قبل عام تقريبا وصف البنك الدولي الوضع في لبنان بأنه من أصعب ثلاث أزمات عالميا منذ منتصف القرن التاسع عشر. فبعد تلقي ضربة كورونا التي هوت بقطاع السياحة شهد لبنان انفجار مرفأ بيروت المصنف ضمن أكبر الانفجارات غير النووية في تاريخ البشرية. وجاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتكمل ثالوثًا هوت معه العملة اللبنانية وارتفع معدل التضخم والبطالة لمستويات قياسية.
تواجه بيروت حاليًا ارتفاعًا كبيرًا في مستوى التضخم بـ211% خلال شهر مايو/أيار 2022. مقارنة بمايو/أيار السابق عليه. وقفزت مجموعة المواد الغذائية والمشروبات غير الروحية بـ363.7%. والصحة بـ468% والنقل بـ515%. وفي الوقت ذاته خسرت العملة المحلية “الليرة” 95% من قيمتها منذ منتصف عام 2019.
ويشهد لبنان حاليًا سعرين للصرف أحدهما رسمي عند 1507 ليرات للدولار الواحد. وآخر في السوق السوداء عند مستوى 38.5 ألف ليرة للدولار الواحد. رغم توقف البنوك عن السماح للمودعين بالدولار بالحصول على أموالهم بالدولار. وحال توفيرها بالعملة المحلية يتم احتساب العملة الأمريكية بسعر صرف 8 آلاف ليرة للدولار فقط. ما اضطر بعض المودعين لاقتحام البنوك للحصول على ودائعهم.
كوارث
في 2020 ارتفع معدل الفقر إلى 45% في لبنان. والفقر المدقع إلى 22%. بينما تشير التقديرات إلى أن نحو 1.7 مليون لبناني قد أصبحوا تحت خط الفقر. منهم 841 ألفا دون خط الفقر الغذائي. ويبلغ عدد اللبنانيين 6 ملايين نسمة.
أما البطالة فقد تفاقمت في البلاد مع توقف نشاط القطاع الخاص. فـ20% من العمال فقدوا وظائفهم منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019. ومع غياب إعانات البطالة ومحدودية شبكات الأمان الاجتماعي المتاحة للعمال المُسرَّحين من أعمالهم في لبنان فإن النتائج ستكون كارثية.
تشير الإحصائيات إلى أن خُمس الشركات التي شملها مسح للبنك الدولي قد تأكَّد إغلاقها أو يُفترض أنها أُغلقت بشكل دائم. بينما تعتقد ربع الشركات أن تحقيق التعافي “غير ممكن”. وأنها قد تتأخَّر في السداد وتتخلف عن الوفاء بالديون المستحقة عليها.
مع الأزمات الاقتصادية خفضت 61% من الشركات العاملة في الاقتصاد الرسمي التي شملها المسح عدد العمال الدائمين لديها بنسبة 43% في المتوسط. كما خفضت 13% منها الرواتب بنحو 45%. كما انخفض الحد الأدنى للأجور -البالغ 675 ألف ليرة لبنانية- من حيث القيمة حال مقارنته بالدولار.
بحسب دراسة لإدارة الإحصاء المركزي في لبنان ومنظمة العمل الدولية فإن 30% من العاطلين عن العمل يبحثون عن عمل لفترة تزيد على عامين. و19% لفترة تمتد بين عام وعامين. ما يعني أن نصف العاطلين عام 2022 يمكن تصنيفهم ضمن البطالة طويلة الأمد التي تزيد على 12 شهرا.
نخبة فاشلة
البنك الدولي يشير إلى أن إجمالي الناتج المحلي الاسمي هوى من 52 مليار دولار في 2019 إلى مستوى 21.8 مليار دولار في 2021. وذلك بانكماش قدره 58.1%. وحال استمرار التقاعس في إصلاح السياسات المالية والنقدية فمتوقع أن ينكمش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 6.5% عام 2022.
بحسب ساروج جاه -المدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي- فإن لبنان أضاع وقتا ثمينا والعديد من الفرص لتبنِّي مسار لإصلاح نظامه الاقتصادي والمالي.
يقول ساروج جاه -في انتقاد عنيف لسياسيي لبنان- إن التأخير المتعمد في معالجة أسباب الأزمة ينطوي على تهديد ليس على المستويين الاجتماعي والاقتصادي فحسب. وإنما يشمل خطر إخفاق منهجي لمؤسسات الدولة وتعريض السلم الاجتماعي الهش لمزيد من الضغوط.
المؤسسات الدولية ترى أن أزمة لبنان مرتبطة في المقام الأول باستيلاء طبقة سياسية على السلطة تحت ستار الطائفية. والتعرض للصراع والعنف. وقد أوجدت هذه المعوقات نظاماً سياسياً هشاً قاصراً ودولة عاجزة عن عزل الصراع السياسي عن قدراتها على الحكم وممارسة السلطة. ما سبب تآكلا لقدرات نظم الحوكمة الرشيدة.
على مدار عقود تم توظيف المالية العامة في لبنان كأداة لسيطرة ممنهجة على موارد البلاد. فساعدت على خدمة مصالح نظام اقتصاد سياسي متجذِّر. واستُخدِم التراكم المفرط للديون لخلق وهم الاستقرار وتعزيز الثقة بالنظام المالي الكلي. حتى يستمر جذب الودائع.
وأدى الكساد الذي كان متعمداً خلال الأعوام الثلاثين الماضية إلى إفراغ الدولة من قدراتها على تأمين الخدمات الأساسية للمواطنين.
الديون
تجاوز حجم الدين العام 150% من الناتج الإجمالي في لبنان. ليكون بذلك من أعلى معدلات المديونية في العالم. لكن نائب رئيس الوزراء اللبناني سعادة الشامي وعد دائني لبنان في اجتماع قبل شهور بخفض الحكومة الدين العام إلى نحو 100% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2026. وإلى 75% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2032.
خطة البنك الدولي
يطالب البنك الدولي لبنان باعتماد خطة ذات مصداقية لتعافٍ شامل ومنصف لتحقيق الاستقرار المالي الكلي. وتسريع وتيرة تنفيذها لتفادي دمار كامل لشبكاته الاجتماعية والاقتصادية. وإيقاف الخسائر التي لا يمكن تعويضها في رأس المال البشري.
الاستراتيجية المقترحة من قبل البنك ترتكز على إطار جديد للسياسة النقدية يكفل استعادة الثقة والاستقرار في سعر الصرف. وبرنامج لإعادة هيكلة الديون لتحقيق حيز للإنفاق في إطار المالية العامة في الأمد القصير والقدرة على الاستمرار في تحمل أعباء الدين في الأمد المتوسط.
كما تتضمن إعادة هيكلة شاملة للقطاع المالي لاستعادة قدرة القطاع المصرفي على الوفاء بالالتزامات. وضبط أوضاع المالية العامة على نحو تدريجي منصف لاستعادة الثقة بالسياسة المالية العامة وإصلاحات تهدف لتعزيز النمو والحماية الاجتماعية.