“لتذهب حرية الرأي والإبداع إلى الجحيم”، هكذا يرى المحامون الذين نصبوا من أنفسهم أولياءً على الآخرين فهم ينتفضون دائمًا لمواجهة أمور عدة منها الدينية والفنية والسياسية وغيرها، حتى وإن كانت تلك الأمور لا تمسهم بشكلٍ شخصيّ، فهم يرون في أنفسهم حماة للوطن والمجتمع حتى وإن كان ذلك دون وجه حق.
توالت القضايا التي بادر عددًا من المحامين في رفعها خلال السنوات القليلة الماضية، فمنها من حفظته النيابة العامة، ومنها من أودت بالبعض داخل السجون، ولم يكن الأمر بالجديد فمهنة ” المحتسبة قد عرفها التاريخ”، فقد تغيرت الظروف والاتهامات والوقائع لكن الأمر ظل متشابهًا كثيرًا.
المحتسبون الجُدد
هؤلاء المحامون أطلق عليهم “المحتسبون الجُدد”- وفقًا لدراسة أعدتها الشبكة العربية لحقوق الإنسان، و”الحسبة” لم يعرفها نبي الإسلام أو خلفائه الراشدين، وأنها منصب مستعار من الدولة البيزنطية، شأنها في ذلك شأن الكثير من نظم الإدارة التي استعارها العرب من البيزنطيين والفرس، حيث أنهم لم يكن لهم خبرة سابقة في إدارة الدول، وكان عليهم، عقب الغزوات العربية، اللجوء لنظم إدارة مستمدة من الدول المحيطة الأكثر خبرة وحداثة.
ومثلها مثل كل الوظائف والمهن البائدة، تلاشت مهنة الحسبة رويدًا، حتى حلت أجهزة الدولة محلها تمامًا.
ووفقًا لدراسة أعدها الكاتب الصحفي حلمي النمنم، فقد كان القصد من الحسبة حينها هي مواجهة الفساد الاقتصادي والإداري، لكنّ في عصرنا الحديث بات المحتسبون الجدد في مصادرة لحرية الكتاب والمبدعين، فقد توالت الدعاوى القضايا التي تتهم الكتاب والفنانين بالمساس بالذات الإلهية والدعوة إلى الانحلال أو الترويج للإلحاد، فإن نجحت القضية كان بها، وإن لم تنجح يكون التشهير قد تم بالكاتب والمبدع، ومست تلك القضايا رموز الإبداع في ثقافتنا، أو ما يطلق عليهم القوة الناعمة في مصر، فوجدنا دعاوى قضائية ضد الفنان محمد عبد الوهاب، والكاتب الكبير نجيب محفوظ، وغيرهم من الكتاب والفنانين والمبدعين.
وعقب 2013 ظهر المحتسبون في ثوبهم الجديد فقد أضافوا سمات أخرى غير التي اشتهروا بها، فقد يزايدون بالوطنية، والأخلاق، والدين أيضًا، يلاحقون من يتحدث بشكل يخالف آرائهم.
حل “قومي الإنسان” وتمويل ساويرس لـ”الإخوان”
يكفي أن تضع أسماء المحامين الذين سوف يتم ذكرهم خلال السطور القادمة على محركات البحث لتتفاجأ بوابل مع البلاغات تقدموا برفعها من تلقاء أنفسهم خلال السنوات الماضية وحتى الأن، ولم تقتصر تلك البلاغات على فئة معينة أو اتجاه سياسي معين، فقد طالت تلك البلاغات الجميع في كل الاتجاهات، وأحيانا بشكل عشوائي.
أطلق المحامي سمير صبري، على نفسه لقب “محارب الفساد والفاسدين” على صفحته الرسمية على صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك، وتفاخر” محارب الفساد” عبر عددًا من القنوات الإخبارية، بأنه قد تقدم بأكثر من ٢٩٠٤ بلاغات، و٢١٠٠ قضية.
وكانت آخر بلاغاته تلك التي قدمها ضد الشيخ الدعوي مبروك عطية، حيث اتهمه بالتشجيع على جريمة التحرش والاغتصاب.
رغم أن دكتور مبروك عطية، لم يذكر في حديثه عن التحرش سوى أن لبس الفتاة، ليس مبررًا للتحرش وأن التربية السليمة والمجتمع لهم دورًا رئيسيًا في مكافحة التحرش.
ولمحامي الفساد رصيدًا كافيًا من هذا النوع من البلاغات والقضايا ما جعلت اسمه يلمع في سماء “المحتسبون”، ومن أبرز تلك البلاغات ما قدمه في إبريل الماضي ضد الطالبة الجامعية حنين حسام، متهمًا إياها بهدم القيم الأسرية بعدما ذاع صيتها على موقع ” التيك توك” وهو أحد مواقع السوشيال ميديا.
وقضت المحكمة الاقتصادية بحبس الفتاة الجامعية سنتان وغرامة قدرها 300 ألف جنيه.
وفي فبراير من العام الماضي، تقدم “صبري” ببلاغ لحل المجلس القومي لحقوق الإنسان، لأنه يهدر عقوبة القصاص، على خلفية تدوينه لعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان ناصر أمين، قال فيها إن: “الإعدام عقوبة قاسية ولا إنسانية يجب أن يتم العمل على إلغائها”.
وفي مايو لعام 2015 تقدم المحامي ببلاغٍ للنائب العام يتهم فيه عائلة ساويرس بتمويل جماعة الإخوان المسلمين.
وفي مايو من العام الماضي، أعلن الدكتور سمير صبري عن ندمه لسحبه البلاغ الذي كان قدمه في الفنانة رانيا يوسف، على إثر ارتدائها ثوبًا اعتبره المحامي فاضحًا، مؤكدًا أنه سحب البلاغ استجابة لعواطفه، لكن يبدو أن الفنانة لم ترتدع ولم تقدر موقفه المتسامي معها، فقامت بارتداء العديد من الأزياء “الفاضحة” بعد سحبه البلاغ – وفقا لتصريحاته.
أغلب البلاغات والقضايا لم تستجب لها النيابة العامة وكانت تحفظ، لكن أشهر القضايا التي تم التحقيق فيها ومن ثم تحويلها إلى ساحات القضاء ذلك البلاغ الذي قدم في المحامي الحقوقي ” خالد علي” بتهمة عمل فاضح في الطريق العام على إثر صورة – لم يتم التأكد من صحتها – نشرت للمحامي خالد علي، عقب صدور الحكم بمصرية الجزيرتين. وإصدار حكم ضد المحامي الحقوقي بالسجن 3 أشهر مع إيقاف التنفيذ.
مرشحان رئاسيان متهمان بإثارة الرأي العام
لم يختلف مسار المحامي محمد حامد سالم، كثيرًا فقد تطوع أيضًا لتقديم عددًا من البلاغات التي تنوهت أهدافها ما بين السياسية والرياضية، وغيرهما.
في مايو من عام 2018- تقدم “سالم” ببلاغٍ ضد رئيس مجلس إدارة النادي الأهلي، الكابتن محمود الخطيب، يتهمه بـ”الكسب غير المشروع”، وتلقي أموالاً من آل شيخ إلا أن هذا البلاغ لم يتم تحريكه.
وفي ديسمبر من عام 2017، تقدم ذات المحامي ببلاغٍ ضد الفريق أحمد شفيق، المرشح الرئاسي الأسبق، متهمًا إياه بـ”إثارة الرأي العام”، إلى نيابة أمن الدولة العليا.
تقدم المحامي المذكور بعدة بلاغات ضد حمدين صباحي، المرشح الرئاسي السابق، كان منها بلاغ يتهم “صباحي” بـ”التحريض على الدولة”، مطالبًا بإيداعه مستشفى الأمراض العقلية.
انقلب السحر على الساحر
على الرغم من توافق مسار المحامي أيمن محفوظ، عن سابقيه في تقديم البلاغات، لكنه تفوق عليهم في المستهدف من البلاغ، فقدم بلاغ في الدكتور سمير صبري، يتهمه بتزوير شهادة الدكتوراه.
“محفوظ” أحد المحامين الذين لا يكفون عن تقديم البلاغات، وأغرب بلاغاته كانت ضد فنانة سجلت رسالة صوتية لصديقتها ونشرتها على العام بالخطأ، مرورًا ببلاغ يطالب فيه بمصادرة مكتبة الفنان الراحل حسن كامي، والتي كانت محل نزاع بين محامي الفنان الراحل وأسرته، وغيرها من البلاغات.
ضد الحقوقين
أما المحامي طارق محمود، تخصصت بلاغاته في ملاحقة العاملين في المجتمع المدني، واستهدفت بلاغاته عددًا من الحقوقيين كان من بينهم محمد زارع، مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ومحمد لطفي، المدير التنفيذي للمنظمة المصرية للحقوق والحريات، وجاسر عبد الرازق، المدير التنفيذي للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
المرأة الحلقة الأضعف
من جانبها، رأت المحامية الحقوقية عزيزة الطويل، أن إقبال بعض المحامين على تقديم البلاغات يأتي من قاعدة حق التقاضي وطلب الشهرة، ونص قانون العقوبات كل من علم بوقوع جريمة من حقه الإبلاغ عنها.
وتضيف:” لكن يحدث إساءة في استخدام هذا الحق، وأن ما يحدث هو قضايا حسبة مناهضة للحريات، مثل: غلق مواقع استهداف أشخاص سياسية، وحقوقية، وفنية، ومبدعين، وغيرهم”، بالإضافة إلى القضايا التي تستهدف النساء باعتبارهم الحلقة الأضعف في المجتمع وهذا ما حدث مع فتيات “التيك توك”، ومن قبلهم الفنانة رانيا يوسف”.
وأشارت المحامية الحقوقية إلى أن البلاغات المتعددة التي تقدم بها المحامي سمير صبري خلال السنوات الماضية والتي لاقت اهتمامًا انتهى بعضها في ساحات المحاكم، والبعض الآخر بـ”الحفظ”، دون التحقيق في تهمة البلاغ الكاذب.
وتابعت أن نقابة المحامين تمر بأزمة وخاصة في الفترة الأخيرة، فقد فقدت دورها كبوصلة وكرقيب تتابع مهنية وأداء المحامين، بدليل أن هناك محامي شهير صدر في حقه حكم قضائي نهائي بعد تصريحاته المهينة للنساء، وحتى الآن مقيدًا بجدول النقابة ولم يتم شطبه.
فيما قال ياسر أسعد، المحامي في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أن حق التقاضي كفله الدستور لكل المواطنين، لكن الأصل في مهنة المحامي هو أن ينوب عن الآخرين والدفاع عن المواطنين وليس تقديم البلاغات فيهم، وبالتالي استسهال المحامين في تقديم البلاغات لم يحدث إلا خلال السنوات الماضية، قبل ذلك كل هذه الأمور لم تلق قبولا من قبل النيابة العامة منذ إلغاء الحسبة في الثمانينات.
ويرى “أسعد “أن المحامين يلجأون لهذا الأمر نكاية في المختلفين معهم ممن يؤمنون بحرية الفكر والإبداع بالإضافة إلى سعي بعضهم للشهرة.