لما كانت دولة القانون يجب أن تتسم بجملة مبادئ تُجسد الحقوق والحريات الإنسانية في الدولة على أساس المواطنة، وهذه الحقوق لا تتحقق بمجرد النص عليها في دستور الدولة القائم أو وفي قوانينها، ولا يتحقق ذلك بمجرد بمصادقة الدولة على اتفاقيات ومواثيق دولية بشأن تلك الحقوق والحريات، بل إن ذلك لا يتحقق إلا من خلال نظام حكم يعترف في إطار قانوني وتطبيقي بحق المواطنين بأنهم أصحاب ومصدر السلطة الحقيقية. وتصبح الدولة الديمقراطية مرادفة لدولة القانون في سياق نظام سياسي يقوم على مفهوم المواطنة، هذا التنظيم القانوني والسياسي هو الدولة الديمقراطية -دولة القانون- التي تعترف بخضوع سلطة الحكم للقانون، كحال خضوع المحكومين له، حيث تشكل حقوق وحريات المواطنين في هذا القانون، قيودا على الدولة.
اقرأ أيضا.. عن المحاماة والقانون والسلطة
ولكي يقوم نظام الحكم هذا من خلال قواعده ومؤسساته بعمله على وجه سليم، يتطلب ذلك ضمانات تتلخص في المبادئ الآتية: سيادة القانون.. الفصل بين السلطتين المدنية والعسكرية.. الفصل بين السلطات.. استقلال السلطة القضائية.. تقرير الرقابة القضائية على دستورية القوانين.. تقرير الرقابة القضائية على تصرفات الإدارة وقراراتها. من هنا، فإن مفهوم دولة القانون، يتجسد في هذه المبادئ، تتقدمها سيادة القانون وخضوع سلطة الحكم للقانون كمثل خضوع المحكومين له. وما يقيد سلطة الحكم دستور يضع القواعد الأساسية لنظام الحكم في الدولة، ويقرر حقوق الأفراد والجماعات وحرياتهم، وبهذا يتحقق للأفراد مركز قانوني في مواجهة سلطة الحكم يكون ضمانا لهم في حرياتهم وحقوقهم.
والقانون الذي تكون له السيادة في دولة القانون يجب أن يكون صادرا عن مجلس تشريعي منتخب من الشعب، ولا يكون مخالفا للدستور، أو منطويا على انحراف في استعمال السلطة التشريعية. وإذا لم يؤخذ بهذا المفهوم القانوني، عندئذ ينتفي معنى ومضمون دولة القانون الحقيقي، ويصبح مجرد شعارات وألفاظ جوفاء للتشدق بها في المحافل والمنتديات، أو لتتناولها السبل والوسائل الإعلامية والمنصات المختلفة.
ومن المبادئ المسلم بها في خصوص الحريات والحقوق العامة التي نص الدستور على تنظيمها بقانون أنه إذا خول الدستور للمشرع سلطة تقديرية لتنظيم تلك الحقوق فيجب على المشرع ألا ينحرف عن الغرض الذي قصد إليه الدستور وهو كفالة ممارسة هذه الحقوق والحريات العامة في حدودها الموضوعية فإذا نقضها المشرع أو انتقص منها وهو بصدد تنظيمها كان تشريعه مشوبا بالانحراف.. والقاعدة أن كل حق عام أوكل الدستور إلى المشرع تنظيمه بقانون فقد رسم الدستور للقانون الذي ينظمه غايات مخصصة لا يجوز للمشرع الانحراف عنها. ومن صور الانحراف في استعمال السلطة التشريعية مخالفة التشريع لمبادئ الدستور العليا. و في واحد من أهم أحكام المحكمة الدستورية العليا، وهو الحكم رقم 114 لسنة 21 قضائية قالت فيه المحكمة: “وحيث إن السياسة الجنائية الرشيدة يتعين أن تقوم على عناصر متجانسة، فإن قامت على عناصر متنافرة نجم عن ذلك افتقاد الصلة بين النصوص ومراميها، بحيث لا تكون مؤدية إلى تحقيق الغاية المقصودة منها لانعدام الرابطة المنطقية بينها؛ تقديرا بأن الأصل في النصوص التشريعية – في الدولة القانونية – هو ارتباطها عقلا بأهدافها، باعتبار أن أي تنظيم تشريعي ليس مقصودا لذاته، وإنما هو مجرد وسيلة لتحقيق تلك الأهداف. ثم أردفت بقولها إن فالأصل في العقوبة هو معقوليتها، فكلما كان الجزاء الجنائي بغيضا أو عاتيا، أو كان متصلا بأفعال لا يسوغ تجريمها، أو مجافيا بصورة ظاهرة للحدود التي يكون معها متناسبا مع خطورة الأفعال التي أثمها المشرع، فإنه يفقد مبررات وجوده ويصبح تقييده للحرية الشخصية اعتسافا”.
وإذ لاشك في كون النظم القانونية المحترمة يجب أن تستمد وجودها من منطلق الاحتياج المجتمعي لتنظيم أمر من أموره تشريعيا، إذ أن عملية الضبط الاجتماعي وتنظيم الحريات والمصالح عبر وجود قواعد وأحكام هو ما أُطلق عليه اسم القانون، ويجب ألا تخرج الغاية العليا للتنظيم القانوني أو القواعد القانونية عن تنظيم أوجه النشاطات المجتمعية، ويفك أو يفصل الاشتباك بين أوجه السلوك الإنساني المختلفة والمصالح المتعارضة، وبمعنى أكثر نضجا لا يتواجد القانون إلا إذا تواجدت الحاجة المجتمعية إليه، إذ لا حاجة ولا قيمة حقيقية للنصوص القانونية إذا ما خرجت عن احتياجات المجتمع، أو إذا ما تجاوزت في تنظيمها لأمر من الأمور لمعنى الاحتياج المجتمعي، فخرجت بذلك عن مضمون الحماية المقررة بالقانون إلى الميل أو التجاوز عن الهدف الأساسي للقاعدة القانونية.
وإذ أن القانون لا يعني سوى تلك القواعد القانونية الناتجة عن عملية التشريع أو المسطرة التشريعية المحددة في الدستور التي تحتكم لها جماعة معينة، فمنذ وجود الإنسان، وجدت معه قواعد قام بإبداعها من أجل التحكم في سلوكياته. أما المجتمع بكل بساطة هو مجموعة من الأفراد يتفاعلون فيما بينهم، وتربطهم علاقات سواء على المستوى الواقعي أو الافتراضي بغية إنتاج ثقافة معينة. لكن السؤال المطروح هو، ما هي العلاقة التي تربط بين القانون والمجتمع؟ وهل هناك حاجة للإنسان في علاقاته الاجتماعية للقانون؟
إن إعادة طرح هذا السؤال ليس إلا من أجل تأكيد أهميته ومشروعيته في هذا الطرح، حتى يتسنى لنا القول إن القانون ليس إلا منظومة من المنظومات المكونة للمجتمع، وهذا ما يعني أن القانون حقل من الحقول السوسيولوجية، أو أن القانون ظاهرة اجتماعية موجود بيننا بشكل دائم، فرضته علينا حاجة تنظيم علاقاتنا الاجتماعية، وهذا ما عبر عنه الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي المعاصر إيدغار موران بقوله إن المجتمع أنتج القانون الذي أنتجه، بمعنى أن هناك نوع من العلاقة الوجودية بين القانون و المجتمع، فالمجتمع ينتج القانون وهذا الأخير هو بدوره ينتج المجتمع من خلال تلك القواعد التي يسطرها وكذا الكوابح التي ينهجها.
ومن هنا لابد وأن تكون سلطة التشريع مستقلة بشكل كامل عن السلطة التنفيذية، تلك التي تتمتع بأوجه تشريعية في أحوال بعينها، ويجب كذلك أن تخضع لرقابة وتقييم السلطة التشريعية الأصيلة حال وجودها، بما يضمن لها أن تتوافق وتتسق مع احتيجات المجتمع، وتخرج بذلك عن أغراض السلطة التنفيذية، كما يجب في الأحوال عمومها أن تكون السلطة التشريعية تسعى دوما لتحقيق تلك المصالح المجتمعية، دونما أية رغبات أو ميول أخرى، وإلا كانت القوانين مجرد آداة من أدوات السلطة لفرض سيطرتها على الشعوب.