كنت أعرف ذلك من قبل، قبل ثماني سنوات حين كنت في إقامة أدبية في برلين/ ألمانيا. اطلعت وقتها على عدد الذين وضعوا إشارة “going” إلى الأمسية الشعرية التي أشارك فيها، فوجدتهم لا يزيدون عن تسعة أو عشرة أشخاص، فشعرت ببعض الإحباط، لكني فوجئت بقاعة الأمسية وطرقاتها مليئة عن آخرها بالحضور، حتى أنهم وضعوا سماعات بالخارج ليستمع من لم يتمكن من الدخول، أدركت وقتها أن مواطني “العالم الحر” لا يسكنون مثلنا داخل فيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي، وأن لهم حياة أخرى “حقيقية؟” في الخارج، في الشوارع والحدائق والمتنزهات العامة والمكتبات والمتاحف والملاعب.
اقرأ أيضا.. أسئلة محرجة عن القاهرة (رسالة آيوا)
في بلادنا، كما تعرف، حين تنشيء “event” على صفحة “فيسبوك” يحدث العكس غالبا، يسجل المئات أنفسهم كحاضرين أو مهتمين، ولا يحضر منهم فعلا إلا القليل، لأنهم غالبا سجلوا أنفسهم على كل “حدث” ممكن، ولا يمكنهم حضور كل شيء، أو لأنهم ببساطة – لا أستثني نفسي- يقيمون في الحياة الافتراضية أكثر مما يقيمون في الحياة الواقعية، وليس الانتقال بينهما بهذه السهولة.
هكذا، وهذه المرة، لم أهتم بالنظر إلى عدد المسجلين في “إيفينت” القراءة في مكتبة “Prairie Lights” في آيوا سيتي، المدينة التي تستضيف جامعتها “البرنامج الدولي للكتابة” الذي أشارك فيه هذا العام، سواء في أمسيتي الخاصة أو في أي من الأمسيات التي تستضيفها المكتبة أسبوعيا في قاعتها الشاسعة في الطابق الثاني، كنت أعرف مسبقا أنها ستكون دائما ممتلئة بالحضور الذي لا تكفيه الكراسي العديدة المتوفرة، فيجلس على سلالم المدخل، أو يكتفي بالوقوف.
كنت قد رأيت المكتبة صدفة في يومي الثاني في آيوا، ولفتني الاسم، فقد انتبهت لأول مرة أن كلمة “prairie” الإنجليزية تعني الأراضي الشاسعة التي لا يسكنها البشر، وهو تقريبا نفس المعنى والنطق لكلمة “براري” العربية. لفتني هذا التشابه للمرة الأولى ثم شعرت بالتفاؤل حين عرفت أن قراءات البرنامج الذي أشارك فيه ستكون في تلك المكتبة نفسها.
المكتبة من طابقين وبدروم، في الطابق الثاني – إضافة إلى الكتب – ساحة الأمسيات والقراءات، ملحقا به “كافيه” لتناول المشروبات والمأكولات الخفيفة وبيع بعض التذكارات والمجلات الأدبية. في الطابق الأرضي العدد الأكبر من الكتب، بالإضافة إلى ملابس (تي شيرتات وقمصان تذكارية تحمل اسم المكتبة، وأكواب وأقلام وهدايا تحمل الاسم نفسه)، أما في الطابق تحت الأرضي، فتمكن كتب وألعاب الأطفال، بالإضافة إلى ملابس مشابهة مع شعار المكتبة مناسبة لقياسات الصغار.
تبدو المكتبة إذا أقرب إلى مول تجاري مصغر يحاول الاستفادة اقتصاديا من كل ما يتعلق بالكتب والثقافة، كأنه مدينة صناعية تجارية صغيرة تتمتع بالاكتفاء الذاتي، إلا أن كل ذلك لا يظهر بصورة فجة، فالغنى الشامل لمحتوى الكتب، وأهمية العناوين، وتنوع المحتويات، وتوفر الجديد مع بعض المستعمل، والمرونة في التعامل مع الكتب والكتّاب (ببساطة شديدة أحضرت نسخا من كتبي عن طريق أمازون ووقعتها وتقاضيت ثمنها بعد خصم نسبة المكتبة)، كل ذلك يجعلك تشعر أنك في مكان تحب الوجود فيه، والعودة إليه.
إلا أن الأهم أن إحاطتك بكل تلك الكتب (الورقية)، التقليدية إن شئت استخدام هذا التعبير، وكذلك في المكتبات العامة المتوفرة في مدينة آيوا، الجامعية منها والحكومية، فضلا عن الكتب الموجودة في المتجر القريب في الجامعة أسفل فندقها، ومعظمها من المستعمل، فضلا عن اعتماد الطلاب الشديد على استعارة الكتب –بالطريقة التقليدية- من المكتبات.
كل ذلك ينقل لك صورة قد تكون مهمة، وقد تتعارض مع ما قد يكون تبادر إلى ذهنك في السنوات الأخيرة، عن “موت الكتاب الورقي” كما هو “موت الصحافة الورقية”، فالواقع أنه هنا، في أميركا، أي قلب العالم المتقدم، الكتاب الورقي لا زال حيًا، بل وحيًا جدا، ولابد إذا أن لانتشار قراءة الكتب “الأونلاين” في بلادنا أسباب أخرى، ولا أندهش إذا كانت هي الأسباب التي تجعلنا نقضي كل تلك الساعات في العالم الافتراضي، إنها الرغبة في عدم الخروج إلى الشارع لأطول وقت ممكن، إنها صعوبة التنقل والطرق العامة والمواصلات، وسوء تجربة “الوجود خارجا” مع عدم القدرة على الاستغناء عنه، فتكون الحياة الافتراضية هي الحل الأنسب، سواء في الكتب أو الصحف، وأخيرا منصات الأفلام. يبدو استبدال الافتراضي بالورقي إذا ليس دليلا على التقدم بل العكس؛ دليل على تراجع قدرتنا على ضبط حياة المدينة.