهالي.
“حسني خلاف”، خفير أحد الأحواش بـ”مقابر الغفير”، يقول إنه ولد في المنطقة منذ أكثر من 60 عامًا، وكانت والدته تعمل “معددة” يستأجرها أهل المتوفي قديماً لتجلس في المعازي تذكر محاسن المتوفى، وبعض أناشيد الرثاء، ويرد عليها الحضور من السيدات، وكانت هي المهنة الأساسية لها، لتُنفق منها على الأسرة، المكونة من 6 أفراد أكبرهم حسني، مشيرًا إلى أنه نشأ في بيئة مزدوجة يختلط فيها البكاء بالضحك وبالرومانسية، فيروي كم من حكايات العشاق ومواعيد الأحبة التي شهدها حول سور المقابر، كما كان شأهدًا على لحظات فراق وبكاء ونحيب.
“قصة حب الشيخ مصطفى وابنة أحد المتوفي كانت أسطورية وانتهت بالزواج”، من أكثر القصص التي يتذكرها حسني ويرويها بشغف، إذ يعود بذاكرته إلى ما يقرب من 20 سنة ماضية، وقت جنازة الدكتور كامل أبو مبروك، حيث تمتلك عائلته قبرًا في “تُرب الغفير”، واعتادت الأسرة أن تتردد على التربة لقراءة الفاتحة وكان من بين أفراد الأسرة فتاة تدعى هالة وهي ابنة الدكتور كامل، ووقع في غرامها الشيخ مصطفى أحد المترددين على المقابر باستمرار، وتقدم لخطبتها، وتزوجا وأنجبا ولدًا وبنتان، وهم حالياً يسكنان بمنطقة قريبة من “تُرب الغفير” ويترددون عليها من وقت لآخر لزيارة والد هالة.
صابر الكعيمي
صابر الكعيمي أحد كبار منطقة الحرفيين بوسط البلد، وله مدفن كبير بمنطقة “ترب الغفير”، يقول “حسني”، إن مدفن الكعيمي، عاشت بجواره أُسرة بسيطة مكونة من أب وأم وابن وحيد، كانت تستأجر الأسرة الحوش وتحصل على قوت يومها من تبرعات الأهالي بفطائر الرحمة، وكان الأب يعمل فراشًا بمدرسة قريبة من المدافن صباحًا ليساعده الراتب على تدبير حال الأسرة، وكانوا سُعداء رغم ضيق ذات اليد، إلى أن تعرض إسلام ابنهم لحادث مروع، شهدت جنازته حزن كبير من كل سكان ترب الغفير، فكان شابًا حسن الخلق، في المرحلة الثانوية، مات بعده والديه على فترات متقاربة، واختفى أثر الأسرة بالكامل، فلم يكن لهم أقارب أو أهل ، وبرغم انتهاء حياتهم ونسلهم، إلا أن سيرتهم ممتدة، ويذكرهم الجميع بالخير، وتُعد قصتهم من أكثر القصص التي أثرت في الجميع.
حديث مع الموتى
“أنا من هنا، ولدت وسط الأموات، أناجيهم وأبكي وأضحك معهم”، هكذا أعرب “محمد” 35 سنة، عامل نظافة بالمنطقة، عن ارتباطه بـ”تُرب الغفير”، موضحًا أنه تزوج داخل أحد الأحوش، وعلى الرغم من عدم رغبته في السكن هناك من البداية إلا أن ظروفه الاقتصادية أجبرته على ذلك، فنشأت علاقة اجتماعية بينه وبين الأموات.
يقول “محمد”: “أشعر ببكاء أهل المتوفي عندما يتركونه ويرحلون، وأحاول تهدئتهم بأنني سأتلوا له القرآن، وأحيانًا أشكي همومى للموتى، كنوع من الفضفضة عن الأسرار التي لا يُمكن الحديث عنها للأحياء”، متابعًا: “معظم المدافن الموجودة بالمنطقة هي لمسؤولين كبار وقيادات ورموز سابقين بالدولة، وهذا لا يمنعني من الحديث إليهم، بل أشكو إليهم ما لم أتمكن من قوله لهم وهم أحياء”.
سبب التسمية
ترجع تسمية المكان بهذا الاسم نسبة إلى “قبة الغفير” التي تتوسط المكان وهو الحارس المسئول عن المساجد التي شُيدت مع مقابر المماليك، وتتبع حاليًا هذه القبة وزارة الآثار، وتم تسجيلها كأثر تاريخي أما مقابر المماليك فآلت إلى وزارة الأوقاف كمنطقة ذات طابع خاص، فلها تقسيم مُميز تحمل فيه الشوارع أسماء بعض الأمراء مثل الأمير شمس الدين وقرقماش وقنصوة والملك المظفر أحمد والأمير حوش قدم، بالإضافة لمقابر المماليك قشتمر والسلطان الظاهر و قايتباي وقنصوه، وغيرهم من المماليك في نهاية الشارع توجد الخاصة الملكية بمقابر الملك فاروق وأسرته و الأميرة شويكار، والملكة ناريمان، وبجانبها مقابر عمر مكرم وطلعت حرب، ومقابر أخرى ملك للعامة.
تتميز مقابر الغفير، بأنها شيدت على شكل مقصورات خشبية، كما احتفظت بعدم الانخراط في الشكل المتعارف عليه لباقي المقابر في مصر، فلم تطغى عليها العشوائيات بشكل ملحوظ كما هو الحال في مقابر المجاورين أو باب النصر.
لا يوجد خسائر
علاقات عديدة ومحبة جمعت سُكان المنطقة بالمكان، وهو ما تسبب في حالة الغضب التي أحدثها قرار هدم بعض المقابر، وبالرغم من كبر حجم الإزالات المُقررة إلا أن هذا لن يؤثر على عدد المقابر ولن يقترب من مدافن المماليك، وهو ما أوضحته الدولة، عبر نوافذها الإعلامية، والتي أكدت أن محور الفردوس بعيدًا عن الآثار الإسلامية المُسجلة بالمنطقة، كما أنه لن يُهدم أي أثر هناك، وأن المقابر الحديثة والخاصة بالأفراد هي التي ستهدم.
الدكتور محمود نصار، رئيس الجهاز المركزي للتعمير، أكد بشكل رسمي أن الأمر خضع لدراسة دقيقة بدأت منذ طرح فكرة تدشين المحور وحدد على أساسه عدد المقابر التي ستزال وتم إبلاغ ذوي الموتى بكافة الإجراءات، مع العلم أنه لم يتم إزالة جميع المقابر.