تأخذ العلاقات بين مصر وتركيا منحى تصاعديا نحو التطبيع في أعقاب اللقاء الذي جمع رئيسي البلدين عبد الفتاح السيسي ورجب طيب أردوغان مؤخرا في عاصمة قطر. وذلك على هامش افتتاح كأس العالم لكرة القدم. وإشارات وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو لرفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين “قريبا”.
الرئيس التركي كشف عقب لقائه نظيره المصري عن المطلب الرئيسي الذي ترغب بلاده بتحرك مصري داعم لخدمته. والذي يتمثل في أن “يقول المصريون لمن يتخذ مواقف معادية ضد تركيا في منطقة المتوسط “نريد إرساء السلام في المنطقة” -وفق ما قاله للصحفيين على متن الطائرة العائدة من قطر.
الصراع في شرق المتوسط يعد الملف الأبرز على قائمة أولويات الرئيس التركي قبل الذهاب للانتخابات الرئاسية المقررة في يونيو/حزيران المقبل. حيث كان القاسم المشترك في التحركات التركية مؤخرا بين التعامل المباشر مع اليونان وبين التحرك في ملفات إقليمية ضاغطة على القوى الدولية الكبرى لامتلاك أوراق تساعد في تعزيز موقفه في الصراع الدائر على المياه الاقتصادية في المنطقة التي باتت تمثل مستقبل الطاقة في الشرق الأوسط.
أهمية ملف شرق المتوسط بالنسبة لتركيا حاليا تعكس بالتبعية أهمية أوراق اللعب التي تملكها مصر. حيث علاقاتها المباشرة مع أعداء أنقرة التقليديين والمتمثلين في اليونان وقبرص.
ليست ليبيا وحدها
ومن هنا يقتضي على صانع القرار المصري قبل اتجاه القاهرة إلى تطوير علاقاتها بأنقرة والجلوس إلى موائد المفاوضات مجددا تقييم أوراق اللعب التي بيده وتحتاج تركيا إلى مبادلتها معه بمصالح مصرية بشكل جيد. فما يؤرق مصر من تركيا ليس وجود الأخيرة في ليبيا فقط وتهديدها لمصالح مصر ونفوذها في مناطق وجودها التاريخية حيث امتدادات الأمن القومي المصري من الجهة الغربية. أو رعاية أنقرة لجماعة الإخوان واستضافة قياداتها على أراضيها. ولكن الأمر يمتد لأبعد من ذلك. حيث تزايد النشاط التركي في مناطق تتقاطع مع المصالح المصرية المباشرة في القارة الإفريقية. وبالتحديد في منطقتي القرن الإفريقي وشمال إفريقيا.
من القوة الناعمة إلى الصُّلبة
كان العام الماضي شاهدا على طفرة كبيرة في مبيعات السلاح التركي إلى إفريقيا. ما شكل ذروة لاستراتيجية تركية متعددة الأبعاد لدعم حضورها في سوق الصناعات الدفاعية الإفريقية. ما يعد امتدادا للتطورات الكبيرة التي شهدها هذا القطاع في السنوات الأخيرة.
فوفقا لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام انتقلت أنقرة من المرتبة 7 بين أكبر مستوردي السلاح عام 2014 إلى المرتبة 20 عام 2020. كما احتلت المرتبة 13 بين كبار مصدري السلاح في العام نفسه.
ووفقا لجمعية المصدرين الأتراك فقد حققت إفريقيا عام 2021 أعلى زيادة في الصادرات العسكرية وفق المناطق. حيث زادت بنسبة 700 بالمئة من 41 مليون دولار إلى 328 مليون دولار في الأحد عشر شهرا الأولى من العام المذكور.
وبحسب الأرقام والبيانات المتاحة في تقارير رسمية يبيع الأتراك المعدات المتعلقة بصناعة الطيران والمعدات الإلكترونية والتقنية وعربات النقل المدرعة والسفن لإفريقيا. ومن أهم المشترين وفقا لمبيعات 2021 بوركينا فاسو التي زادت وارداتها من 92 ألف دولار إلى 8 ملايين دولار. وكذلك تشاد من 249 ألف دولار إلى 14.6 مليون دولار. والمغرب من 505 آلاف دولار إلى 82.8 مليون دولار.
وتم تصدير ما قيمته 63.9 مليون دولار إلى تونس بزيادة 645 في المئة. وارتفعت الصادرات التركية إلى إثيوبيا من 234 ألف دولار إلى 94.6 مليون دولار. فيما بلغت الصادرات العسكرية لرواندا -إحدى دول حوض النيل- 28.7 مليون دولار.
تركيا وإفريقيا
ووقعت تركيا اتفاقيات مع نحو 25 دولة إفريقية في قطاعي الدفاع والأمن. منها رواندا والسنغال والكونغو ومالي ونيجيريا وإثيوبيا والسودان.
وتضمنت هذه الاتفاقيات -بجانب التصدير العسكري- جوانب متعلقة بالتعاون في التصنيع العسكري كما الحال مع جنوب إفريقيا. وتدريب قوات الجيش حيث تلقى قرابة 8000 جندي جامبي تدريبات تركية. كما تلقت الشرطة في أكثر من 10 دول إفريقية تدريبات أمنية في تركيا في إطار مشروع التعاون الدولي لتدريب الشرطة. ما يعني أن هناك أجيالا كاملة في تلك المؤسسات العسكرية والأمنية في هذه الدول سيكون ولاؤها لأنقرة مستقبلا. وهذا نفوذ متزايد لتركيا يحاصر مصر في مناطق نفوذها الطبيعية.
الأمر لم يتوقف عند عمليات التصدير والتدريب فقط. ولكن امتد إلى إقامة تركيا قواعد عسكرية في القارة. ففي سبتمبر/أيلول 2017 دشنت تركيا قاعدة عسكرية في مقديشيو. حيث يعد الصومال الذي يتمتع بميزات جيوستراتيجية هامة أحد أهم ساحات النشاط التركي في إفريقيا. وفي هذا الإطار فإن الهدف المعلن لهذه القاعدة هو تدريب قوات الجيش الصومالي. حيث يتوقع أن يتم تدريب 10000 جندي سنويا.
وكشفت صحيفة “يني شفق” المقربة من الحزب الحاكم التركي أن تركيا تسعى لاستخدام قاعدة “الوطية” العسكرية في ليبيا كنقطة ارتكاز رئيسية في إفريقيا بجانب تحويل ميناء مصراتة إلى قاعدة بحرية للانتشار الدائم للسفن التركية في القارة.
هذا التقدم اللافت للحضور العسكري التركي في إفريقيا بوجوهه المختلفة يشير بوضوح إلى انتقال أنقرة من الاعتماد على القوة الناعمة في تلك المناطق إلى سياسات القوة الصلبة.
غاز “المتوسط”
اكتسبت إثيوبيا أهمية بارزة ضمن الاستراتيجية التركية القائمة على تعزيز حضورها في إفريقيا. واكتساب نقاط قوة تضغط بها على خصومها ومنافسيها دولياً وإقليمياً. حيث تتمتع أديس أبابا بثقل جيوسياسي كبير في القرن الإفريقي وشرق إفريقيا عمومًا. إضافة إلى أهميتها في التوازنات داخل حوض النيل في إطار الصراع بين القوى الإقليمية في الشرق الأوسط. ما يمكن أنقرة من امتلاك أوراق ضغط على القاهرة بعد استبعادها تركيا من منتدى غاز شرق المتوسط. لذا شهدت العلاقات التركية-الإثيوبية نقلة كبيرة بالتوازي مع التوتر الذي طبع علاقة القاهرة وأنقرة.
في 18 أغسطس/آب 2021 زار رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أنقرة. ومثلت الزيارة نقطة انعطاف هامة بين البلدين. خاصة أنها جاءت بعد دعم تركي لحكومته في معركتها ضد تمرد إقليم تيجراي. ليعقب ذلك أيضا تأكيد الرئيس التركي استعداد بلاده للعب دور الوساطة في تسوية الأزمة الحدودية بين السودان وإثيوبيا. وذلك بعد أن وجهت أديس أبابا طلبا بذلك إلى أنقرة في فبراير/شباط من العام ذاته. وهو الإعلان الذي رحب به السودان في خطوة مثلت قلقا بالغا للقاهرة التي تعول على اصطفاف الخرطوم إلى جانبها في أزمة سد النهضة.
استثمار تركيا إفريقيا
وتعد تركيا ثاني أكبر مستثمر في إثيوبيا بعد الصين. وتتوزع استثماراتها في قطاعات ومشروعات متعددة. من أبرزها خط السكك الحديدية الرابط بين جيبوتي وإقليم تيجراي. ويعمل فيه أكثر من 3 آلاف عامل تركي. فيما ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين خلال العامين الأخيرين بقيمة 200 مليون دولار ليصل إلى 650 مليون دولار. في وقت تعمل فيه نحو 200 شركة تركية في إثيوبيا وتوظف نحو 30 ألف إثيوبي تقريبًا.
في المجمل فإن أزمة سد النهضة -التي ظلت عصية على الحل خلال الفترة الماضية أمام التعنت الإثيوبي- من الممكن أن تجد القاهرة مسارا جديدا لها في ظل الحديث عن رغبة جادة من جانب أنقرة لتطبيع العلاقات مع القاهرة في ضوء المنفعة المتبادلة. في الوقت الذي يسعى فيه رئيس الحكومة الإثيوبية إلى نقل العلاقات مع تركيا إلى مستوى التحالف الاستراتيجي.
عين تركيا على الجزائر
حال استمرار تركيا بوتيرة العمل لتعزيز حضورها إفريقيا ستجد مصر نفسها سريعا محاصرة بطوق تركي. وسيكون عليها العمل على كسره حتى لا يضيق الخناق. ما يقلل خيارات القاهرة وتحركاتها في قضايا الإقليم.
فتركيا تولي حاليا أهمية قصوى لتعزيز موقعها في الجزائر عبر استغلال فرصة قانون الاستثمار الجديد بالاستحواذ على فرص الاستثمارات الحكومية المفتوحة. وتجسيد طموح أنقرة لتصبح الشريك المفضل والموثوق للجزائر. فضلا عن تأمين حاجياتها من النفط والغاز في ظل المنافسة الشديدة بين المستهلكين الكبار. ووضع قدم على أرض صلبة للتمدد في المنطقة المغاربية وإفريقيا. خاصة أن الجزائر أبدت تمسكها بعلاقاتها مع الأتراك رغم تحفظ دول عربية على ذلك كما ظهر في القمة العربية الأخيرة.
وكالة الأناضول التركية الرسمية أشارت مؤخرا إلى رغبة أنقرة في توسيع مشروع الامتداد التركي في المنطقة والقارة الإفريقية عموما انطلاقا من الجزائر. وإلى رغبتها في منافسة القوى الكبرى في معركة الصراع على النفوذ في القارة السمراء. لافتة إلى تركيز الأنظار الأوروبية على مصادر الطاقة في إفريقيا. ما يضع المنتجين كالجزائر ونيجيريا وأنجولا تحت مجهر الأتراك الذين يعملون على المتابعة الدقيقة وعدم تفويت الفرصة للدخول على خط المنافسة انطلاقا من الجزائر.
إذًا لم تفوت تركيا أي فرصة وعمدت إلى توثيق علاقتها بالجزائر باتفاقيات في مختلف المجالات. وكانت الزيارة التي قادت الرئيس الجزائري إلى تركيا خلال شهر مايو/أيار الماضي تُوجت بإبرام 15 اتفاقية بين البلدين تشمل مختلف القطاعات. بما فيها المجالات الحيوية كالتسليح وصناعة السفن الحربية والطائرات المسيرة والطاقة والمعادن.
وشهدت الزيارة تأكيد وزير الدفاع التركي خلوصي أكار أن “التعاون بين تركيا والجزائر سيقدم إسهامات هامة للسلام في المنطقة وليس فقط للبلدين وقواتهما المسلحة” في إشارة إلى تطلعات أنقرة تجاه المنطقة.