خلال مناقشات المؤتمر الزراعي الثالث الذي عقد بالقاهرة، في مارس 1949، خاطب رئيس مجلس النواب حامد بك جودة كبار ملاك الأراضي الزراعية في مصر وطالبهم بـ«تحسين أحوال عمال الزراعة الذين يعملون في أملاكهم».
جودة، دعا هؤلاء الملاك إلى إقامة «مساكن صحية للفلاحين كتلك التي يعنون بإقامتها لمواشيهم، وأن يهتموا بعلاج الفلاح إذا مرض كما يهتمون بعلاج مواشيهم إذا أصابها المرض».
بعد انتهاء أعمال المؤتمر بأيام، طرح الرجل الذي كان ينتمي لـ«الهيئة السعدية» نفس الأفكار تحت قبة البرلمان، وأثار قضية «صحة الفلاح المصري» والبؤس الذي تعانيه العمالة الزراعية نتيجة تدني الأجور، وتعرض معظمهم للعديد من الأمراض نتيجة لسوء التغذية والمساكن غير الصحية.
ووفقا لدارسة «ثورة 23 يوليو 1952 دراسات في الحقبة الناصرية»، التي صدرت عن «مركز الأهرام للدراسات» في الذكرى الخمسين لثورة يوليو، فأن أفكار جودة لم تلق آذانا صاغية، ولم يتفاعل معها المشاركون سواء في المؤتمر الزراعي أو تحت قبة المجلس الموقر، فهؤلاء في حقيقة الأمر لم يكن يمثلوا سوى مصالحهم ومصالح الطبقة التي ينتمون إليها.
ونتيجة لأن رئيس البرلمان نكأ جرحا لم تكن تلك الطبقة تقبل الاقتراب منه، تحركت الصحف المدعومة والممولة من كبار الملاك ضد رئيس البرلمان السعدي، وفتحت عليه النار، واتهموه بـ«الترويج لأفكار ومبادئ هدامة».
دراسة مركز «الأهرام» عرضت أيضا جانبا من مناقشات قانون التعليم الأول الذي طرح على البرلمان عام 1933، ونقلت مداخلات بعض النواب وآرائهم في تعليم أولاد الفقراء، «خطر اجتماعي هائل لا يمكن تصور مداه، لأن ذلك لن يؤدى إلى زيادة عدد المتعلمين العاطلين، بل يؤدى إلى ثورات نفسية»، قال أحدهم.
بينما طالب نائب آخر بأن يقتصر التعليم على أبناء الموسرين من أهل الريف، وعبر نائب ثالث عن خشيته من أن «يفسد التعليم أبناء الفلاحين، ويجعلهم يعتادون حياة المدينة، ويخرجون إلى حقولهم بالبلاطى والأحذية، ويركبون الدراجات، ويتطلعون إلى ركوب السيارات».
وعندما طُرح قانون التعليم الإلزامي للمناقشة مجددا تحت قبة البرلمان عام 1937، تحفظ العديد من النواب على تعليم أولاد الفلاحين العلوم والحساب والتاريخ والجغرافيا واللغات، وأبدى بعضهم تخوفه من إفساد التعليم للفلاح وهو ما سيؤثر بالسلب على الإنتاج الزراعي، «يجب أن يتعلم أولاد الفلاحين شيئا عن أدوات الزراعة ودودة القطن وكيفية مقاومتها»، قالها أحد النواب مبديا مخاوفه من أن يجد الفلاحين وقد «ارتدوا جلاليب مكوية وأحذية ملونة».
المناقشات التي أوردتها الدارسة بشيء من التفصيل كشفت عن مدى غياب الوعي الاجتماعي عند طبقة كبار الملاك المصريين والذين كانوا يهيمون على المشهد السياسي في تلك الفترة، فهؤلاء كانوا يرون إن إبقاء الطبقات الدنيا من المجتمع المصري في فقر وجهل ومرض أضمن لمصالحهم، وبالتالي وقفوا ضد معظم الحلول التي تم طرحها لعلاج بعض جوانب المسألة الاجتماعية.
الدراسة عرضت العديد من الأرقام المفزعة عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي للمصريين قبل ثورة يوليو، إذ كشفت أن نسبة المعدمين من سكان الريف تجاوزت الـ 80% قبل عام 1952، ووصلت نسبة البطالة إلى نحو 46%، بينما حققت معدلات المرض أرقاما قياسية حتى أن 45% من المصريين كانوا مصابين بالبلهارسيا.
هكذا كان حال معظم أبناء الريف الذين كانوا يمثلون أغلبية السكان، أما عن أهل المدن من عمال وأصحاب حرف، فلم تختلف أوضاعهم كثيرا، فبحسب الأرقام التي عرضتها الدراسة فكان الأجر اليومي للعامل مطلع ثلاثينيات القرن الماضي يتراوح ما بين 7-12 قرشا، بينما كان أجر العامل الفني يتراوح ما بين 20-30 قرشا، وأجر العامل الحرفي ما بين 6-8 قروش يومياً، وبلغ أجر الحدث خمسة قروش في الأسبوع، وعلى كل فأوضاع الفئة الأخيرة كانت أفضل من أحوال طبقة الفلاحين الذين لم يتعد أجرهم اليومي 3 قروش، وفقا لتقرير هارولد بتلر، خبير مكتب العمل الدولي.
ونتيجة لسوء توزيع الثروة وغياب المسألة الاجتماعية عن أجندة حكام وساسة تلك الفترة، تفاقمت الأوضاع تفاقما كبيرا، وليس أدل على ذلك من استمرار الهبوط في متوسط الدخل القومي للفرد من 9.6 جنيه في العام خلال الفترة 1935-1939 إلى 9.4 جنيه في العام خلال سنوات الحرب العالمية الثانية.
وأشارت الدراسة إلى أن 61% من الدخل القومي المصري كان يذهب إلى الرأسماليين وكبار الملاك، فقد قدر الدخل القومي عام 1945 بمبلغ 502 ملايين جنيه، ذهب منه ما يزيد على 308 ملايين جنيه على شكل إيجارات وأرباح وفوائد، بينما نجد متوسط أجر العامل الزراعي في العام لا يزيد على أربعة عشر جنيهاً وفق إحصاءات 1950.
هذه الأرقام وحدها لا تكفي للدلالة على تفاقم المسألة الاجتماعية، فقد قدرت مصلحة الإحصاء عام 1942 أن ما يلزم للأسرة المكونة من زوج وزوجة وأربعة أولاد لا يقل عن 439 قرشاً في الشهر، طعاماً وكساءً وفق الأسعار الرسمية لا أسعار السوق السوداء التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، ومع هذا، كان متوسط الأجر الشهري للعامل في عام 1942 لا يتجاوز 262 قرشاً في الشهر؛ أي أن الأغلبية الساحقة لعمال المدن كانت تعيش دون الحد الأدنى، أما عمال الزراعة فكانوا أسوأ حالاً، كما أسلفنا.
هذا في الوقت الذي ارتفعت فيه الأرباح الموزعة في الشركات المساهمة في مصر من 7.5 مليون جنيه عام 1942 إلى قرابة 20 مليوناً في عام 1946، ذهب أغلبها إلى جيوب الرأسماليين الأجانب وشركائهم الصغار من المصريين، كما ارتفعت إيجارات الأراضي الزراعية من 35 مليون جنيه عام 1939 إلى 90 مليوناً عام 1945 ذهب معظمها إلى جيوب كبار ملاك الأراضي الزراعية، فضلاً عما حققه هؤلاء من أرباح طائلة من وراء بيع المحاصيل التي أنتجتها أراضيهم التي كانت تزرع على الذمة.
طال البؤس كل مناحي حياة فقراء المصريين في النصف الأول من القرن العشرين، الذين لم يعرف عدد كبير منهم شكل الحذاء إلا لو تم تجنيده في الجيش، فالمصريون قبل ثورة 23 يوليو كانوا شعبا من الحفاة، وفق تعبير الدكتور يونان لبيب رزق الذي ذكره في مقال نشره بـ«الأهرام» عام 2007، تحت عنوان «مقاومة الحفاء في مصر».
روى المؤرخ الكبير كيف تبنى حسين سرى باشا، رئيس الوزراء، مشروعا قوميا لمقاومة الحفاء، بعد توليه رئاسة الحكومة، «تعهد في خطاب العرش بأن يرتدى المصريون النعال في أقدامهم مثل الدول المتقدمة».
وفى 2 مارس 1941 بشرت جريدة الأهرام المصريين بتكوين لجنة مركزية برئاسة عبد الخالق بك حسونة، وزير الشئون الاجتماعية، لوضع الخطط التفصيلية لشكل الحذاء المنتظر، وأطلقوا عليه اسم «الزنوبة»، وتقرر أن يتم توزيع الدفعة الأولى من تلك «الزنوبة» على تلاميذ وزارة المعارف في يوم عيد جلوس الملك، إلا أن شيئا لم يتحقق مما وعد به سرى باشا، وظل الشعب المصري يمشى حافيا في الشوارع.
استمر الحال على ما هو عليه إلى أن أعلن مصطفى النحاس باشا بعد توليه رئاسة الوزراء في 1950، في خطاب العرش عن مشروع قومي ضخم لـ«مقاومة الحفاء»، وسخرت جريدة «الزمان» لصاحبها إدجار جلاد من هذا المشروع بمقال تحت عنوان «يا ابن الحافية».
لم تكن مصر قبل ثورة يوليو جنة، ولا كان المصريون ينهلون من أنهار اللبن والعسل ويسكنون منازل ذات طراز معماري أوربي ويستمعون إلى الموسيقى «الكلاسيك»، كما يحلو لبعض رواد “السوشيال ميديا” أن يرددوا مع كل ذكرى للثورة، بل كان «البؤس» هو عنوان الشعب المصري الذي كان ينتمي معظمه إلى فئة «المعذبون في الأرض» الذى تحدث عنهم عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، في مجموعته القصصية الشهيرة.
قسم حسين المجتمع المصري في مجموعته إلى فريقين، أحدهما يمثل الأغلبية الساحقة البائسة التي تعاني الجوع والعرى والذل والهوان، وهؤلاء هم «المعذبون في الأرض»، أما الفريق الآخر فهم أقلية من الأثرياء تحيا في تخمة ونعيم.
أنصفت يوليو هؤلاء الفقراء الحفاة المعدمين، ونقلتهم من طبقة «المعذبون في الأرض»، إلى طبقة جديدة تمكنت بعد مرور سنوات قليلة على قيام «حركة الضباط» من الحصول على تعليم مجاني يبدأ من المرحلة الإلزامية وحتى الجامعية، وعلى وظائف في مشروعات ومصانع بأجور مناسبة مقارنة بأجور ما قبل الثورة، ومساكن صحية وعلاج مجاني في مستشفيات حكومية، كما عرف أبناء تلك الطبقة طريق السينما والمسرح والمكتبات العامة.
وفيما يعد نقلة نوعية في علاقات العمل التي ظل العمال يناضلون لتحسينها قبل الثورة، تم إقرار حد أدنى للأجور، وتحديد ساعات للعمل، وإشراك العاملين في مجالس إدارات الشركات والمؤسسات، والتوسع في الخدمات العامة، وتسعير السلع والخدمات الأساسية وإيجارات الأراضي الزراعية والمباني.
ساهمت يوليو في صنع طبقة متوسطة، وعلمت على تطوير قدراتها وإشباع احتياجاتها، اعتقاداً منها أنها الطبقة التي عانت وناضلت على مدار عقود، ومن حقها أن تحصل أخيرا على بعض من الكعكة التي ناضلت من أجلها، كان قادة الثورة مؤمنين بأن تلك الطبقة هي التي سترفع قواعد الدولة، وتحرس منجزات الثورة وأفكارها ومشروعها.
لكن رغم ما حققته يوليو على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، ألا أنها أخفقت في ملف الديمقراطية والتي تعد القاعدة الأساسية لبناء أي دولة مستقرة، فغياب التعددية والمنافسة وتداول السلطة وحصار الصحافة وعدم وجود معارضة حقيقية، كرس لدولة الفرد، وهمش المؤسسات التي من المفترض أن تراقب وتقييم ما تحقق، لذا فمع رحيل عبد الناصر قرر الفرد الجديد دفن منجز سلفه، ومضى السادات في عكس طريق ناصر دون أن يجد من يراجعه.
وعندما تكشفت خيوط انقلاب «الرئيس المؤمن» على مشروع الثورة وتوجهاتها، لم تقاوم الطبقة الوسطى محاولاته، رغم ما تحقق لها من مكاسب اجتماعية في عهد عبد الناصر، ساهم التهميش والإقصاء وعدم المشاركة في صناعة القرارات واتخاذها بطريقة أبوية فوقية، في صنع أغلبية غير مكترثة بما يجري في دوائر السلطة، وهو ما سهل على السادات مهمته.
ختاما.. فإن الهجوم السنوي على يوليو، ومحاولات طمس كل منجزاتها الاجتماعية والاقتصادية، دون الوقوف على حقيقة المجتمع المصري قبل الثورة، وكيف ساهمت تلك الثورة في تغيير أحوال غالبية المصريين، ما هو إلا محاولة لإهالة التراب على حقبة هامة في تاريخ مصر المعاصر، ونوع من أنواع الكيد الذي يمارسه خصوم الثورة من أبناء التنظيمات الإسلامية التي ناصبت الثورة العداء، يضاف إليهم بعض رجال الأعمال الذين تصطدم أفكارهم بتوجهات الثورة، فضلا عن رغبة بعض رواد «السوشيال ميديا» صناعة وركوب «تريند» المعركة السنوية، بالإضافة إلى هؤلاء المشوشين الذين اقتصرت معرفتهم بالتاريخ على ما قرأوه أو تعرضوا له في الإعلام والدراما.