لم يكن هناك أي شك في خطوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بضم المناطق الأوكرانية الأربع إلى قوام روسيا الاتحادية: دونيتسك ولوجانسك في شرق أوكرانيا، وخيرسون وزابوروجيه في جنوبها. ما أدى إلى إعلان مجلس الدوما الروسي بأن “بحر آزوف” صار بحرا روسيا داخليا. ويبقى فقط عامل الوقت لضم خاركوف (شمال شرق أوكرانيا) والتي تقع تقريبا على الحدود الروسية، وكذلك ضم أوديسا بمينائها الحيوي والاستراتيجي لعزل كييف تماما عن المنافذ البحرية.
لكن خطوة الرئيس الروسي هذه، تكمن تاريخيتها في أن الكرملين منح الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو روحا جيدة للتعاضد والاستمرارية، ومنح المنظومة العالمية القائمة نفسا جديدا للتصالح مع نفسها بعد أن كانت هناك مؤشرات بدخولها إلى أزمة قد تؤدي إلى سقوطها، أو على الأقل إلى تعديل مسارها. والأهم أيضا في هذا المقام، أن خطوة الرئيس بوتين ستطيل الحرب في أوكرانيا لسنوات طويلة مقبلة، وستعمق من “المواجهة” بين روسيا حصرا وبمفردها وبين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، حتى إذا تراجعت العمليات العسكرية في أوكرانيا.
اقرأ أيضا.. انتصار بوتين على الغرب ومصير روسيا
القلق الروسي من بقايا “الدول المستقلة”
قبيل ساعات من قيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بضم الأراضي الأوكرانية إلى روسيا، في 30 سبتمبر 2022، جمع رؤساء الأجهزة الأمنية والاستخباراتية من رابطة الدول المستقلة، وهي أذربيجان وأرمينيا، طاجيكستان وقيرغيزستان، بيلاروس وكازاخستان وأوزبكستان، وقال لهم: “إن الدول الغربية تحاول إثارة الصراعات في دول الرابطة”. ولكن الرابطة التي يتحدث عنها بوتين غير الرابطة الحقيقية التي توجد على أرض الواقع. فقد كانت رابطة الدول المستقلة هذه هي الشكل الوحيد الذي نشأ بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كبديل له، لضمان عدم انهيار الدول التي “استقلت”، وعلى رأسها روسيا. ولم يكن الغرب ضد هذا الشكل إطلاقا، ليس حبا في تلك الدول، ولكن خوفا على نفسه من المخاطر المحتملة، وهي كثيرة. وكانت هذه الصيغة تتكون من 15 دولة مستقلة تربطها أواصر محبة وصداقة ومستقبل زاهر كما كانوا يقولون في البيانات المتعلقة بذلك. ولكن دول البلطيق الثلاثة ركضت بعيدا، وبعد سنوات غادرت دول مثل تركمانستان وأوكرانيا ومولدوفا وجورجيا. وبقيت فقط 8 دول تخضع بشكل متفاوت للهيمنة الروسية عموما، وللهيمنة الأمنية الروسية على وجه الخصوص.
وظلت روسيا تشكل هيئات ومجموعات من هذه الدول الثماني طوال السنوات الثلاثين التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي. بقي منها فقط ما يسمى بـ”منظمة معاهدة الأمن الجماعي” التي تضم 6 دول هي روسيا وبيلاروس وكازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان وأرمينيا. ولكن بالنظر إلى الواقع على الأرض، نجد أنه حتى كتابة هذه السطور، تجري حرب بين أرمينيا أذربيجان، وهي حرب بدأت منذ عام 1989، وحرب أخرى بين طاجيكستان وقيرغيزستان. وقبل سنوات قامت حرب بين قيرغيزستان وأوزبكستان. بينما كازاخستان تسعى إلى موازنة علاقاتها بين الصين والغرب وروسيا، وهي من الدول التي ترفض كل تحركات روسيا العسكرية في أوكرانيا. أما أوزبكستان فهي تتعامل مع رابطة الدول المستقلة كتحصيل حاصل، وليس لها أي نشاطات فيها. وهي أصلا غادرت منظمة معاهدة الأمن الجماعي بعد خلافات شديدة الوطأة مع روسيا.
إننا أمام ثماني دول بينها خلافات رهيبة، وحروب حقيقية تقع فيها ضحايا بشرية. واقتصادها مهلهل بالمعنى الحرفي للكلمة. ويعيش بعضها على مساعدات غربية وتركية وصينية، نظرا لأن الاقتصاد الروسي لا يمكنه أن يتحمل فاتورة اقتصادات هذه الدول، إلا في المجال العسكري والأمني فقط، حيث توجد قواعد روسية في كل من طاجيكستان وقيرغيزستان وأرمينيا. وتكاد تكون أذربيجان وأوزبكستان خارج الهيمنة الروسية بدرجات معينة، فيما تسعى كازاخستان وأرمينيا لتحقيق نفس هذا الهدف. لكن الرئيس الروسي قال ضمن حديثه إلى ممثلي هذه الدول في نبرة تهديد واضحة: “يجب تعزيز الدعم المتبادل من أجل وضع حاجز قوي أمام التحديات القائمة والمحتملة”، وإنه “من أجل وضع حاجز قوي أمام التحديات القائمة والمحتملة، يجب على أعضاء رابطة الدول المستقلة أن يتصرفوا بوضوح واتساق”، وأن “يعززوا الدعم المتبادل باستمرار.. وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها الدفاع عن مصالحنا على الساحة العالمية، وصد المعارضين”.
إن رسائل بوتين هذه تكشف عن أزمة خطيرة ليس فقط في منظومة العلاقات الروسية عموما، سواء مع دول آسيا الوسطى وما وراء القوقاز ومعها الصين والهند، بل في نظرة موسكو إلى هذه الدول ومحاولات الهيمنة عليها. ولكن ماذا يمكن أن تقدم أرمينيا وأذربيجان المتحاربتان حاليا إلى روسيا؟! وماذا يمكن أن تقدم طاجيكستان وقيرغيزيتان المتحاربتان حاليا أيضا إلى روسيا؟! وماذا يمكن أن تقدم أوزبكستان التي تسعى للإفلات من الهيمنة الروسية؟! وماذا يمكن أن تقدم كازاخستان التي تجلس على برميل من البارود بنتيجة الكوارث الداخلية، وتسعى هي الأخرى للإفلات من هيمنة روسيا؟!
العقيدة الروسية الجديدة ومحاولات صناعة قطب عالمي
إن كل أحاديث موسكو حاليا تدور حول فكرة واحدة، لخصها بوتين في كل تصريحاته وفي كلمته التي سبقت ضم الأراضي الأوكرانية، وهي أنه “يَجْري تشكيل نظام عالمي أكثر عدلا، والهيمنة أحادية القطب آخذة في الانهيار”. ولكن في حقيقة الأمر، فدولة أوكرانيا هي الآخذة في الانهيار، كما وعد الرئيس بوتين في بداية الغزو. وأوكرانيا أصلا لم تكن قطبا عالميا، ولم تكن تشكل مركزا لليبرالية. أما المغالطة المنهجية والفلسفية، وبالتالي السياسية، هو أنه بعد هزيمة الاتحاد السوفيتي وانهياره، تكونت منظومة ليبرالية في العالم، فيها دول تحتل المرتبة الأولى والثانية والتاسعة، ودول تحتل المراتب الخمسين والمائة والمائة والسبعين. أي أنه لا يوجد أي أقطاب بالمعنى الذي تطرحه روسيا وتعمل على “تسويقه” لدى بعض النخب والأنظمة والتنظيمات السياسية التي “تكره” هذا الغرب لأسباب تاريخية مختلفة، وتتخذ من إبادة الهنود الحمر وغزو فيتنام واستعمار إفريقيا مبررات لغزو أوكرانيا.
ولكن من الواضح أن مشكلة روسيا هي مناطحة الولايات المتحدة في إطار هذه المنظومة الليبرالية، وسعيها لاحتلال مرتبة متقدمة على الصين واليابان، والاتحاد الأوروبي كهيئة أو على بعض دول الاتحاد الأوروبي منفردة مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا. وبالتالي، فمن الواضح أن الرئيس بوتين يقصد بانهيار “الهيمنة أحادية القطب”، انهيار النظام العالمي الذي استقر بعد الحرب العالمية الثانية وسقوط الاتحاد السوفيتي. ولكن في المقابل يبدو المشروع الروسي، كما هو واضح من تصريحات نخبة الكرملين، مشروعَ هدم، وليس مشروعَ بناء، لأنه لا يتحدث عن بدائل، أو أحسن الأحوال يطرح كلمات فضفاضة تعمل كلها لصالح بعث الإمبراطورية الروسية.
من جهة أخرى، فمشروع الهدم هذا يحتم على روسيا تقديم تنازلات بشأن ما اكتسبته بعد الحرب العالمية الثانية من أراضي في اليابان وغيرها. فهل سيحدث هذا إن عاجلا أو آجلا؟! وهل يمكن أن تعيد روسيا، ضمن مشروع الهدم هذا، الأراضي التي استولت عليها في أوكرانيا؟! أما مشروع البناء فيحتم عليها طرح رؤية، أو مشروع آخر مناقض بشكل جوهري- بنيوي- عقائدي للمشروع الليبرالي القائم والتي هي جزء منه أصلا. فهل نخبة الكرملين قادرة على طرح مثل هذا المشروع، وما هو؟! وهل هي قادرة على تحقيقه على أرض الواقع، بعيدا عن الكلمات الشعبوية والمصطلحات الفضفاضة من قبيل “نظام عالمي أكثر عدلا وديمقراطية”.
مأزق بوتين وفشل مقاربة الكاريبي
بإعلان حالة التعبئة العسكرية “الجزئية” في روسيا، والتي ستتحول تدريجيا إلى حالة تعبئة عامة وإعلان قوانين الحرب والأحكام العرفية لاحقا، وبضم المناطق الأوكرانية، دخلت المواجهة بين روسيا والغرب إلى مستوى جديد تماما يتجاوز محاولة موسكو اعتماد تصدير “سياسة الحافة” للوصول إلى مقاربة شبيهة بمقاربة أحداث الكاريبي في مطلع ستينيات القرن العشرين. فالغرب مصمم على موقفه بعدم التدخل المباشر في الحرب بين روسيا وأوكرانيا. بل ويعمل بشكل جاد وواضح وشفاف على عدم التورط المباشر، مع مراقبة كل التحركات العسكرية الروسية. هذه الصيغة الغربية “الماكرة” تفوِّت على روسيا صناعة تلك المقاربة، وتُحَوِّل روسيا إلى طرف معتدي بكل معايير القانون الدولي.
أما التهديدات المتواترة من جانب روسيا حول إمكانية استخدام الأسلحة النووية، وكافة الصياغات الملتوية الأخرى بشأن مواجهة نووية، فقد كان رد الغرب بقيادة واشنطن، واضحا. إذ شددت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيير على أن عواقب استخدام الأسلحة النووية ستكون كارثية وغير مسبوقة. وقالت: “كما سمعتم من مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي جاك سوليفان والعديد من أعضاء فريقنا، العواقب ستكون كارثية وخطيرة وحاسمة. نحن نلتزم بكل هذه الكلمات. النقطة الأساسية عندما نتحدث عن العواقب تتلخص في حقيقة أنها ستكون حقيقية وغير مسبوقة”. وأضافت: “تحدث سوليفان مع الجانب الروسي، وهم يفهمون ما ستكون عليه العواقب. لن نتحدث عن ذلك علنا”.
إن ضم المناطق الأوكرانية لروسيا على الرغم من عدم سيطرة القوات العسكرية الروسية عليها بالكامل، يعني أن الكرملين قام بحساباته، بصرف النظر على رأي أي طرف فيها من حيث الصحة أو الخطأ، وحسم أمره على المضي قدما في المواجهة. ولكن هذا يعني من جهة أخرى أن النخبة الحاكمة الروسية سارت عمليا حسب كل التوقعات، وغرقت أكثر فأكثر “في المستنقع الأوكراني”. وحتى إذا كانت قد أجلت عملية الضم، فإنها كانت ستصبح هدفا لعمليات استنزاف عسكري في أوكرانيا، واستنزاف اقتصادي بفعل العقوبات الغربية غير المسبوقة في التاريخ حتى الآن. ويبدو أن الكرملين حسبها بالفعل كذلك، ورأى أن الأمور في كلتا الحالتين تؤدي إلى نفس النتيجة.
وفي الواقع، فإن موسكو الآن تواجه حالتين على أرض الواقع. الحالة الأولى، سيكون عليها المزيد من التوغل في أوكرانيا حتى الاستيلاء على خاركوف وأوديسا، والتمدد غربا لإغلاق كل الحدود التي تدخل منها الأسلحة لأوكرانيا. ما سيستدعي إعلان التعبئة العامة التي تصاحبها مشاكل داخلية رهيبة. ولن تتوقف العقوبات الغربية، بل ستزداد، وستصبح مخاطر احتمال استخدام أسلحة نووية أو كيماوية كبيرة للغاية.
الحالة الثانية، إذا اكتفت القوات الروسية بمحاولات السيطرة على الأجزاء الأخرى من المناطق الأوكرانية الأربع، ستتعرض أيضا لنفس الوتير من الاستنزاف، وسيكون عليها مواصلة التعبئة العسكرية للسيطرة على بقية الأجزاء التي لم تسيطر عليها بعد القوات الروسية في المناطق الأربعة. لكن الأمر سيتطلب احتلال خاركوف وأوديسا لعزل الجنوب والشرق تماما، وعزل كييف عن البحر الأسود، ومحاولة التحكم في تصدير القمح والمواد الغذائية الأوكرانية كورقة للضغط الدولي.
وفي كلتا الحالتين، تتزايد مخاطر استخدام أسلحة محرمة دوليا، لأن كل الدول “التي تبدو” حليفة لروسيا أعلنت أنها لن تعترف بضم أي أراضي أوكرانية، وينفض الآن العديد من حلفاء روسيا خوفا من التورط في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، وعلى رأس هؤلاء الحلفاء الهند والصين والعديد من دول آسيا الوسطى. ناهيك عن أن الكثير من الدول بدأ يشعر بأضرار مباشرة على مصالحه وعلى مستقبل بلاده من استمرار التواجد العسكري الروسي في أوكرانيا. أمام هذا المأزق، لا يستبعد المنطق والمتغيرات على الأرض، أن تعلن روسيا عن نشر أسلحة نووية في كاليننجراد، وفي المناطق التي تتواجد فيها قواتها في شرق وجنوب أوكرانيا، وذلك بعد أن أصبحت أراضي روسية من وجهة نظر موسكو. الأمر الذي يعمل على المزيد من التصعيد العسكري النووي. وربما تكون نخبة الكرملين على أمل أن تنجح محاولتها الثانية هذه لعمل مقاربة مع أحداث الكاريبي. وتنتهي المواجهة بمفاوضات واتفاقات.
ولكن للأسف الشديد، فهذا الاحتمال ضئيل للغاية، لأن الكرملين أعلن شروطا جديدا إلى شروطه الخمسة السابقة، بخصوص أوكرانيا فقط، لوقف العمليات العسكرية وإجراء مفاوضات. فالرئيس الروسي شخصيا أعلن أنه على استعداد للتفاوض مع الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي انطلاقا من الأمر الواقع على الأرض ومن دون التطرق إلى الوضع الجديد للمناطق الأوكرانية الأربع، بعد أن كان الحديث يدور فقط حول عدم الحديث عن شبه جزيرة القرم وسيفاستوبول. إضافة إلى إعلان كييف استسلامها، وتسليم سلاحها، وتشكيل حكومة ترضي موسكو، والتوقيع على عدم الانضمام إلى أي تكتلات أو أحلاف.
ومن جهة أخرى، وعلى الرغم من كل التوقعات والتحليلات بأزمة الطاقة وتأثيرها ونتائجها على أوروبا، فإن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يواصلان تأمين موارد الطاقة من جهة، وإمداد أوكرانيا بالسلاح من جهة أخرى، وفرض المزيد من العقوبات على روسيا من جهة ثالثة. وبالتالي، فاحتمالات المحاولة الثانية لصناعة مقاربة تشبه مقاربة الكاريبي تكاد تكون معدومة. وخاصة في ظل الانفضاض الدولي عن موسكو التي بدأت باعتماد خطاب تهديدي لدول آسيا الوسطى، وخطاب حماسي في اتجاه بعض التنظيمات والأنظمة السياسية في الشرق الأوسط وكوريا الشمالية وفنزويلا، وخطاب يتسم بالوعيد والتهديد في اتجاه أوروبا، يكاد يصل إلى التلميح باجتياح أي دولة أوروبية.
الخطأ الأوروبي القاتل
لا شك أن دول الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها ألمانيا، أخطأت خطأ تاريخيا عندما لم تأخذ كلام الولايات المتحدة بجدية حول عدم الاعتماد على موارد الطاقة الروسية. فالتحذيرات الأمريكية ظهرت على استحياء في تسعينيات القرن العشرين. وبنهاية الفترة الرئاسية الأولى للرئيس فلاديمير بوتين في عام 2004، بدأ الأمريكيون يتحدثون صراحة وبشكل مباشر عن استخدام “نخبة الكرملين الجديدة” موارد الطاقة كأداة للضغط السياسي، وحذروا الأوروبيين من كارثة ارتهانهم لموارد الطاقة الروسية. وكانت الولايات المتحدة هي الدولة الأولى التي كشفت مبكرا عن خطط “القوميين الروس الجدد” بشأن جر أوروبا للاعتماد على موارد الطاقة الروسية كوسيلة لفصلها فيما بعد عن الولايات المتحدة. وهي أيضا الأولى التي حذرت في أكثر من مناسبة طوال ما يقرب من 25 عاما من عزم النخب القومية الروسية استخدام الطاقة كأداة للضغط السياسي.
وفي الواقع، فإن الاتحاد الأوروبي يعاني من البيروقراطية والترهل. وهناك مؤسسات وقيادات “تستسهل” الأمور وتلجأ إلى حلول بسيطة وسهلة من دون حساب تداعياتها المستقبلية. ربما يتعلم الاتحاد الأوروبي كمؤسسة، وتتعلم دول الاتحاد الأوروبي كل على حدة، وأن تفكر لبضع سنوات إلى الأمام، وتتخلص من البيروقراطية والاستسهال. إن أوروبا لم تستمع إلى الولايات المتحدة بنتيجة مشاكل خطيرة داخل الاتحاد الأوروبي نفسه، تكاد تقارب على التهام بنيته الأساسية، وتُشَوِّه جوهر المبادئ الرئيسية لدوله، وبالذات مشكلة “الفساد”، إذ إن النخبة الروسية الحالية نجحت بدرجات كبيرة في تقديم رشاوى مختلفة الأحجام والأنواع للعديد من كبار مسؤولي الاتحاد الأوروبي، ونجحت الأجهزة الأمنية والدبلوماسية الروسية في استقطاب نوعيات معينة من النخب الأوروبية وتقديم “هدايا” و”بيزنس” و”مناصب” لهم. وبالتالي، فدول الاتحاد الأوروبي تدفع حاليا ثمن عدم اهتمامها بتحذيرات واشنطن، وثمن بيروقراطيتها و”فساد بعض نخبها”، وثمن استسهالها وتقاعسها عن إنجاز مهام تتعلق بالطاقة والدفاع، وكذلك ثمن تصوراتها الرومانسية بشأن العلاقات مع روسيا البوتينية التي تسعى بكل الطرق لتحقيق أفكارها النظرية وأحلامها الطوباوية بشأن استعادة حدود وأمجاد الإمبراطورية.
ستدفع أوروبا الثمن. ولن ينقذها إلا الولايات المتحدة. وهذا أيضا لن يكون بلا ثمن. لكنه ثمن يتماشى مع المنظومة السائدة، ومع المنجز الأوروبي في العلوم والتقنيات والرقميات، ومع ما وصلت إليه المجتمعات والعلوم الأوروبية من تقدم وتطور، ومع ما يتمتع به المواطن الأوروبي من إنجازات في مجال الحريات والقانون والفنون والثقافة. أي أن أوروبا تقف الآن أمام اختيار شحيح للغاية: إما الحفاظ على قيمها الإنسانية العامة في الحريات، وفي التقنيات والعلوم الإنسانية والفنون والآداب ومواصلة تطويرها، أو الوقوع تحت هيمنة “الأفكار الفضفاضة” التي تطرحها النخب القومية الجديدة في الكرملين.