يبدو أن الموقع الجيوبولتيكي للسودان يجعل الإقليم المحيط به بامتداده الإفريقي والعربي مهتما به ومتدخلا في تفاعلاته، خصوصا بعد تصاعد الأهمية الاستراتيجية لكل من البحر الأحمر، ومسألة مكافحة الإرهاب وكذلك ظهور سد النهضة كمعطى إضافي، وقد برزت الأدوار الإقليمية في المشهد السياسي السوداني منذ عام 2015 وذلك بعد تأزم الحالة السياسية السودانية لسببين: الأول الانتفاضة الشعبية التمهيدية في السودان في سبتمبر 2013 والتي راح ضحيتها حوالي 200 شخص وتصاعد رائحة فساد النخبة الحاكمة إلى درجة أن بعض المنتسبين للجبهة القومية الإسلامية قد انشقوا عنها، وفضحوا ممارسات النظام السياسي، على نحو مؤثر ومهين.
وقد تبلور الدور الإقليمي في هذا التوقيت بالأساس في حدود دول الخليج خصوصا دولة الإمارات، وذلك بتنسيق ما مع القاهرة، حيث تمت محاولات لإقناع الرئيس السابق عمر البشير بخروج آمن له ولمعاونيه يضمن انتقالا سلسا للسلطة لا يؤثر على الدولة ولا عافيتها في مواجهة مخاطر وجود قوى مسلحة متنوعة في أنحاء السودان، لها تداعيات سلبية بالضرورة على استقراره، ومهددة لاستمرار الدولة في آن واحد.
مقاومة الرئيس البشير لهذا السيناريو أنتج ثورة ديسمبر 2018، وهي الثورة التي كان فيها الإقليم فاعلا أحيانا بأدوار مستقلة وأحيانا أخرى بأدوار تابعة للغرب عموما وللولايات المتحدة الأمريكية خصوصا.
في هذا السياق ربما يكون من المهم التعرض للسياسات المصرية في السودان وقياس أهميتها النسبية ومدى تأثيرها الراهن على المعادلة السودانية من ناحية، وكذلك مدى قدرتها على ممارسة اختراق للوضع السياسي المأزوم.
التحليل المتأني للسياسات المصرية في السودان يقود إلى أن هذه السياسيات متأثرة بطبيعة النظام السياسي المصري منذ عام 1952 من ناحية، وكذلك طبيعة المتغيرات التي طرأت عليه بعد محاولة اغتيال الرئيس مبارك بتخطيط سوداني من ناحية أخرى.
وبطبيعة الحال تملك هذه السياسات عددا من المحددات الحاكمة للأداء المصري وهو ما يؤطر طبيعة الأدوات والآليات التي يتم اللجوء إليها، ومن هذه المحددات: أن استقرار دولة السودان له أهمية استراتيجية كبرى لمصر، فضلا عن أن قيام هذه الدولة بوظائفها له نفس الدرجة من الأهمية الاستراتيجية حتى لا تكون دولة من الضعف بحيث تساهم في رفع مستويات التهديدات الأمنية والديمغرافية لمصر، كما أن تقارب المواقف المصرية السودانية هو مسألة مطلوبة في أزمة سد النهضة، خصوصا والأمن المائي لكلا البلدين عموما.
وربما يكون من المهم الإشارة ضمن هذه المحددات إلى حقيقة أن امتلاك مصر لخبرة تاريخية في التفاعل مع كل القوى السياسية السودانية وامتلاك علاقات مستمرة مع النخب السياسية سواء في الحكم أو المعارضة، قد أنتج معرفة عميقة بحالة السودان وتفاعلاته الداخلية، وكذلك تخوفا من الارتدادات وحالات عدم الالتزام بالمواثيق التي تمارسها القوى السياسية السودانية في علاقاتها مع مصر، وذلك كله تحت مظلة التوازنات الحرجة للمصالح المصرية في بيئة سياسية سودانية متغيرة تمارس في أغلب الأحيان تحولات حادة.
في هذا السياق فإن الدور المصري في السودان هو دور مقتصر تقريبا على المؤسسات السيادية المصرية اتساقا مع طبيعة وآليات نظام دولة يوليو والتي قد نجد أنها ربما تكون تحتاج إلى تطوير في هذه المرحلة نظرا لتقادمها، ومحدودية فاعليتها على المستويين الداخلي والخارجي، كما أن هذا الدور يأخذ بعين الاعتبار تصاعد المهددات الأمنية في كل دول الجوار المباشر لمصر، حيث ساهم الجوار السوداني تحديدا وبشكل فعال في أن يتم تصاعد دور الأجهزة السيادية المصرية في الملف السوداني بعد محاولة اغتيال الرئيس الأسبق حسني مبارك عام 1995 وذلك وفق مخطط من فاعلين مؤثرين في الدولة السودانية، وهو التطور الذي ساهم في أن يتحول السودان إلى دولة مهددة للأمن المصري، وذلك بعد معرفة طبيعة مشروع د. حسن الترابي مؤسس الجبهة القومية الإسلامية في التمدد الإقليمي في كل من مصر وشرق إفريقيا وقيادته لتنظيمات الإسلام السياسي في المنطقة عبر المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي في تسعينيات القرن الماضي، وحالة التهديد هذه ممتدة حتى وقتنا الراهن نتيجة حالة التشظي التنظيمي للحركات السودانية المسلحة وانتشارها الجغرافي الواسع بالسودان.
وبطبيعة الحال يتأثر هذا الدور بخبراته التاريخية، خصوصا في مؤسسات تتوارث تقديراتها الاستراتيجية، حيث عانت مصر من نوع من أنواع نقض المواثيق الذي مارسته القوى السياسية السودانية، وذلك بعد أن مارس الحزب الاتحادي نوعا من أنواع نقض المواثيق بإعلانه استقلال السودان من البرلمان عام 1956 بالمخالفة لاتفاقية تقرير المصير المعقودة 1953 التي كانت تقضي بتنظيم استفتاء شعبي.. كما تبنى حزب الأمة إلغاء اتفاقية التكامل بين مصر والسودان التي عقدها نميري والسادات في سبعينيات القرن الماضي، كما حول الحزبين الكبيرين موضوع الأمن المائي للبلدين إلى موضوع تنافسي بين الحزبين في خمسينيات القرن الماضي ولم ينتبها إلى أهميته الاستراتيجية للدولة السودانية ولحساسيته البالغة للشعب المصري وليس للنظام السياسي فقط.
ولم يتأخر نظام البشير أيضا عن أداء أنواع من التحالفات الإقليمية الانتهازية للضغط على مصر، منها تحالف مع إيران وآخر مع إثيوبيا في إطار اتفاقات دفاع مشترك كما جرى في نهايات عهده.
وإجمالا نستطيع القول إن التفاعلات المصرية في السودان تحت مظلة هذه المحددات سالفة الذكر، تتسم بالبطء خصوصا في مراحل التحولات الثورية، فلم يتم تقدير أن نظام البشير قد انتهى في التوقيت الصحيح، كما أن قبول التحول الثوري المنتج لنخب سياسية جديدة في أي بلد مجاور لمصر يملك حساسيته لدى الأجهزة السيادية المصرية نظرا لأن موقفها من ثورة يناير جاء سلبيا بسبب استفادة تنظيم الإخوان المسلمين من هذه الثورة وسعيه لتقويض مؤسسات الدولة المصرية فعانت مرحلة من التخبط والضعف.
لاحقا تم تصحيح الموقف المصري من السودان على مستوى الخطاب السياسي المصري الرسمي بمقولة احترام خيارات الشعب السوداني، وكذلك في التفاعل المصري الرسمي مع القوى السياسية السودانية بزيارات مكوكية لممثلي الرئيس السيسي في الملف السوداني والتأكيد على أن مصر يهمها الاستقرار السوداني دون النظر لمن يحكم السودان ولكن الأهم بالنسبة لمصر هو كيف يتم حكم السودان للحفاظ على دولته، وهو ما قد لقي ترحيبا من القوى السياسية السودانية.
على الصعيد العملياتي، مارس الأداء المصري تفاعلا إيجابيا بالمكون العسكري الذي امتلك رموزا وعناوين يمكن مخاطبتها، خصوصا رئيس المجلس السيادي الفريق عبد الفتاح البرهان، الذي درس دورات عسكرية متقدمة في أكاديمية ناصر العسكرية، وذلك مقارنة بالمكون المدني الذي افتقد الرموز والعناوين بسبب انقساماته. وهو الأمر الذي ساهم في تصاعد المخاوف المصرية، ففضلا عن خبرة نقض العهود من جانب القوى السياسية السودانية إزاء مصر، وأيضا طبيعة الخطاب العدائي من النشطاء السياسيين الشباب ضد مصر حكومة ونخبة، فإن المكون المدني بشكل عام لم يقدم تطمينات لا لمصر ولا للإقليم بشأن مستقبل الدولة السودانية وطبيعة العلاقات مع الإقليم خصوصا في ضوء الانقسامات السياسية والعرقية بالسودان.
وإلى جانب مشكلات الواقع السوداني داخليا وتعقيداته إزاء مصر، واجهت القاهرة أيضا تحديات السياسيات الخليجية في السودان بشكل عام، وهي السياسيات المتمتعة بالتحرر من أعباء الجوار المباشر للسودان، وشروط أمنها القومي غير مرتبطة بالسودان، ولا تمتلك خبرة بتعقيدات التفاعلات السودانية، كما أن لها مصالح في البحر الأحمر ممثلة في تصاعد أهميته الاستراتيجية، نظرا لقدرة موانيه البحرية على دعم التوسع في استخدام الفوائض المالية النفطية، من هنا مارست بعض دول الخليج أدورا متعجلة ساهمت في تعقيد التفاعلات الداخلية، ولعل من أهمها تلك التي جرت وتجري في شرق السودان منذ اندلاع ثورة 2018.
في هذا التوقيت ربما يكون مشروع الدستور الانتقالي السوداني المطروح من جانب قطاع واسع من النخب السودانية فرصة وجسرا جديدا لمصر يمكن أن تخطو عليه في محاولة لبلورة توافق سياسي سوداني بديل عن الاستقطاب الراهن، ولعل المطلوب في هذه المرحلة هو فتح قنوات تواصل بهذا الشأن، ليس على المستوى الرسمي السيادي فقط ولكن أيضا على مستوى النخب السياسية والأكاديمية في البلدين، إذ إن موقف الفريق البرهان الرافض لهذا المشروع لن يمثل حلا للأزمة السودانية في تقديرنا، كما أن الحوار بشأن بعض بنود المشروع التي قد تحتاج نوع من المواءمات السياسية ربما يكون مطلوبا في هذه المرحلة ليكون ملبيا للظرف السوداني الراهن ومحققا لحوار بين الأطراف ولمتطلبات الاستقرار الذي تحتاجه كل من السودان ومصر، سواء عبر الآلية الرباعية أو بآليات التواصل المصري المباشرة مع القوى السياسية، وذلك لتحقيق عدد من الأهداف الاستراتيجية بالنسبة لمصر وهو محاولة لملمة ما بقي من دولة السودان ومعالجة جروحها، وكذلك بلورة ترتيبات تضمن مدنية الدولة دون إخلال بشروط فاعلية المؤسسة العسكرية السودانية على الصعيد الأمني بكل أجنحتها.
وفي ظني أن الركون لقدرات الفريق البرهان فقط كرئيس للمجلس السيادي قد يكون مضرا لمصر على المنظور القريب، فمن ناحية، سوف يتصاعد وزن محمد حمدان دقلو على حساب مؤسسة القوات المسلحة الرسمية وهو الذي يتبنى مشروع الدستور الانتقالي، ويلقى قبولا خليجيا ودوليا، الأمر الذي يهدد مسألة الترتيبات الأمنية ووحدة الجيش السوداني كعمود فقري للدولة السودانية، كما أن الفريق البرهان قد يجد نفسه مضطرا للجوء للجيل الثالث والرابع من الجبهة القومية الإسلامية، وهم قوم خبرنا مدى إخلاصهم للتنظيمات السرية المسلحة، وولائهم لمسألة التمكين على حساب مكونات المجتمع، فضلا عن دورهم في انقساماته، ولعل استقلال جنوب السودان ليس ببعيد عنا، وطبقا لذلك فإن دولة مدنية سودانية بشرط التوافق المدني والدور الفعال للمؤسسة العسكرية في الملفات الاستراتيجية، قد يكون ملبيا لمصالحنا الاستراتيجية في هذه المرحلة ربما بأوزان أعلى من حكم له صبغة عسكرية من المتوقع أن يكون حجم المقاومة له داخليا وخارجيا كبيرا، وفرص استمراره ضعيفة، وتأثيره على مصالح مصر الاستراتيجية طبقا لتوقعاتي سيكون سلبيا، ذلك أن التوافق الراهن سيكون مؤقتا في تقديري.