قبل أيام، اتجهت أنظار العالم إلى القاعة الكبرى في العاصمة الصينية بكين، أثناء المؤتمر الوطني العشرين للحزب الشيوعي الحاكم. بعد أن شاهد الجميع الرئيس الصيني السابق هو جين تاو، يخرج بشكل غير متوقع من الحفل الختامي للمؤتمر في لحظة دراماتيكية، حيث بدا الرجل البالغ من العمر 79 عامًا مترددًا في مغادرة الصف الأول من الجلسات في قاعة الشعب الكبرى في بكين، بعد أن كان يجلس بجوار الرئيس شي جين بينج.
وكان هو جين تاو يجلس إلى جانب الرئيس الحالي، عندما تقدم نحوه مسئولون واقتادوه بعيدا. بعد تبادل مناقشة استمرت لمدة قصيرة، تحدث فيها جين تاو مع الرئيس شي جين بينج، ورئيس الوزراء لي كه تشيانج، ثم تم إخراجه من القاعة. ليُعلق ستيفن ماكدونل -محرر الشؤون الصينية في بي بي سي- المشهد، بأن ما حدث “جزءا من مظاهر لعبة السلطة والنفوذ في السياسة الصينية. وإزالة رمز يمثل الماضي”.
في اليوم نفسه، وفي الجلسة الختامية للمؤتمر، أعلن الرئيس والأمين العام شي جين بينج، أن الاجتماع كان “نجاحًا كاملاً”. حيث كان معيار النجاح الأول هو توحيد الرؤية داخل الحزب، والذي وصفه بأنه “تحديث على الطراز الصيني”. وهو مصطلح تطور على مدار العقود القليلة الماضية.
في تحليله، يشير هنري جاو، أستاذ القانون بجامعة سنغافورة للإدارة. إلى أن النجاح الذي قصده الرئيس الصيني في الجلسة الختامية “كان بالتأكيد لشخص واحد هو شي نفسه”. حيث استطاع أن يحقق كل أهدافه: رؤية واحدة، وقائد واحد، وحزب واحد.
اقرأ أيضا: مؤتمر الحزب الشيوعي.. الصين و”شي” في مفترق طرق
عقود من التحديث
كان التحديث هو هدف الصين منذ هزيمتها المهينة في حروب الأفيون. واستمر الحزب الشيوعي في التأكيد على الفكرة بعد أن استولى على السلطة في عام 1949 في أعقاب الحرب الأهلية. ولكن معظم الناس في الصين اليوم يربطون المفهوم مع دينج شياو بينج، الذي وضع هدف الإصلاح لتحقيق التحديثات الأربعة. وهي: الصناعة، والزراعة، والدفاع الوطني، والعلوم والتكنولوجيا. بعد أن تولى السلطة عام 1978.
وصف دينج بأنه كان براجماتيا على الدوام. وكان يعلم جيدًا أن التحديث لا يمكن تحقيقه باستخدام نموذج الاقتصاد المخطط القديم، الذي أعاق البلاد تحت حكم ماو تسي تونج. وهكذا اقترح نظرية “المرحلة الأولية للاشتراكية”، التي وفرت التغطية الأيديولوجية الضرورية لتطوير الاقتصاد باستخدام الأدوات الرأسمالية.
في عام 1987، وخلال المؤتمر الثالث عشر للحزب، تم الكشف عن خطة أكثر تفصيلا. والتي قسمت الطريق إلى التحديث إلى ثلاث خطوات: مضاعفة الناتج القومي الإجمالي (GNP) بداية من عام 1980. مضاعفة إجمالي الناتج القومي مرة أخرى ليصبح “مجتمعًا معتدل الرخاء” بحلول نهاية القرن العشرين. ورفع نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي إلى مستوى البلدان المتقدمة بشكل معتدل بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين.
وقد تم دفع الجدول الزمني إلى الأمام من قبل مؤتمر الحزب التاسع عشر عام 1995. الذي أعلن أن التحديث سوف يتحقق بشكل كبير بحلول عام 2035.
يقول جاو: إذا وضعنا جانباً مسألة ما إذا كان الحزب الشيوعي الصيني سيحقق الهدف في الوقت المحدد -وأراهن أنه سيحقق وفقًا للدعاية الخاصة بالحزب- فإن السؤال الأكثر أهمية هو ما الذي سيحدث بمجرد تحقيق التحديث على النمط الصيني؟
يضيف: هنا ندخل إلى منطقة مجهولة، لكنني أقترح، بناءً على قراءتي للرئيس شي، أنه في ظل أيديولوجية الحزب الشيوعي الصيني، فإن هذا يعني نهاية المرحلة الأولية للاشتراكية، وبدء مرحلة أكثر تقدمًا. وربما تغييرات جذرية تتبعها.
زعيم لا جدال فيه
في اقتراحها للخطة الخمسية الرابعة عشرة للصين (2021-2025)، أكدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني هذا الأمر أيضًا. وهو ما بدا في الجلسة الخامسة في عام 2020. والتي تنص على أن أحد أهداف عام 2035 هو إحراز “تقدم جوهري واضح في تحقيق الازدهار المشترك لجميع الناس”.
يشير جاو إلى أنه “إذا كنت تريد بعض الأمثلة الملموسة لما يبدو عليه هذا. فما عليك سوى إلقاء نظرة على التحولات الاشتراكية العظيمة الثلاثة في الصين في الخمسينيات من القرن الماضي، والتي أدت إلى القضاء التام على الملكية الخاصة، والكوميونات الشعبية -مجتمع به مجموعة من الأفراد لهم اهتمامات مشتركة ويتشاركون في الملكية والممتلكات والموارد- وهي الكارثة التي أدت إلى المجاعة الكبرى.
يلفت الأستاذ بجامعة سنغافورة إلى أن هناك هاجس آخر للرئيس الصيني، وهو تركيزه على “قائد واحد”. والذي انعكس لأول مرة في شعار 2016 لأوجه الوعي الأربعة ” الوعي السياسي، والوعي العام، والوعي الأساسي، والاصطفاف ” كما يراهم شي.
وكان شعار عام 2018 للضمانتين الوقائيتين. أي “حماية الموقف الأساسي للأمين العام شي جين بينج في اللجنة المركزية للحزب، والموقف الأساسي للحزب بأكمله”. و “حماية السلطة والقيادة المركزية والموحدة للجنة المركزية للحزب بحزم”.
وفي عام 2021 أصبح هناك “اعتبار الرفيق شي جين بينج نواة للجنة المركزية للحزب وجوهر الحزب بأكمله” و “تأسيس فكر شي جين بينج حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية لعصر جديد باعتباره الفكر الموجه للحزب”.
يؤكد جاو: قد يعتبر المراقبون المفسرون للسياسة الصينية أن مثل هذا التلاعب بالألفاظ تافه وعديم الجدوى، لكنه ليس كذلك. بدلاً من ذلك، فإنه يخدم غرضًا حقيقيًا هو ترسيخ مكانة شي كزعيم أعلى.
وأوضح أنه “على الرغم من كل شيء، لا يزال الجانب النظري للشيوعية مهمًا في التبريرات الذاتية الداخلية للحزب والدعاية. وبالتالي، فإن ما قد يبدو للغرباء على أنه “تلاوة طائشة لكلمات لا معنى لها” من قبل مسؤولي الحزب، يخدم في الواقع غرضًا مهمًا. هو غرس مكانة شي كزعيم لا جدال فيه.
اقرأ أيضا: “مفهوم الأمن القومي الشامل” الصيني.. إحكام القمع بالداخل وتعميمه بالخارج
الخضوع لـ “شي”
بالفعل، تمكن الرئيس شي من تحقيق انتصار كبير لتحقيق مكانته الأسطورية. عبر إدراج التزام في دستور الحزب الشيوعي الصيني المنقح على جميع أعضاء الحزب، لتقوية أوجه الوعي الأربعة.
يلفت جاو إلى أنه “من بين جميع التعديلات في الدستور، يعد هذا التعديل الأهم. لأنه يحول الحزب الشيوعي الصيني بشكل أساسي من حزب سياسي إلى حزب شخصي، بناءً على التركيز على أيديولوجية شي في كل شيء. تم الانتهاء من طقوس الصعود هذه من خلال الإذلال العلني لسلف شي، الرئيس السابق هو جينتاو، حيث أرسل رسالة لا لبس فيها مفادها أن شي هو الزعيم الحقيقي الوحيد”.
يقول: لكي يصبح الزعيم الوحيد الذي يوجه الحزب برؤيته الواحدة، احتاج شي للتأكد من أن الحزب هو حزب واحد: حزبه. فعل ذلك من خلال السيطرة، وإزالة الذين ربما تحدوا سلطته، من خلال عمليات التطهير القاسية في السنوات العشر الماضية، بمساعدة قديرة من وانج كيشان، رجل الأحقاد. ثم وضع قيادة جديدة بالكامل تحت إبهامه، وتتألف بشكل أساسي من أمنائه ومرؤوسيه منذ أن كان مسؤولًا إقليميًا. منهم ثلاثة من الأعضاء السبعة في اللجنة الدائمة الجديدة.
أيضا، يتجلى هذا النهج الجديد بشكل أكثر وضوحًا في عملية اختيار أعضاء اللجنة المركزية العشرين “كما أكد شي، فإن عملية الاختيار لا تتبع أي اتفاقيات حزبية راسخة. بدلاً من ذلك، فإن المعيار الأول هو المعيار السياسي، والذي يتضمن الموقف السياسي، والوعي السياسي، والحكم السياسي، والحدس السياسي، والتنفيذ السياسي.
يوضح جاو: إذا كنت تعتقد أن هذا يبدو غامضًا للغاية، فإن لجنة الاختيار تشرح أيضًا أن المفتاح هو معرفة ما إذا كان المرشح قد عزز أوجه الوعي الأربعة، ونفذ الضمانتين الوقائيتين، وما إذا كان نفذ بأمانة روح تعليمات شي المهمة. بعبارة أخرى، ما يهم أكثر هو ما إذا كنت قد استسلمت، جسديًا وروحيًا، للقوة الجبارة للأمين العام.