أعلنت إذاعة “بي بي سي” عن توقف بثها اللاسلكي باللغة العربية وذلك لتخفيف النفقات بحسب بيان الإذاعة، بمجرد أن علمت الخبر قفزت أمامي كل محاولات البحث عن إرسال الإذاعة البريطانية، كان وجود راديو بإمكانه استقبال تلك الإذاعة من الكنوز التي يبحث عنها السجناء، كانت الإذاعة تصل إلينا خلال عدة ساعات من اليوم، نجلس منتبهين حول الجهاز الصغير والصوت المحدود، على أمل الحصول على خبر لا يمكن أن نعرفه مما يصل إلينا من إعلام.
لم تبخل الإذاعة علينا، فكانت الساعات القليلة والبث المشوش أكثر قيمة من ساعات طوال في الإذاعات المصرية، كانت الإذاعات المصرية وكأنها موجهة للمساجين دون غيرهم، كل ما يقال عبر الأثير معاد ومكرر، نفس الضيوف يدورون على كل البرامج، يجيبون بنفس الإجابات عن نفس الأسئلة.
أتذكر جيدا حين اتخذت الحكومة قرارا بزيادة سعر المحروقات، سمعت خبر في أحد نشرات رأس الساعة يعلم المواطنين القرار الرسمي بتحريك سعر البنزين، بالطبع لم يتضمن الخبر السعر الجديد أو القديم، قضيت ساعات يومها أتنقل بين الإذاعات والبرامج، كانت جميعا تتناول الخبر بنفس الصيغة، المضحك أن مداخلات الضيوف للتعليق على الخبر، لم تعرج بأي حال من الأحوال على سعر البنزين، بل كانت حريصة على ألا تنزلق لبيان السعر، تكرر الأمر بنفس الطريقة في تخفيض سعر صرف الجنيه، كان التناول الإخباري غير مفهوم، فلن يحتاج المواطن سوى فتح أي من مواقع التواصل الاجتماعي ليعرف سعر البنزين والدولار بعد التعديل، أو أن يذهب إلى أقرب محطة بنزين أو بنك، هذا بالطبع إلا إذا كان الجمهور المستهدف لا يمكن أن يصل إلى كل ذلك.
كان واضحا أن الإذاعات الرسمية وشبه الرسمية لا تستهدف بأخبارها سوى المقيدة حريتهم.
“الراديو أقرب صديق للمسجون” كان ذلك أحد الدروس المهمة التي تعملتها مبكرا.
أحيانا كان الموقف يصبح أكثر فجاجة، حتى أن أحدنا كان ليقسم أن الإذاعات المحلية ليس لها من جمهور سوى من هم خلف القضبان، فكانت تغطية الصراع الليبي وانحياز الإذاعة المصرية للمشير خليفة حفتر، والتأكيد على أن معركته للاستيلاء على طرابلس حق مشروع، وأن العالم كله يدعمه، ولا يقف في طريقه سوى الإخوان وداعميهم، تكرر الأمر في سد النهضة والتأكيد على الدعم الإقليمي والدولي لحق مصر، ثم كانت فضيحة حقيقية في دعم روسيا خلال بداية حربها على أوكرانيا، والتراجع عن ذلك بعد تصويت الحكومة المصرية على قرار مجلس الأمن برفض الحرب.
كانت المتابعة أكثر إيلاما، في نقل الإذاعة البريطانية لمفاوضات صفقة القرن، ثم فتح الباب واسعا لمناقشة اتفاقيات “أبراهام”، في الوقت الذي لاذت الإذاعات المصرية بالصمت، بخلاف قراءة البيانات الرسمية.
بالصدفة بينما كانت تلك الذكريات تمر بخيالي، وأفكر فيما يمكن أن يكون بديلا للمساجين لمعرفة أخبار الدنيا عبر صوت أقرب الى الحقيقة، مررت ببائع الجرائد الذي كنت أحد زبائنه الدائمين في فترة المراهقة.
يبدو أن الزمن كان قاسيا على الرجل، بالرغم من أنه لا يزال يملك تلك الطاولة على ناصية الشارع، وهو إنجاز يحسب له، إلا أن انحناء الظهر وشيب الرأس وخطوطا رسمها الزمن على وجهه، أخبرتني كيف كانت سنواته الماضية والتي غبت فيها عن المنطقة وعن رؤياه وانقطعت عن قراءة الجرائد من يده.
حملت تلك الخطوات القليلة التي خطوتها باتجاهه، آلاف العناوين والمانشيتات والأشخاص، لقد حصلت من هذا البائع وحده على آلاف الأعداد من جرائد الأهرام ثم الدستور والمصري اليوم والشروق، كما حصلت على أكثر من مائتي كتاب من خلال مشروع مكتبة الأسرة، ذات يوم اصطحبني إلى بيته القريب وأسفل السلم كانت آلاف الكتب ملقاة، طلب مني مراجعتها وأن أشتري منها ما أشاء مادمت “غاوي كتب”.
كانت تفصلني خطوات قليلة عن الطاولة، والتي كانت تختلف عن طاولة زمان، بينما كانت القديمة مرتبة والجرائد مصفوفة بعناية وبجوارها عدد من الكتب والمجلات، كانت اليوم مبعثرة وملقاة مربوطة برباط المطبعة كما هي، التراب يعلو كل شيء.
قبل أن أصل إلى الطاولة بخطوتين، توقف “توكتوك” أمام بائع الجرائد، مد السائق يده إلى البائع الذي التقط منها ورقات نقدية، أخرج البائع لفافة بلاستيكية صغيرة من بين رزم الجرائد بخفة حركة لا تتناسب مع عمره وهيئته، وضعها سريعا داخل إحدى الجرائد وناولها لسائق التوكتوك الذي انطلق سريعا، على بعد خطوات ألقى السائق بالجريدة على جانب الشارع واستمر في طريقه.