سجالات كثيرة صاحبت رحيل الداعية الشيخ يوسف القرضاوي بين من يلقبه بـ”إمام الدم” نسبة لعلاقته بجماعة الإخوان المسلمين، ومن يرى فيه العلامة والفقيه. غير إن أفكاره قد تراوحت ما بين العالمين فعلًا؛ فالرجل من ناحية انتسب لجماعة الإخوان، وينسب لها الكثير من أعمال العنف والإرهاب في مصر خلال العقد الأخير وربما في تاريخها الأقدم، ومن ناحية أخرى، فإن موقع القرضاوي داخل الجماعة يمثل إشكالية أخرى باعتباره ممن رفضوا أفكار سيد قطب مائلين نحو حسن البنا.
الأقليات والحل الإسلامي
لم تغب قضايا الأقباط عن تراث القرضاوي الفكري. وهو الرجل الذي انشغل كجماعته بفكرة الأمة الإسلامية، فترك مما ترك كتابًا يحمل اسم “الأقليات الدينية والحل الإسلامي”. ذلك الكتاب الذي أصدره بعد ثورة يناير، في محاولة للترويج للمشروع الإسلامي في الحكم. وقد ترك نسخة منه على موقعه الإلكتروني.
بداية من العنوان الإشكالي “الأقليات الدينية” قبل الوصول إلى المقدمة، لا يتحلى الشيخ بحساسية الكتابة. وهو الذي قال في مقدمة كتابه إنه قد صدر بناءً على اقتراح من صديقه المناضل جورج إسحق، ليفهم المسيحيون طبيعة الحكم الإسلامي، بينما يختار القرضاوي عنوانًا يكرهه المسيحيون ويتحسسون منه بشكل عام “الأقلية”؛ ذلك المصطلح الذي شكل سجالًا بحثيًا وأكاديميًا واسعًا.
بمقاييس العدد، الأقباط أقلية عددية، ولكن بمقاييس العلوم الاجتماعية، هم السكان الأصليون ولا تنطبق عليهم تسمية الأقلية بمفهومها الغربي، كما تطلق على السود في أمريكا مثلًا. بينما المؤكد أن غالبية الأقباط لا يحبون هذا الوصف تمامًا، كما يرفضون وصف “أهل الذمة” الذي أشار الشيخ إلى عدم تقبلهم له في كتابه.
القرضاوي: الحكم الإسلامي أفضل
ينطلق القرضاوي – في كتابه – من عدة فرضيات، يرغب فيها بالتأكيد على أن الحكم الإسلامي أفضل من العلماني للمسيحيين المصريين. وإذ يعقد تلك المقارنة يطرح فرضية أن المسلمين والمسيحيين جميعًا أصحاب ديانات سماوية وعليهم معًا مواجهة مخاطر الإلحاد والتغريب. ثم يواصل تأكيده على أن غير المسلمين قد عاشوا أفضل أيامهم في ظل الإسلام، معرجًا على قضية الجزية التي فرضها الإسلام بمبدأ الحساسية، فهو لم يرضى أن يلزم المسيحيون بالزكاة لأنها فريضة دينية ولا بالجهاد لأنها فريضة عسكرية مستبدلًا ذلك بالجزية، التي عفا منها النساء والأطفال والعجائز، ويضرب المثل بنصارى بني تغلب من العرب الذين رفضوا اسم الجزية، ولكنهم رضوا بالمعنى، وقرروا دفع صدقة بدلًا من الجزية، فوصفهم عمر بن الخطاب بالحمقى.
المواطنة في ديار الإسلام
يستبدل القرضاوي – في طرحه – اسم أهل الذمة الذي يضايقهم – على حد تعبيره – بمصطلح آخر، وهو المواطنة في دار الإسلام. وإن كانت المواطنة فكرة من نتاج الفلسفة الغربية، وتفترض تساوي جميع المواطنين أمام الدولة والقانون في النظم العلمانية التي لا تدين الدولة فيها بأي دين. ومن ثم لا تصبح دارًا للإسلام أو لغيره، أي إن محاولة القرضاوي التوفيقية تلك تبدو تناقضاتها من الاسم نفسه الذي اختاره لها. إذ يستغني بفكرة دار الإسلام عن مفهوم الدولة الحديثة، ولكنه في الوقت نفسه يستعير مصطلحًا من الحاضر وهو المواطنة.
يواصل القرضاوي طرحه بنبرة استعلائية فوقية، تجعل من المسلم فوق غيره في دولة الإسلام، فيعطي “أهل الذمة” الحق في شرب الخمر وأكل لحم الخنزير في قراهم ومناطقهم، على ألا يظهروا ذلك في البيئات الإسلامية حتى لا تجرح مشاعر المسلمين، وهو الأمر المستحيل عمليًا، فكما يعرف القرضاوي أن المسلمين والمسيحيين في مصر يعيشون جنبًا إلى جنب، ومن ثم ليس هناك أية بيئات غير إسلامية، فلا للمسيحيين قرى ولا مناطق خاصة.
يشير القرضاوي إلى أن الإسلام أباح مؤاكلتهم ومصاهرتهم. فيقول “لا تضييق على النصراني في الذهاب للكنيسة وإن كنت تعتقد إنه حرام في دينك، فيقول: إن المسلم ليس مكلفًا أن يحاسب الكافرين على كفرهم، أو يعاقب الضالين على ضلالتهم، فهذا ليس إليه، وليس موعده هذه الدنيا، إنما حسابهم إلى الله في يوم الحساب”. إذ يفرق القرضاوي بين نوعين من الكافرين؛ الأول من يحاربون المؤمنين والثاني من المسالمين، وهو يرفض وصف المسيحيين بالكافرين ثم يعود ليؤكد أن المسلم غير مكلف بمحاسبة الكافرين على كفرهم في معرض تأكيده على عدم مضايقة الأقباط أو منع صلواتهم.
القرضاوي يبيح بناء الكنائس بحذر
في حوار له مع وكالة الأنباء الألمانية، يؤكد القرضاوي أن الأقباط غير مضيق عليهم في مصر. يقول: “والمسلمون في مصر يتمنون أن يفسح لهم في أنشطتهم الدينية مثلما يفسح للأقباط، أنا منزلي في مدينة نصر (بالقاهرة) مطل على كنيسة من أكبر الكنائس، رغم أن معظم السكان حولها مسلمون. وهي تقوم بأنشطة من الصباح الباكر حتى منتصف الليل، وتملك أتوبيسات تنقل الناس من بيوتهم إلى الكنيسة، ومنها إلى أماكن أخرى، وعندهم أنشطة دينية وثقافية وفنية ورياضية واجتماعية، والمسلمون مفروض عليهم أن يغلقوا المسجد بعد الصلاة مباشرة”.
يضيف القرضاوي: “عدد الكنائس في كثير من الأماكن أكثر نسبيًا من عدد المساجد، رغم أن المسلمين يحتاجون إلى المسجد في اليوم خمس مرات والكنيسة لا يِحتاج إليها إلا في الأسبوع مرة واحدة. وقد أفتيتِ في مناسبات شتى: أن من حق الأقلية المسيحية أن يبنوا كنائس لهم بقدر حاجتهم إليها، وبقدر أعدادهم، ولا يجوز التضييق عليهم في ذلك، فليس في ذلك كتاب ولا سنة. كما لا يجوز المبالغة في بناء الكنائس والظهور بمظهر التحدي للأكثرية المسلمة”.
تشبه تصريحات القرضاوي هذه جميع محاولاته التوفيقية السابقة، فمن ناحية هي مليئة بالمغالطات المنطقية عن عدد الكنائس مقارنة بالمساجد في مصر، ولكنه يبيح في الوقت نفسه بناء الكنائس، ويلحقها بعبارة “دون الظهور بمظهر التحدي للأكثرية المسلمة”. وهي عبارة مطاطة؛ لأن بناء أي كنيسة قد يبدو للمتشددين تحديًا للأكثرية المسلمة.
لا ينبغي الحكم على منتج القرضاوي الفكري بعيدًا عن انتمائه لتيار الإسلام السياسي؛ فلا يمكن أن ينتظر القارئ منه خطابًا مختلفًا يرى الأقباط بمعزل عن أوصاف التراث الإسلامي أو بعيدًا عن فكرة الأمة الإسلامية، إنما يقارن القرضاوي بتياره وبمعاصريه.
يختلف القرضاوي جذريًا مع السلفيين وبعض من قيادات الإخوان الذين يحرمون بناء الكنائس وترميمها، حتى صار التصدي لبنائها ثقافة شعبية في بعض القرى. ولكنه في الوقت نفسه لا يبيح بناء الكنائس على إطلاقه، حتى لا تجرح الأكثرية المسلمة في ديار الإسلام. هكذا يمكن فهم شخصية القرضاوي وأفكاره كلها، وكأنها محاولات براجماتية تبيح بحذر وتمنح بتوجس، كخارطة طريق تصل به للأمة الإسلامية.