لا يوجد أمام مصر باب آخر للخروج من أزمتها الحادة الراهنة بعد تغيير السياسات الكبرى الحالية والتي أوصلتنا لهذا المأزق الحرج، إلا باب الاستثمار الكثيف في التعليم تقديما وتفضيلا على أي باب آخر.
الاستنتاج الوحيد المنطقي من الجملة التي رددها الرئيس السيسي مرارا وتكرارا كان آخرها الأسبوع الماضي وهو أن الدولة المصرية أصبحت “خرابة أو كهنة” منذ خمسين سنة هو أن: إعادة مصر ودولتها لتصبح دولة قوية يعني تغيير السياسات التي تم العمل بها خلال هذه الخمسين عاما الجدباء.
اقرأ أيضا.. طارق عامر وجمال مبارك.. غاب «الوريث» وحضرت لجنة السياسات
تحولت مصر منذ 1974 إلى دولة مديونة للغير، مغلولة اليد، مقيدة الحركة بسبب حاجتها لهذا الغير، وتعيش على المساعدات الخارجية والموارد الريعية وأشبه ما تكون بقارب هش، شراعه مكسورة تتلاعب به رياح كل أزمة اقتصادية يمر بها العالم، وتجعله على شفا الغرق كل عدة سنوات.
إذا تم فعلا تغيير هذه السياسات الكلية التي لفشلها المرير طعم العلقم في حلوق أكثر من 80% من المصريين، فإن أعظم ميدان لاختبار الخروج من نصف القرن (الساداتي-المباركي) هو ميدان التعليم.
فإذا كانت الأزمة الراهنة في مصر سياسية أي تحولها إلى شبه دولة بمعنى تحولها من دولة قوية إلى دولة رخوة، فإن الخبرة التاريخية المصرية المؤكدة تقول إنه لا مخرج لها من هذه الأزمة إلا بالتعليم. فهذه الخبرة تشير بوضوح إلى أنه ليس هناك دولة في العالم ارتبط صعود قوتها ونهضتها كدولة بنهضة التعليم فيها كما وكيفا، كما هو الحال مع مصر، بحيث يكفي بكل سهولة من مراقبة حال التعليم فيها أن نعرف على وجه الدقة واليقين متى كانت الدولة المصرية في حالة قوة ومتى كانت في حالة ضعف ورخاوة.
بالاستفادة من المنجز النظري لباحثين ومفكرين مصريين مثل الدكتور سامر سليمان عن “النظام القوي والدولة الضعيفة في عهد مبارك” أو الدكتور جلال أمين في نظريته عن الدولة المصرية القوية قبل 1967 والرخوة بعدها ثم في عصر السادات ومبارك وتطبيقه على مصر الحديثة، تجد أن أعظم عهدين للتعليم في مصر (محمد علي في النصف الأول من القرن 19. وجمال عبد الناصر في النصف الثاني من القرن العشرين) هما أكثر مرحلتين بلغت فيهما الدولة المصرية أعلى مراحل قوتها الداخلية وأعلى مراحل قوتها الخارجية وتأثيرها في إقليمها.
وأن انهيار التعليم في عهد خليفتي محمد علي (عباس وسعيد)، وانهيار التعليم في عهد خليفتي عبد الناصر (السادات ومبارك)، كان ولا يزال مؤشرا حاسما على انهيار قوة الدولة المصرية داخليا وخارجيا وانتقالها من مرحلة الدولة القوية إلى مرحلة الدولة الرخوة وإن بقي النظام السياسي مهيمنا بسبب الإفراط في استخدام أدوات الإكراه.
والمعني هنا هو أننا سنعرف بسهولة من مراقبة أحوال التعليم في مصر في الفترة المقبلة، ماذا كانت مصر بعد الحوار الوطني قد تحولت من “خرابة” إلى “دولة” أي أن كانت قد تحولت من دولة رخوة ونظام قوي إلى دولة قوية ومجتمع قوي.
فإذا استمر تردي التعليم وتراجع مكانته في سلم أولويات إنفاق الدولة في مصر منذ نهاية السبعينيات بمتوالية هندسية، فنحن في مرحلة الدولة الرخوة والعكس صحيح.
في جدل ديالكتيكي وتأثير وتأثر مدهشين تدين عملية التعليم في مصر في كل مرحلة نهوض لها، بوجود دولة قوية ذات مشروع للنهضة، تنفق بكفاءة على التعليم وتعتمد عليه كآداة رئيسية لتحقيق أهداف هذا المشروع.
كما تدين الدولة المصرية الحديثة للتعليم بكل ما أنجزته في مجال تثبيت النظام العام وبلورة الهوية الوطنية الجامعة والمواطنة وقيام مؤسسات الدولة العصرية وكل عملية حراك اجتماعي عموما ونشوء الطبقة الوسطى الحديثة خصوصا.
هيبة الدولة المصرية الحديثة لم تتأكد في نفوس مواطنيها كما تأكدت من خلال قدرتها في عهد محمد علي مثلا على إقامة وبسط نظام تعليم حديث، بجانب التعليم التقليدي والأزهري على مجتمع كان تقليديا ومتوجسا من الحداثة والتطور، وقدرته مثلا على جعل الطالب المسيحي يجلس بجوار الطالب المسلم في المدارس الابتدائية لكي يدعم فكرة المواطنة.
هيبة الدولة المصرية بعد ما يزيد من سبعين عاما من الاحتلال البريطاني بعد ثورة 1952 أيضا لم تسترجع وتتأكد في أهم صورها إلا من خلال قدرتها غير المسبوقة في التاريخ الحديث على إقامة أكبر نهضة تعليمية، وصلت المجانية فيه إلى التعليم الجامعي، ووصلت فيه أعداد البنات تقريبا إلى نفس أعداد الشباب، وشمل الريف والمدن وشمل كل الطبقات الاجتماعية المحرومة، وغير الهيكل الطبقي وهيكل العلاقات الاجتماعية، كما لم يحدث في مرحلة سابقة أو لاحقة.
وأفرز هذا التعليم الواسع -والذي ظل محتفظا بقدر كبير من الجودة حتى أوائل عقد السبعينيات- التطور الكبير الذي جعل مصر توصف بأنها بنك الخبرات البشرية الغني في العالم العربي، والذي اعتمدت عليه بهجرة واسعة لملايين المتعلمين المصريين، عملية العمران وبناء الدولة الحديثة في كل الدول العربية من المحيط إلى الخليج، خاصة دول الخليج مع تدفق الثروة النفطية فيها.
هذا التطور سيثبت لاحقا أنه أهم مصدر للعملات الأجنبية لمصر متفوقا على كل الصادرات وعلى كل المصادر الريعية من السياحة وقناة السويس والبترول والغاز. أي أن استثمار مصر في الخمسينيات والستينيات في التعليم، كان أكثر استثمار رابح قامت به، وأن التعليم كان وفيا ورد إلى الدولة المصرية ما أنفقته عليه أضعافا مضاعفة. ولا نبالغ أنه كان من أهم أسباب الحيلولة دون أن يجثو هذا البلد الأمين على ركبتيه ووقوفه والحمد لله على قدميه بعد كل أزمة اقتصادية طاحنة أوصلت مصر إليه سياسات “شبه الدولة”.