في نهاية مارس/آذار الماضي شن الاحتلال الإسرائيلي حملة أمنية على الضفة الغربية المحتلة تحت عنوان “كاسر الأمواج”. كان الغرض من تلك الحملة إيقاف العمليات الفدائية المتصاعدة والتي امتدت إلى الداخل المحتل. لكن بعد مضي ما يقرب من 6 أشهر واعتقال 1500 فلسطيني واغتيال ما يقارب 90 فلسطينيا لا تزال أمواج الضفة لا تهدأ ولا تنكسر.
خلال الأسابيع الأخيرة لم يكد يمر يوم دون الإعلان عن اشتباكات المقاومين بالرصاص مع قوات الاحتلال عند اقتحامها قرى الضفة المختلفة لاعتقال مطلوبين. والأهم أن رقعة المقاومة امتدت جغرافيا. فبعدما انحصرت في جنين ثم نابلس امتدت الآن لطوباس وسلواد والخليل حتى داخل المستوطنات.
في الرابع عشر من سبتمبر/أيلول 2022 استُشهد مقاومان فلسطينيان بعد أن قتلا ضابطًا في جيش الاحتلال خلال اشتباكات عند حاجز الجلمة. وقال جيش الاحتلال إن الضابط قُتل في تبادل لإطلاق النار عندما “اقترب مشبوهان” من معبر الجلمة قرب جنين (شمال الضفة المحتلة). حيث وقعت صدامات ليلية بين الجانبين. فيما ذكرت تقارير فلسطينية أن المنفذين اقتربا لمسافة خمسة أمتار. وهو “الضابط الأعلى رتبة الذي يُقتل في إحدى العمليات منذ أكثر من ثماني سنوات” وفق “هاآرتس“.
تلا تلك العملية إلقاء عبوة محلية الصنع استهدفت قوات الاحتلال خلال اقتحامها قرية “جبع”. واستهداف حاجز “دوتان” (جنوب غرب جنين) بالرصاص.
وتكرّر إطلاق النار صباح اليوم التالي في قرية “كفر دان” (شمال غرب جنين). وفي المساء أُصيب مستوطن في عملية إطلاق نار في مستوطنة كرمل (جنوب الخليل).
يقول خضر عدنان -القيادي في الجهاد الإسلامي: “المقاومة المسلحة في الضفة تتوسع. ووصلت إلى الأجزاء الوسطى من الضفة الغربية، ما مهد الطريق لتوسعها في كامل الضفة الغربية. حتى الآن تشمل المقاومة في الضفة الغربية شبابًا تأثروا بمن سقطوا شهداء في مخيم جنين ونابلس ولم تتخذ بعد طابعًا تنظيميًا”.
وتعليقًا على التحديات التي تحول دون تحول هذا العمل المسلح إلى انتفاضة كاملة أضاف لموقع “المونيتور“: “هذا يتطلب جهودًا من جميع الفصائل لتوفير الإمكانات اللازمة لجميع مقاتلي المقاومة. كما أن الاعتقالات والاغتيالات والمطاردات اليومية التي يقوم بها الاحتلال خلال غاراته على المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية. والتعاون الأمني بين إسرائيل وأجهزة الأمن الفلسطينية تحول دون وقوع مواجهة واسعة النطاق”.
المخاوف الإسرائيلية تتزايد
تلك العمليات المتكررة والمتصاعدة انعكست في المخاوف التي أظهرها كبار مسئولي الأمن الإسرائيلي. والتحركات الدبلوماسية من أجل إيقاف عمليات المقاومة وبحث طرق تهدئتها مع السلطة الفلسطينية. وقد شهد التنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل تراجعًا ملحوظًا في الأشهر الأخيرة. لا سيما في مناطق شمال الضفة مثل جنين ونابلس. وردا على ذلك صعدت القوات الإسرائيلية من عملياتها واقتحاماتها الأمنية.
وقال وزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس الخميس 15 سبتمبر/أيلول 2022 إن الواقع بالضفة الغربية بات “أكثر تعقيدًا من الماضي”.
وهو تصريح مماثل لما قاله رونين بار -مدير الشاباك (جهاز الأمن العام)- قبل أسبوع خلال لقائه باربرا ليف -مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشئون الشرق الأوسط. إذ أوضح بار أنه قلق للغاية بشأن وضع السلطة الفلسطينية وقدرة قواتها الأمنية على العمل. وشدد على أن “الوضع على الأرض أسوأ مما يبدو”.
وكان مدير الشاباك قال إن عمليات إطلاق النار ضد أهداف إسرائيلية في الضفة الغربية زادت بنسبة 30% خلال عام 2022 مقارنة بالعام الماضي. لتصل إلى أكثر من 130 عملية. فيما رصد مركز معلومات فلسطين (مُعطى) 132 عملية خلال الأشهر الثلاثة الأولى فقط من العام. وأشار إلى أن شهر أغسطس/آب وحده شهد 73 عملية كان أغلبها في جنين ونابلس.
“منذ الانتفاضة الثانية تقريبًا لم تشهد الضفة كثافةً في عمليات إطلاق النار كما شهدت منذ بداية العام الجاري. أصبحت عمليات إطلاق النار جزءًا أساسيًا من الحالة الشعبية المُقاومة. تتكرر أخبارها يوميًا. سواء في التصدي لاقتحامات جيش الاحتلال للمخيمات والمدن والقرى. أو في الاستهداف المتكرر للحواجز العسكريّة ونقاط الجيش ومركباتِهِ ومركباتِ المستوطنين”. تقول الصحفية الفلسطينية شذى حماد وهي معنية بتغطية شئون المقاومة في الضفة.
الاحتلال يُحمّل السُلطة مسئولية “التردي”
يُعزي الاحتلال مسئولية هذه الحالة الأمنية “المتردية” إلى السلطة الفلسطينية التي لم تعد قادرة على دخول أماكن مثل نابلس وجنين.
وعقد رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد اجتماعا لتقييم “الوضع الأمني” في الضفة في السابع من الشهر الجاري.
وذكر لابيد لاحقا أنه “حيثما لا تحافظ السلطة الفلسطينية على النظام لن نتردد في التحرك. الجيش الإسرائيلي والشين بيت (جهاز الاستخبارات الداخلية) مستعدان لأي سيناريو لمنع الإرهاب من رفع رأسه. إسرائيل ستُلحق ضررا شديدا بأي شخص يحاول إلحاق الأذى بها”.
وذكرت “القناة 12” العبرية أنه خلال جلسة لابيد لتقييم الوضع الأمني “ألقى جميع المشاركين باللوم على رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في تدهور الأوضاع”. مضيفين أن التقديرات تشير إلى أن الوضع يمكن أن يظل “مضطربًا”.
ولكن حسين الشيخ -وزير الشئون المدنية (المعني بالتنسيق مع الاحتلال) رفض هذه الاتهامات خلال لقائه مع الدبلوماسية الأمريكية ليف باربرا. قائلا: “يعتقدون أن الجيش الإسرائيلي سيعمل أثناء الليل وسنعمل نحن خلال النهار؟ لا يمكننا العمل عندما يدخل الجيش الإسرائيلي مدننا كل يوم ويعتقل الناس ويقتلهم”.
والتقت باربرا بعد ذلك بمستشار الأمن القومي الإسرائيلي إيال حولاتا. فيما وصفته مصادر إسرائيلية -لموقع “أكسيوس” الأمريكي- بأنه اجتماع “صعب”. وأكدت “ليف” أن السلطة الفلسطينية يمكن أن تنهار وأن “الكرة في ملعب إسرائيل” عندما يتعلق الأمر بتقويتها وتثبيتها بحسب المصادر الإسرائيلية.
يُذكر أن إسرائيل رفضت دعوة الولايات المتحدة لها لمراجعة قواعد الاشتباك التي يفرضها الاحتلال في الضفة الغربية. وذلك في إطار ما أُسمي “خطوات المساءلة” عن مقتل الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة.
ورد وزير الدفاع الإسرائيلي: “لا ينبغي أن يكون هناك تدخل سياسي في التعليمات الخاصة بفتح بالنار. رئيس أركان الجيش هو من يقرر التعليمات بفتح النار في كل الساحات”.
عملية كاسر الأمواج “فشلت”
هكذا تشير المؤشرات إلى احتمال حدوث تصعيد كبير في الثلث الأخير من العام الجاري في الضفة الغربية. في ظل تزايد الاعتداءات الإسرائيلية اليومية وتسريع المشاريع الاستيطانية والاقتحام اليومي للمدن والقرى والبلدات واحتمال حدوث غارة للجيش الإسرائيلي واسعة النطاق على شمال الضفة الغربية. “ما قد يؤدي إلى انفجار الوضع برمته” بحسب “المونيتور”.
ونقل المحلل العسكري في صحيفة “يديعوت أحرونوت” رون بن يشاي عن مصدر أمني إسرائيلي رفيع المستوى قوله: “الضفة الغربية -خاصة الجزء الشمالي منها- تغلي. والأمور قد تنزلق إلى انتفاضة شعبية عنيفة. يجب على المؤسسة الأمنية الاستعداد لمثل هذه التطورات ومحاولة منعها”.
ويؤكد محللون إسرائيليون فشل عملية “كاسر الأمواج” الإسرائيلية لأنها أثارت موجات جديدة من المواجهة في مناطق أخرى من الضفة الغربية خارج مخيم جنين. ويرونها تهديدًا يدل على تراجع السلطة الفلسطينية وتنامي الدعم الشعبي للمقاومة وفشل التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية في منع مزيد من المواجهات.
وانعكس ذلك في مخاوف الإدارة الأمريكية الحادة من انفجار الوضع وانهيار السلطة الفلسطينية. إذ قالت مساعدة وزير الخارجية لشئون الشرق الأوسط بعد جولتها مع المسئولين الفلسطينيين والإسرائيليين “إن الظروف الأمنية في الضفة الغربية تقلقنا بشكل كبير. كما أنها تقلق إسرائيل والسلطة الفلسطينية. نريد ضمانا بأن يكون التعاون الأمني قويًا ومستمرًا إلى أقصى حد ممكن”. وأضافت: “يمكن لتحسين الوضع الاقتصادي أن يساعد في تحسين الظروف الأمنية”.
ورد نبيل أبو ردينة -متحدث الرئاسة الفلسطينية- في بيان بأن “الإدارة الأمريكية يجب أن تضغط على الحكومة الإسرائيلية لوقف عدوانها بدلاً من النظر في تبرير جرائم إسرائيل مع تحميل السلطة الفلسطينية المسئولية”.
بينما قال رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي في مؤتمر أمني في تل أبيب: “نريد من السلطة الفلسطينية أن تتصرف بحسم ضد الإرهاب. في الفترات التي فعلوا فيها ذلك بشكل فعال لم تكن إسرائيل مطالبة بالقيام بمثل هذا النشاط المكثف”. فيما دافع بيني جانتس عن بقاء السلطة الفلسطينية في السلطة قائلا إن البديل سيكون “أسوأ وأكثر راديكالية”.
والأمن الفلسطيني -وفقًا لتصريحات حسين الشيخ الأخيرة لوسائل الإعلام الإسرائيلية- “لا يستطيع القيام بالمهمّات المطلوبة منه بسبب اقتطاع إسرائيل جزءًا من أموال المقاصة (الضريبة)”. لذا “قد تُضطر قوات الاحتلال بضغط أمريكي أو عبر خطوة تكتيكية إلى التراجع وتمويل سلطة التنسيق الأمني للقيام بعمليات القمع والاعتقال بدلاً من المحتل” بحسب أليف صباغ -المختص في الشأن الإسرائيلي.
ويعتقد الكاتب الأردني ماهر أبو طير أن الوضع في الضفة خطير ومفتوح على كل الاحتمالات. “الاقتحامات الإسرائيلية للمسجد الأقصى تتوالى يوميا. وتشتد من حيث كثرتها وأعداد المشاركين. وسوف تشتد أكثر خلال نهاية الشهر الحالي (يتزامن مع أعياد يهودية). وفي المسار الموازي هناك توحش إسرائيلي واعتقالات وقتل واقتحامات بسبب العمليات التي يقوم بها شباب يصفهم الإسرائيليون بكونهم الأخطر لأنهم لا ينتمون إلى أي إطار تنظيمي يمكن التفاهم معه”.
وكانت صحيفة “يديعوت أحرونوت” قالت إن رئيس الوزراء الإسرائيلي تلقى 70 تحذيرًا أمنيًا من تنفيذ عمليات فلسطينية خلال فترة الأعياد اليهودية. وحسب الصحيفة العبرية فإن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية سجلت عددا قياسيا من التحذيرات المتعلقة بمحاولات العمليات.
الاستعانة بمصر ودول عربية
القناة “13” العبرية نقلت عن مسئولين إسرائيليين كبار قولهم إن تل أبيب تبذل جهودًا كبيرة لإقناع دول عربية بالضغط على الرئيس محمود عباس وإجباره على عدم السماح بتصعيد الأوضاع في الضفة.
وأشارت القناة إلى أن إسرائيل تركز بشكل خاص على التواصل مع كل من مصر والأردن في هذا الشأن. وكذلك تشارك قطر في هذه التحركات. وقد تواصل جانتس عبر قنوات خاصة مع دول في المنطقة للعمل على تطويق التصعيد عبر الضغط على “عباس”.
وبحسب مصادر فلسطينية فإن وساطة مصرية قادت جهودًا واسعةً خلال الأيام الماضية لتهدئة الأوضاع في الضفة. وقالت المصادر إن “محمود عباس طلب أخيرًا من القاهرة التوسط لدى حكومة الاحتلال للبحث عن صيغة توقف الاقتحامات الإسرائيلية لبلدات الضفة الغربية. والتي تتسبب في إظهار السلطة في موقف الضعيف أمام شعبها. وفي مزيد من الإضعاف لتأثيرها ووزنها في المعادلة الفلسطينية لصالح فصائل أخرى مثل حماس والجهاد”.
وهدف الوساطة المصرية -بحسب المصادر- هو “إعادة تصحيح وضع السلطة في الضفة لمنع انفجار الأوضاع هناك بالشكل الذي يحدّ أيضًا من دور الأجهزة الأمنية التابعة لها”.
وتربط مصر بشكل وثيق في وساطتها بين الأوضاع في القدس المحتلة والضفة الغربية والتهدئة في قطاع غزة.
القناة الإسرائيلية “كان 11” كانت كشفت عن لقاء بين رئيس جهاز المخابرات في السلطة الفلسطينية ماجد فرج ووزير الشئون المدنية حسين الشيخ ومسؤولَيْن أمنيَّيْن بارزين في حكومة الاحتلال قائلة إن المسؤولَين الأمنيَّين الإسرائيليين أحدهما من جهاز الأمن العام “الشاباك” والآخر من جيش الاحتلال نفسه. وهو ما يبدو أنه تم بوساطة مصرية.
في المقابل كشف مصدر في “حماس” لصحيفة “العربي الجديد” نقل الحركة “رسائل تحذير شديدة اللهجة” لحكومة الاحتلال عبر الوسيط المصري بشأن الوضع في مدينة القدس ومحيط المسجد الأقصى خلال الفترة المقبلة التي تشهد الأعياد اليهودية.
وبحسب المصدر الحمساوي فإن الحركة “حذرت من السماح للمتطرفين اليهود باقتحام المسجد الأقصى وانتهاك حرمة المقدسات الإسلامية”. مشددًا على أن الحركة لا تزال تتمسك بمعادلة القدس وغزة.
ووفقا لـ”كان 11″ فقد حذر مسئولون مصريون سلطات الاحتلال من أن الوضع في الضفة المحتلة قد يخرج عن نطاق السيطرة.
كما وجهوا انتقادا لجيش الاحتلال بسبب تزايُد اقتحاماته للضفة بحسب ما نقلت عن مسئولين مصريين لم تسمّهم. وأنه إذا استمر الوضع في الضفة على ما هو عليه فإن إسرائيل “ستواجه انفجارا وفوضى سياسية في الضفة مع اقتراب اليوم الذي يلي “أبو مازن” (أي رحيل محمود عباس)”.
تشير الصحفية شذى حماد إلى أنه “صحيح أنّ الحالة النضالية في الضفّة الغربيّة لم تتطور لحالة تنظيميّة واضحة. لكنها تبدو اليوم في طور التوسع والمراكمة على تجارب الماضي. وتحمل في كلّ مرة معها جانبًا جديدًا. وبينما تبني (إسرائيل) أملها على سياسات الضبط والقمع والاغتيال والاعتقال فإن النتيجة تكون في الغالب عكسية. إذ يتحوّل المطارد أو الشهيد إلى أيقونةٍ جديدة يلتف حولها الشبان ويسعون إلى اتباع طريقها”. ولنا في إبراهيم النابلسي عظة.