“إن كل ما يستطيع الإنسان أن يربحه في معركة الطاعون و الحياة هو المعرفة و التذكُّر”، تعبر تلك الجملة المقتبسة من رواية الطاعون لألبير كامو، عن حالة مربكة يحياها العالم فى صمت كل فترة من الزمن، كما ينفذ التعبير نفسه إلى أرواح كثيرة، على شفا حفرة من اللافهم، واختبار كل ما تعرفه وعرفته الإنسانية تحت عنوان آخر مقتبس من نفس الرواية بأن ” العالم ليس لنا”.
sss
رواية الأديب الفرنسي الوجودى التي أشارت الصحف الفرنسية منذ أيام إلى أنها عادت من جديد للمشهد وسجلت معدلات قراءة مرتفعة منذ ظهور فيروس كورونا المستجد، لمست واقعًا جديدا لدارسيها خاصة طلاب بمدينة “وهان ” بالصين.
“الطاعون”، لم تكن الرواية الوحيدة التي عادت إلى المشهد، فالأدب الذى عبر عن تلك الفترات أو سجل حكاياتها هو الآن ملجأ للجميع، كما لو كان العالم الآن يجلس داخل غرفة واحدة يفتش فيها عن سطورا آمنة، تنير بقاع مظلمة يتواجد بها أرقام معلنة بشكل يومي علي شاشات قاسية لا تخبرنا بشىء سوى أن هناك بشر تحولوا إلى أرقام فى نشرات الأخبار.
سياق الوباء
فى أحد المقالات المكتوبة منذ أيام على موقع “npr” تساءلت ” ميليسا بلوك” حول ما يمنحه أدب الأوبئة لنا، من خلال الحديث مع الدكتورة “أليس كابلان” المحاضرة فى الأدب الفرنسي بجامعة ييل، والتي لم تتخيل أنها ستدرس رواية الطاعون لألبير كامو، بشكل مختلف مثل تلك الأيام خلال محاضراتها ” الاون لاين” و أن طلابها فى مدينة ” ووهان “فى الصين يشعرون بالرواية بطريقة لم يشعر بها أحد من قبل، وهو ما يعني في رأيها أنه يمكن إعادة النظر فى الأدبيات التي كتبت حول الأمراض الجماعية، واختلاف الشعور بها، وإعادة التفكير فيها فى سياق الوباء الحالي كوفيد-19 الذى يعاني منه العالم الآن.
وتقول كابلان إن مبيعات رواية الطاعون قد ارتفعت فى أوروبا لأن القارىء يبحث عن معني فى ظل تفشى المرض، وتؤكد أنها عادت من فرنسا مؤخرا حيث لا يمكنك التقاط صحيفة دون رؤية الإشارة إلى رواية ” الطاعون” وأن الناس في الصحافة الفرنسية يتساءلون ” ما الذى يجب أن تقرأه في هذا الوقت ؟ أنت بحاجة إلى قراءة الطاعون، كما لو كانت لقاحا يمكن أن تساعد على الشفاء.
تربط كابلان بين ما يسقطه ” ألبير كامو” من خلال روايته، وبين ما يحدث الآن، من خلال العاملين في الرعاية الصحية على مستوى العالم ، و صراع الدكتور ” ريو” بطل الرواية وكيف يمكن للمقاومة أن تساهم فى وضع أفضل للحياة، والحديث عن دور الأطباء فى وضع جديد حالي، حيث تروي الرواية حكاية مدينة ” وهران ” الجزائرية التي تعاني من الطاعون فى الأربعينيات وكيف يقف الإنسان أمام الفزع والخوف من مرض الموت الأسود.
” وقف شيخ الحارة عم حميدو أمام دكانه وضرب الطبلة براحته فهرع الناس إليه من البيوت والحوانيت. وبوجه مكفهر راح يقول :
– إنها الشوطة (الوباء)، لا يدري أحد من أين؟ تحصد الأرواح إلا من كتب له الله السلامة.
وسيطر الصمت والخوف فتريث قليلا، ثم مضى يقول :
– اسمعوا كلمة الحكومة!
أنصت الجميع باهتمام، أفي وسع الحكومة دفع البلاء؟
– تجنبوا الزحام!
الفرار من الموت إلى الموت! لشدّ ما تتجهمنا الحياة” !
الحرافيش ” نجيب محفوظ”
عدم يقين
تطرح كابلان فى حديثها عن الأدب المكتوب فى فترات الوباء تعبيرا مميزا وهو ” حالة عدم اليقين العالمي” التي يشعر بها الجميع، حول المدة التي سيستمر فيها الوباء ومدة إغلاق المدن، وهي نفسها للمصادفة نفس مخاوف الجميع الآن، وتقول ” بعد أن غزا النازيون فرنسا لم يكن أحد يعرف كم ستستمر ، اعتقد أن بعض الناس بحاجة إلى التكيف مع عالم جديد بالكامل”.
تتأمل الكاتبة الفقرة الأخيرة من الطاعون التي تحذر من أنه يتربص دائما وينتظر الوقت المناسب، فى إشارة إلى الأمراض التي تهاجم الإنسان بشكل عام كل فترة من الزمن، ووصفتها ” كابلان” فى الحديث بأنها ” رسالة يقظة ضد الرضا عن النفس”.
وتشير الكاتبة إلى أحدى الروايات الأخري ” عام العجائب” لجيرالدين بروكس والتي تدور أحداثها عام 1665 مستندة إلى قصة حقيقية لقرية في إنجلترا أطلق عليها ” قرية الطاعون” وتصف فى الرواية الإجراء الاستثنائى الذى اتخذته القرية “حين قرر أهلها أن يعزلوا أنفسهم طواعية مع إبقاء الطاعون بالداخل ووفقا لبعض التقديرات فقد ثلثي القرية نتيجة وفيات مروعة، وهي تكلفة عالية دفعها سكان القرية الذين كان بإمكانهم النجاة إذا فروا من البلدة لكنهم ضحوا بأنفسهم حتي لا ينتشر الطاعون إلى الخارج والمجتمعات المحيطة، وأنقذوا آلاف الأرواح”، وهنا يمنحنا الأدب تساؤلات حول أنفسنا، وأهمية الخيار الأخلاقى وقرار الحياة والموت، والعيش فى ظل عواقب اختياراتنا، وتربط الكاتبة بين الرواية وبين تساؤل كورونا: ” من سأكون”؟.
هل ستكون أفضل ما لديك؟ أم وحشا أنانيا، واعتبرته تحد لنا جميعا.
وتقترب من ذلك الفكرة التي طرحتها الكاتبة نورا ناجي فى حديثها ل” مصر 360″ واعتبرت اللجوء إلى تلك القراءات في هذه الأوقات المربكة والبحث عن روايات وأفلام تروي حدث مماثل هي محاولة لتطهير النفس، ومشاهدة الأحداث مسبقا وتتبع نهاية سعيدة للبطل مهما ساءت الأمور، مما يمنح القارىء فرصة للتأمل.
وتقول ناجي، نحن نحتاج لمن يخبرنا أن الموضوع غير مرعب للغاية، لأن الرعب يأتي من الجهل، وعدم المعرفة وتلك الأدبيات تمنحنا معرفة ما، واللجوء إليها هي محاولة من الإنسان لإخبار نفسه بأن هناك منطقة آمنة مازالت موجودة، وأن هناك فرصة للنجاة، وهو ما يفسر فى تقدير نورا ناجي الإقبال على الحديث الآن عن الانفلونزا الأسبانية والعودة إلى قراءة الحرافيش خاصة جزئية النجاة من الوباء.
” حتى في أسوأ المحن قد تجد خيراً كافياً يمكنك من احتمال المحنة ”
| العمى، ساراماجو|
وظيفة معطلة
ويري الكاتب السكندري ميسرة صلاح الدين أن اللجوء إلى تلك الروايات أو القراءة عن الأوبئة والمحن الجماعية يعود إلى حب معرفة المستقبل، فالبحث عن أحداث مشابهة، تدل علي أن القارىء بحاول أن يستشف ما سيحدث فى ظل المجهول، والغموض الذى يحيط به، وهو ما يفسر نسبة المشاهدة العالية لبعض الأعمال الفنية التي قدمت عن تلك المراحل فى حياة البشر.
وأردف ” صلاح الدين” أن السرد الروائى يقابله السرد البصري، وجميعها شطوط يلجأ إليها الإنسان عن طيب خاطر فى تلك الفترات الموترة، إضافة الى ولعه بالتنبؤ وقراءة المستقبل، و يضفي على الفكرة وصف ” إعادة تدوير للماضى” للخروج بحكايات جديدة لتكوين المعادلة.
وبشىء من التأمل الممزوج بتحليل الواقع يري ميسرة، أن الفترات التي شهدت وجود مرض الكوليرا أو الطاعون كان الكاتب متأثرا بفكرة القرية والمجتمع الصغير عكس الوقت الحالي فى ظل الميديا، التي تضعنا أمام أرقام وتفرض علي الجميع تفاعلا مختلفَا عن تفاعل الكتاب مع الأوبئة قديما، فتحويل الكارثة إلى إحصاء زاوية مهمة لا يجب أن نغفلها، تؤثر علي التفاعل معها، وبالتالي يري أن وظيفة الأدب فى تلك المرحلة تكون” معطلة” فالكاتب فى تقديره يصبح فى أعلي نقطة من الرصد والتأمل وهو ما قد يجعله يصل لمراحل عالية من الاستقبال تمنعه من مواجهة الحدث، وبعد فترة تحدث عملية استيعاب كامل وطرح رؤيته وهنا يؤدى الأدب وظيفته، وبالتالي من الصعب على الأدب الراهن أن يضع رؤيته لما يحدث، فى ظل الأرقام والإحصائيات التي يتابعها الجميع حول العالم .
أقرأ أيضا احترس .. التدخين يزيد مخاطر الإصابة ب”كورونا
نعود إلي المقال المترجم حيث تستحضر الكاتبة أيضا من خلال رواية ” الحالمون” لكارين طومسون ووكر، مرضا غامضا ينزل فى بلدة كاليفورنيا وهو نوم مميت، قبل أن يحيط الجيش بالبلدة، يصف كاتب الرواية حفل زفاف أخير مع عروس شاحبة ويضع تساؤلات هنا حول حالة العروس ومن يشاركها أحمر الشفاه، وملابسها واستعدادات العرس في ظل الخوف من المرض المنتشر، ويهتم الكاتب بمعرفة كيف يعيش البشر مع عدم اليقين الراديكالي ويصفه بأنه مقاومة من نوع خاص.
“إذا كانا قد تعلما شيئاً معاً؛ فهو أن الحكمة لا تصل إلا عندما لا يعود لها أي نفع”
الحب في زمن الكوليرا، ماركيز
هو نفسه ما طرحته الكاتبة عبلة الرويني ل” مصر 360″، و أكدت أن الأدب فعل مقاومة ، يقاوم أزمنة مختلفة، بما يدور فيها من تفاصيل وأحداث وهموم شخصية أو عامة، سواء كانت تلك التفاصيل مرض أو وباء، أو أشخاص أو مشكلات، ولكن المسألة تختلف فى شكل تلك المقاومة، وكيف يعبر الأديب عن مقاومته، وبالتالي فهي لا تتصور أدب خارج ظروف العصر، كما فعل بدر شاكر السياب حين عبر عن مرضه بشكل مباشر و كتب :” إن الرزايا عطاء”، في حين اختلف علي سبيل المثال الشاعر أمل دنقل فى تلك المقاومة والتعبير عن مرضه وحوله إلى سؤال وجودى، وقال: ” ومتي القلب في الخفقان إطمأن”؟، كلاهما في رأيها حاول تجاوز الأزمة على طريقته الخاصة
وقالت الكاتبة والأديبة فريدة النقاش فى تصريحات ل” مصر 360″ أن كل دور النشر فى الفترة الحالية قامت بإعادة طبع رواية ” الطاعون” والتي كتبها ألبير كامو حول تجربة عاشها بالفعل في الجزائر واستلهمها من تفاصيل حقيقية، وفسرت لجوء القراء لروايات تروي أزمات الأمراض والأوبئة كشكل من أشكال الفضول لزيادة المعرفة حول الظروف التي حدث فيها وباء بعينه يشابه الحال الذى يعيشه الإنسان الآن، واعتبرت تحميله بأكثر من ذلك هي تفسيرات متعسفة.
رصد يومي
وعن التصور المرتبط بالسرد فى تلك الأوقات بشكل اكاديمي يقول د. الضوي محمد الضوي مدرس الأدب العربي الحديث بقسم اللغة العربية بآداب المنيا أن الكتابة تختلف من فترة إلى أخري طبقا للمعطيات الثقافية والمعرفية للزمن، فانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وسرعة نقل المعلومات جعل من جائحة كورونا معركة عالمية موحدة، وذلك ما عبرت عنه الممارسات الرسمية فى الدول للتصدي لعدو خفي، وأيضا توحد ردود الأفعال الشعبية بين ردود أفعال حذرة منساقة للتعليمات الرسمية وأخري مستهترة غير واعية.
وضرب الضوي مثالا بالانفلونزا الأسبانية والتي تعد وباء راح ضحيته الملايين، ولكن لا تكاد تجد لها أثرا فى التدوينات التاريخية لكثير من البلدان، ولا حتي فى الأدب ، لأنهم تقريبا لم يعرفوا بها، أما الآن فحتي إذا وجدت دول فى العالم لم تصب بالكورونا فأخبار المرض فى كل مكان والجميع يهتم، ولها نفس التأثير، وهو ما سينعكس فى وقت الكتابة .
وأردف ” الضوي” أن وظيفة السرد ستتنوع فى الأعمال الحكائية التي ستتناول الكورونا، باختلاف وعي الساردين وهو ما يحدث فى تناول الأحداث الواقعية فى المتخيل السردي، فبعض تلك الأعمال سيكون متأملا نافذا إلى عمق الأحداث يقيم شبكة تخيلية منظمة تفضى إلى رؤى عميقة وفريدة وربما مستشرفة وبعضها سيكون أقرب إلى الرصد اليومي أو التاريخي وبعضها سيتوقف عن كونها جائحة.