الخريطة السياسية في دول الشرق الأوسط، ليست مقتصرة على ممارسات أنظمتها وسيطرتها على الوضع في الداخل، لكنها ترتبط ارتباطا وثيقًا بالدعم الذي تلقاه من الحكومات الكبرى في العالم، ما جعل “شركات أو جماعات الضغط” تحديدًا في الولايات المتحدة هدفًا لحكومات الشرق الأوسط كافة لتسهيل مهمتها في السيطرة على الحكم، وتبرير جرائمها وانتهاكاتها في شتى المجالات، مُقابل ملايين من الدولارات.
تعريف ناقص
“pressure group” أو جماعة الضغط، تُعتبر منظمة، عادة ما تكون رسمية في البلدان التي تتمتع بنظام ليبرالي ديمقراطي، تتكون من أشخاص أو منظمات تتشارك في المصالح والاهتمامات سواء السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية أو الدينية، وغيرها، للتأثير على الحكومات والسلطات المعنية لصالح القضايا التي تتبناها، بكافة الوسائل الممكنة، دون السعي إلى الوصول للسلطة أوالسيطرة على المراكز الرسمية فيها.
جماعات الضغط أو “المصالح”، تسعى لتحقيق أهدافها بالعديد من الطُرق، منها محاولات التأثير في الرأي العام لتبني وجهة نظرها، مما يُجبر صُناع القرار على تلبية مطالب الشعب التي هي في الأصل مطالبها، كما تسعى لتحقيق أهدافها من خلال علاقات مؤسسيها مع المسؤولين الحكوميين، فضلًا عن وسائل الضغط السياسية المعروفة كالبرلمانات وغيرها.
خبراء السياسة، يعتبرون النقابات والاتحادات العمالية ومنظمات حقوق الإنسان الموجودة في مختلف دول العالم، ضمن جماعات الضغط، لتشابه تحركاتها ومحاولاتها للوصول إلى حقوق أفرادها المادية والمعنوية، والعمل على إجبار الحكومات على إقرار وإلغاء القوانين الداعمة والسالبة أعضائها.
لعبت جماعات الضغط، دورًا كبيرًا في تعزيز القيم المجتمعية ودعم الديمقراطية وإحلال السلام على العالم، كما حدث في عام 1957، من خلال حملة نزع السلاح النووي، والتي أيدت الحد من انتشار الأسلحة النووية ونزعها من جانب واحد في المملكة المتحدة، وجمعية بنسلفانيا للتحرير من العبودية، التي تأسست في فيلادلفيا في عام 1775 بهدف القضاء على العبودية في الولايات المتحدة.
لم يكن لجماعات الضغط، علاقة بالسياسة في الماضي، ولكنها كانت مجبرة في بعض الأحيان على الدخول إلى الساحة السياسية عندما يكون لا بديل عن ذلك لتحقيق مصالحها التي ترعاها، كما حدث من قبل الاتحاد الطبي البريطاني، الذي تشكل خلال اجتماع ضم 50 طبيبًا في عام 1832 لمشاركة المعرفة، وأدت ممارسته للضغط السياسي إلى إصدار القانون الطبي سنة 1858 وتشكيل المجلس الطبي العام الذي يضم أطباء مسجلين ومنظمين في المملكة المتحدة حتى الآن.
لوبي المصالح
خلال العقود الماضية، تغير نمط جماعات الضغط، إذ باتت تلعب أدوارًا أخرى غير دورها “المثالي”، فهناك جماعات وشركات ولدتها الصراعات السياسية والدينية الموجودة في دول العالم لتصبح جماعات المصالح، خاصة مع الانفتاح العالمي، وتداخل سياسات الدول إلى حد كبير، وسعي بعض الدول في مناطق الصراعات في العالم إلى تجنب العقوبات التي قد تُفرض عليها، فسعت تلك الجماعات إلى إجبار الحكومات على اتخاذ مسار مختلف عن الديمقراطية والعدالة، مقابل المال.
لعل أبرز جماعات الضغط التي تمارس ذلك المسار، هي اللجنة الإسرائيلية الأمريكية للشؤون العامة، والمعروفة إعلاميا بـ”آيباك”، والتي تُعد أكبر جماعات الضغط في الولايات المتحدة، وتلعب دورًا قويًا في التأثير في السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، حتى أن بعضها تحول إلى شركات تنفق المليارات لتحقيق أهدافها.
لم يفوت رجال الأعمال والمؤسسات الدولية في شتى بلدان العالم تلك الفرصة لاستغلال الوضع لصالحهم، وتحقيق أهدافهم الاقتصادية وتفادي العقوبات التي قد تفرض عليهم جراء أنشطتهم المشروعة وغير المشروعة، فهناك مثلًا الاتحاد الكندي للأعمال المستقلة، اتحاد الصناعة البريطاني، وشركة نستله-Nestlé ومقرها في سويسرا، فضلًا عن مجموعات العمل مثل مجموعة IG Metall في ألمانيا، ومجلس نقابات العمال في المملكة المتحدة.
وتمتلك جماعات المصالح المؤسسية الخاصة والعامة وسائل الإعلام الإخبارية المختلفة، وخاصة الصحف، وكذلك الجامعات الخاصةـ، فضلاً عن مؤسسات الفكر والرأي ومراكز البحوث وخلايا التفكير– Think Tanks، مثل معهد بروكينغز– the Brookings في الولايات المتحدة ومعهد آدم سميث– the Adam Smith في المملكة المتحدة، ما يجعلها قادرة على تحويل القضية التي تدافع عنها إلى صالحها، فبالتأكيد صادفت خبرًا عن مقال في صحيفة أجنبية تشيد بأحد الأنظمة القمعية، أو يحاول تبرير واقعة “كارثية” قامت بها أحد الأنظمة في الشرق الأوسط.
نموذج أمريكا
في الولايات المتحدة الأمريكية يعد شارع “كي ستريت”، مقرًا رئيسيًا لشركات الضغط، والتي وصل عددها إلى 6500 شركة، وتضم حوالي 100 ألف موظف وتصل نفقاتها إلى ما يتجاوز حوالي 2.2 مليار دولار، فتشير تقارير إعلامية إلى أن تلك الشركات أهدت أعضاء الكونجرس الأمريكي والعاملين في مكاتبهم ما يزيد عن 20 ألف رحلة طيران خلال 5 سنوات.
وتبلور مفهوم “اللوبي” في الولايات المتحدة الأمريكية خلال عام 1830 عندما بدأت جماعات المصالح المختلفة تمارس الضغوط على الكونجرس والحكومات.
وتبرز من تلك الجماعات في الولايات المتحدة اللجنة الإسرائيلية الإمريكية، والتي نجحت في عام 1979 عقب يومين فقط من اجتماع مندوب الولايات المتحدة في الأمم المتحدة آندرو يونج بممثل منظمة التحرير الفلسطينية، في إزاحته من منصبه بعد حملة تشهير ورفض واسعة ضده بسبب لقائع فقط، فضلا عن تأثيرها الكبير في فوز أي مرشح لرئاسة أمريكا.
وتتصدر أيضا شركة “جولدمان ساكس” المشهد هناك، وله تأثير كبير هي أيضًا في السياسة، فوزير مالية الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون كان من الشركة، وكذلك وزير مالية جورج بوش الأبن، فضلا عن أن دعمها المالي الكبير لحملة باراك أوباما كان سببا رئيسيا لنجاحه، ليدعو أعضائها إلى البيت الأبيض في عامه الأول، ورغم صراعها مع الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب لدعمها هيلاري كلينتون، إلا أن الأول عين وزير ماليته من الشركة وعين رئيسها أيضًا مديرًا للبنك الاقتصادي الوطني، كما يلعب أحد موظفي الشركة السابقين دور كبير مستشاريه.
الأنظمة العربية
الأنظمة العربية لم تترك الفرصة، لتتسابق جميعها على نيل الدعم في أروقة الحكومات الأمريكية عبر التعاقد مع العديد من شركات الضغط، لمساعدتها في عقد لقاءات مع مسؤولين في الدولة، فضلًا عن إجراء لقاءات صحفية وإعلامية، وتقديم استشارات سياسية واقتصادية في بعض الأحيان.
قطر تُعد صاحبة الريادة في الوطن العربي في ذلك النشاط، إذ تدفع حوالي 1.7 مليون دولار أمريكي شهريًا، إلى شركات الضغط بعد أزمتها مع “مصر والسعودية والإمارات والبحرين” لتحسين صورتها، وتجنب عقوبات إدارة ترامب، بعد أن كانت تدفع لحوالي 4 شركات حوالي 300 ألف دولار شهريا، بحسب مجلة “بوليتيكو” الأمريكية.
مجلة “بوليتيكو” الأمريكية، أكدت في تقرير لها عام 2017، أن الدوحة تعاقدت مع العديد من الشركات، أبرزها: “ماكديرموت ويل آند إيمري، وأفينيو ستراتيجيس جلوبال، ونيلسون مولينز، وإنفورميشن مانيجمينت سيرفيسز، وليفيك”، ويمتلكهم عدد من المسؤولين الأعضاء السابقين في الحكومات الأمريكية المتعاقبة، والكونجرس.
السعودية هي الأخرى ليست بعيدة عن تلك النشاط، ففي تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، عام 2015، ذكرت أن الحكومة السعودية وسفارتها، بدأت منذ أكثر من 30 سنة، في التعاقد مع شركات علاقات عامة ومحاماة وضغط في الولايات المتحدة.
المملكة تمتلك العديد من التعاقدات الضخمة مع شركات الضغط، وتدفع سنويا ملايين الدولارات لها، لتحسين صورتها والدفاع عن مواقفها، مثلما حدث في واقعة إعدام رجل الدين الشيعي السعودي نمر باقر النمر عام 2016، فمثلا تدفع لشركة كورفيس، 14 مليون دولار سنويًا، وفي تقرير لموقع “The American Conservative”،
وذكر مركز السياسة المستجيبة “سي آر بي”، المتخصص في إحصاء الموارد المالية للحملات الانتخابية أن السعودية المرتبة الخامسة في سلم تدفق الأموال لشركات الضغط والعلاقات العامة في أمريكا عام 2017، في الوقت الذي أوضح فيه مدير مبادرة الشفافية في التأثيرات الأجنبية بمركز السياسة الدولية “بن فريدمان”، أن السعودية أنفقت قرابة 27 مليون دولار جرى تخصيصها لشركات الضغط وشركات العلاقات العامة، وهو تقريبا 3 أضعاف ما أنفقته الرياض عام 2016، كما ارتفعت النفقات إلى أكثر من 34 مليون دولار في الولايات المتحدة وحدها، حسب مركز “ريسبونسيف بوليتيكس”، وأشارت صحيفة “واشنطن بوست” إلى أن عدد تعاقدات المملكة ارتفع بعد مقتل خاشقجي من 20 إلى 25 شركة.
الإمارات، هي الأخرى ترتبط بعقود مع العديد من شركات الضغط، فكشفت دراسة صادرة في أكتوبر الماضي، عن مركز السياسة الدولية الأمريكي “منظمة غير ربحية مقرها واشنطن”، فإن الإمارات تدفع حوالي 20 مليون دولار لحوالي 20 شركة أمريكية مختلفة، ونظمت أكثر من 3 آلاف نشاط سياسي نيابة عن أبو ظبي.
مصر أيضًا ليست بعيدة، فمنذ عام 1989 حتى عام 2007 كان الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك متعاقدًا مع شركة “بانرمان”، ثم انتقل إلى شركة “سي إل إس” حتى عام 2009، بعقد بلغت قيمته 1.1 مليون دولار، نظير إجراء مقابلات مع أعضاء الكونجرس الأمريكي، وعقد لقاءات صحفية عالمية مع المسئولين الذي يختارهم مبارك.
وذكرت تقارير إعلامية، أن مصر استمرت في تعاقداتها، بعد ثورة 25 يناير عام 2011، حيث تعاقد المجلس العسكري مع شركات بقيمة نصف مليون دولار، وتعاقدت الحكومة المصرية عام 2013 مع شركة “جلوفر بارك”، بعقد يصل إلى 2 مليون دولار.
وكشفت صحيفة “المونيتور”، أن السفارة المصرية في واشنطن أنهت عقدها مع الشركة يوم 15 من يناير 2019، بعد 9 أيام من بث شبكة تلفزيون “سي بي إس” الأمريكية لحوار أجرته مع الرئيس عبدالفتاح السيسي عبر برنامجها 60 دقيقة، والذي أثار جدلا واسعا.