يمثل التعليم بشكل رئيس وأساسي قاطرة نهضة الأمم، ولا حديث لأي نوع من التطور والنمو، دون أن يصاحب ذلك حديث مسبق عن الاهتمام بالتعليم بشكل كامل، ودون أن تصاحب ذلك سياسات حقيقية تسعى على تطوير المنظومة التعليمية بشكل مستمر، وبما يتناسب مع التطورات العلمية الحديثة على مستوى العالم، وإلا لبتنا في أواخر ذيل قائمة التطور، ولصار حالنا كما هو عليه الآن من تدني ترتيب الدولة المصرية في قائمة التعليم على مستوى العالم.
اقرأ أيضا.. الانحياز إلى المصلحة الفضلى للأطفال
ويمثل التعليم وتطوير برامجه وقدرته على تقديم مُخرجات جيدة ومُتمكنة ترفد سوق العمل ومؤسساته المختلفة، لا يقف عند حدود وعتبة هذا القطاع، وإنما تتعدَّاه ليشمل النجاح والتطوُّر مُختلف القطاعات الأخرى، مما يمهِّد لمستقبل أكثر ازدهارا وتقدُّما وإشراقا في البلد الذي حقَّق ذلك النجاح؛ فبالتعليم تتقدَّم الشعوب، وتزدهر البلدان، وتنشأ الحضارات، وتتَّسع وتسعد الأمم، وتُحل مشكلات البطالة والجهل والتخلف والفقر، وتحقِّق القطاعات الاقتصادية والإدارية والخدمية والاجتماعية ازدهارا وتقدُّما ونموًّا مُتواصلا، ومَنْ يَبْحث في سرِّ وأسباب تحقيق العديد من الدول نجاحات مُرضية ومُؤشرات مُرتفعة في هذه القطاعات، وتبوُّئها مكانة في مصاف الدول المتقدمة، يصل إلى حقيقة أنَّها امتلكتْ كفاءات بشرية وخبرات مُتخصِّصة حَصَلت على أفضل أنواع التعليم والتدريب والتأهيل، وعلى أنَّ حكومات هذه الدول استثمرتْ بما يكفي من الجهود والأموال في قطاعات التعليم والتدريب، وتمكَّنت في المقابل -بفضل سياساتها- من استقطاب كفاءات وخبرات وعلماء متميزين من بلدان أخرى بعد أن وفَّرت لهم البيئة المناسبة، والتشجيع الكافي والدعم السَّخي ورفعتْ مكانتهم العلمية والإنسانية.
وهناك دول كثيرة كنا نسبقها في الخمسينات والستينات حققت إنجازات وطفرات اقتصادية هائلة بفضل الاهتمام بالتعليم، فتجربة سنغافورة خير دليل، ففي مجال التعليم تعتبر تجربتها من التجارب الرائدة، فقد أدركت منذ عقود أن التعليم هو شرط من شروط النهضة وعكفت على تصميم المناهج وتطوير طرق التدريس بما يتواكب ومتطلبات العصر، وأولت اهتماما بالغا لإعداد الأساتذة الإعداد الجيد وتأهيلهم بما يتناسب مع تكوين وبناء الإنسان، ليس فقط الإنسان القادر على المساهمة في صنع المستقبل، ولكن أيضا القادر على المنافسة في السوق العالمي، ولم يقف الأمر عند هذه الدولة، بل إن هناك العديد من الدول قد أصبحت من دول المقدمة في ترتيب تصنيف جدول التعليم مثل الإمارات.
وعلى الرغم من كون الدستور المصري الأخير قد أقر تخصيص نسبة 4 % على الأقل من الناتج القومي للإنفاق على التعليم الحكومي، وكذلك تخصيص نسبة 2% على الأقل للإنفاق على التعليم الجامعي، على أن تتصاعد هذه النسب تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية. وإن كنت أرى أن هذه النسب في حالة افتراض التزام مؤسسات الدولة بها كما جاء بالنصوص الدستورية غير كافية أو مناسبة للنهوض بالمسألة التعليمية بالغة الخطورة على مستقبل الوطن، إلا إنني أشك أنها تتحقق فعليا. هذا بخلاف ما جاء فيه من النص على أن تحفز الدولة التعليم الفني وتسعى إلى تطويره والتوسع فيه، كما جاء في الدستور كذلك النص على استقلال الجامعات وتوفير التعليم الجامعي، ذلك بخلاف ما جاء النص عليه في الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان من كفالة الحق في التعليم صونه، فمثلا فقد جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بنصه في المادة عشرين منه على أن “لكل شخص الحق في التعليم، ويجب أن يتم توفير التعليم مجانا على الأقل في مرحلتيه الابتدائية والأساسية. ويكون التعليم الابتدائي إلزاميا، ويكون التعليم الفني والمهني متاحا للعموم، ويكون التعليم العالي متاحا للجميع تبعا لكفاءتهم، وقد سار على ذات النهج العهد الدولي الخاص بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية.
ويعد الحق في التعليم، في حد ذاته، حقا مؤسسا لباقي حقوق الإنسان، فهو وسيلة لا غنى عنها لإعمال حقوق الإنسان الأخرى. فالتعليم، بوصفه حقا مؤسسا، يعتبر الأداة الرئيسية التي يمكن بها للكبار والصغار، ذكورا ونساءً، والمهمَّشين اقتصاديا واجتماعيا، أن ينهضوا بأنفسهم من الفقر وأن يحصلوا على فرصة المشاركة الكاملة في مختلف مناشط مجتمعاتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية.
ومن أهم مفردات الحق في التعليم، تمكين وصول الجميع إلى التعليم من خلال ضمان عدم التمييز بين الأفراد على أساس العرق أو الجنس أو الموقع الجغرافي أو الجنسية أو الإعاقة وغيرها؛ فيجب أن تكون المؤسسات التعليميّة متاحة لجميع الفئات، وآمنة وقريبة من المجتمعات لتسهيل عملية الوصول إليها بهدف أن يكون التعليم في متناول الجميع.
ونحن على عتبات عام دراسي جديد، فماذا أعدت الدولة المصرية لاستقبال العام الدراسي، وماذا طورت، وكيف استجابت للصرخات المتوالية من الآباء على ما كان من رعونة وعدم دقة في التعليم الثانوي، وفي أعمال التصحيح ورصد الدرجات؟
هل من جديد في هذا الشأن سوى تغيير منصب وزير التعليم، أعلم جيدا أن تطوير التعليم والاتجاه نحو التعليم التكنولوجي أمر مطلوب، لكن لابد من توفير إمكانياته ومستلزماته كاملة قبل الخوض فيه، وأرى أن أهم تلك المتطلبات تكمن في تجهيز المعلمين وتدريبهم، وأيضا تحسين دخولهم، والبنية الأساسية للمدارس، بما يسمح ويضمن نجاح تلك التجربة.
لكن أن تسعى الدولة إلى خصخة التعليم وجعله كسلعة تنافسية ما بين الجامعات الأهلية والخاصة، وكذلك الأمر ما بين المدارس، ذلك أمر لا يعود بنتائج صحية على حالة التعليم في مصر، ذلك لكونه بشكل أساسي يهدم مبدأ تكافؤ الفرص، ولا يعول على كفاءة الطلاب، وإنما تكون التفرقة الرئيسية لمن يملك الثمن.
فهل لنا أن نحذو حذو الدول التي أعطت التعليم أولوية واهتماما كبيرا، عسى أن تحظى الأجيال المقبلة بما لم نحظ به، فلعلها تدفع بمصر إلى مصاف الدول المتقدمة.