مع إصرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الاستمرار في عمليته “الخاصة” بأوكرانيا. أدرك القادة والمسؤولين في مختلف أنحاء العالم، أن عالم القطب الواحد إلى زوال. بدأ الجميع الاستعداد لحقبة جيوسياسية الجديدة التي أطلقتها أكبر حرب شهدتها أوروبا منذ عام 1945. بعد انحدار النازية.
مثل بقية القادة، يسعى قادة دول الشرق الأوسط لموضع واضح -وربما مميز- في العالم الجديد. الذي يشهد تعاظم المطالب الإقليمية، وسط قلة الموارد، وتغيرات مناخية تهدد بفناء أجزاء بعينها من الكوكب. في الوقت نفسه، يرتعب العالم من “الخيار النووي” الذي تلّوح به روسيا في حال تهديد تقدمها في الأراضي الأوكرانية.
هل يكون النفط الإيراني حلًا؟
الآن يتسارع النقاش في واشنطن مدعومًا بالأرقام: ما هو سعر النفط؟ ماذا يحدث في البورصة؟ كم عدد اللاجئين الفارين؟ حتى الآن -رغم ارتفاع أسعار الوقود- لم تصبح الأزمة قضية حية في السياسة الداخلية الأمريكية. لكن، بينما تحتدم المعركة للفوز بـ “كييف”. تتوجه أنظار العديد من حكومات الخليج العربي إلى فيينا، حيث تقترب المفاوضات بشأن إحياء الاتفاق النووي الإيراني من نهايتها.
بالنسبة لإدارة بايدن، سيكون التوصل إلى اتفاق في فيينا هذا الأسبوع بمثابة تتويج لإنجاز دبلوماسي. كذلك، يبدو أن واشنطن في عجلة من أمرها لإنهاء العقوبات المفروضة على إيران. على أمل أن يُطرَح النفط الإيراني للبيع في الأسواق. ويساعد على خفض الأسعار التي ارتفعت بصورة حادة بسبب النزاع.
يتساءل سايمون هندرسون. مدير برنامج برنشتاين حول الخليج وسياسة الطاقة في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: هل التحول إلى اللون الأخضر هو الحل أم أنه حلم متزايد؟ هل لدينا الوقت للعب بالأفكار؟ والأهم من ذلك، هل المواقف السياسية الحالية فائزة بالأصوات أم خاسرة في انتخابات التجديد النصفي لشهر نوفمبر/ تشرين الثاني؟
هناك جانب آخر يجب مراعاته. وهو ما إذا كان تحرير إيران من العقوبات بموجب اتفاق نووي جديد معلق قد يوفر النفط للعالم. والذي لا يريد شرائه من روسيا بوتين. تبدو هذه الفكرة سخيفة، لكن تعليق وزير النقل الأمريكي بيت بوتيجيج الأسبوع الماضي عندما طُرِح الافتراض عليه، أجاب أن “جميع الخيارات مطروحة على الطاولة”.
لا توجد عقوبات رسمية على النفط والغاز الطبيعي الروسي. لكن غير الرسمية آخذة في الظهور ويمكن أن تنمو بشكل كبير. على نحو متزايد، لا تريد شركات الطاقة الارتباط بروسيا. ومن هنا جاء ارتفاع الأسعار، الذي تم قياسه الأسبوع الماضي بالسنتات في المضخات الأمريكية. يلفت هندرسون إلى أن الزيادة هذا الأسبوع يمكن أن تكون أكثر من ذلك بكثير.
التزامات واشنطن تجاه الشرق الأوسط
وفق تحليل قصير نشرته Foreign Policy. يشير ديفيد شينكر، مدير “برنامج السياسة العربية” في معهد واشنطن. والذي شغل سابقاً منصب مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى خلال إدارة ترامب. بدأت حرب روسيا في أوكرانيا تمتد إلى الشرق الأوسط. حيث لم ينس شركاء واشنطن في المنطقة. أن الولايات المتحدة -في عام 1994 – أعطت ضمانات أمنية لأوكرانيا مقابل تخلّي أوكرانيا عن الأسلحة النووية التي ورثتها عن الاتحاد السوفيتي.
وفي يناير/ كانون الثاني الماضي، أعطى البيت الأبيض ضمانات مماثلة للإمارات. بعد تعرّضها لهجوم بالصواريخ والطائرات المسيرة من مليشيا الحوثي المدعومة من إيران في اليمن. ورداً على الهجمات، أكد مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان للإمارات التزام الولايات المتحدة “الثابت”. وتعهَّدَ بأن واشنطن “ستقف إلى جانب شركائها الإماراتيين ضد جميع التهديدات لأراضيها”.
فضلاً عن ذلك، قدّمت واشنطن التزامات أمنية صريحة أو ضمنية للعديد من شركائها القدامى في الشرق الأوسط. منهم المملكة العربية السعودية، ومصر، وقطر، وإسرائيل. مع التأكيد على أن البلدان الثلاثة الأخيرة شريك رئيسي من خارج حلف “الناتو”. تأكيداً على هذا الكلام. جدّد وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن التزام واشنطن “الصارم” والدائم تجاه إسرائيل. خلال زيارة قام بها للمنطقة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
في حين التزمت إدارة بايدن بضماناتها الأمنية الأخيرة من خلال نشر طائرات مقاتلة من طراز ” F22″ وإرسال مدمرة صاروخية إلى الإمارات. لكن يبدو أن أبو ظبي تشكك في التزامات الولايات المتحدة. فمنذ ذلك الحين، أعلنت الإمارات عن شراء 12 طائرة تدريب مقاتلة صينية من طراز “L15″، مع إمكانية شراء 36 طائرة أخرى.
جاء هذا الإعلان بعد أشهر قليلة من كشف صحيفة “The Wall Street Journal” عن قيام الصين ببناء منشأة عسكرية في ميناء شمال العاصمة الإماراتية. بعد وقت قصير من ذلك الكشف، في ديسمبر/ كانون الأول 2021. علّقت أبو ظبي مفاوضاتها مع واشنطن لشراء 50 طائرة من طراز “F35” بقيمة 23 مليار دولار.
السعودية تدافع عن نفسها
تعلّمت السعودية أيضاً عدم الاعتماد على الولايات المتحدة. فبعد الهجوم الإيراني بصواريخ كروز الذي تعرّضت له منشأة بقيق لمعالجة النفط التابعة لشركة “أرامكو” السعودية عام 2019. أرسلت إدارة ترامب ما يقرب من 3000 جندي أمريكي وسربين من المقاتلات وبطاريات الدفاع الجوي لطمأنه السعودية.
غير أن العلاقات بين أمريكا والمملكة فترت في عهد بايدن. حتى مع بقاء واشنطن ظاهرياً “ملتزمة” بتوفير المعدات والتدريب والمتابعة اللازمة لحماية السعودية والمنطقة. من آثار الإرهاب المزعزعة للاستقرار، ومكافحة النفوذ الإيراني، والتهديدات الأخرى. لكن بعد أن تعلّمت السعودية بأن الالتزامات الأمريكية قد تكون متقلبة، يبدو أنها تتعاون مع الصين لبناء ترسانتها الخاصة من الصواريخ الباليستية، وفقاً لصور الأقمار الصناعية.
كذلك، رفضت الرياض طلبات إدارة بايدن لزيادة إنتاج النفط للمساعدة في تخفيف الارتفاع الحاد في الأسعار العالمية الذي تفاقم بسبب حرب روسيا على أوكرانيا. بدلاً من ذلك، مع اقتراب سعر النفط من 120 دولاراً للبرميل الواحد. ستلتزم السعودية بالحصص المنصوص عليها في اتفاقها المبرم مع روسيا في إطار “أوبك بلس”.
بالإضافة إلى إحجام السعودية عن التخلي عن استراتيجيتها النفطية. تشير الرياض إلى أن ذلك يمثل تقلباً آخر في واشنطن. فقبل عامين فقط، كان الرئيس آنذاك دونالد ترامب يتوسل بالسعوديين للقيام بعكس ذلك وخفض الإنتاج. وفق شينكر.
بن سلمان يتحكم في النفط
ربما تستطيع المملكة تخفيف ضغط الأسعار. فهي المنتج الوحيد الذي لديه طاقة فائضة، ولكن حتى ذلك قد يستغرق أسابيع حتى يتم تشغيله. يقول هندرسون: على الرغم من أن النفط في المخزن العائم ليس سوى رحلة بحرية بعيدًا عن السوق. لكن سلطة صنع القرار في الرياض حاليًا هي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. الذي يختبئ وراء الادعاء بأن السوق متوازن بين العرض والطلب.
يلفت مدير برنامج برنشتاين حول الخليج وسياسة الطاقة إلى أن هناك حقيقتان سياسيتان تلعبان دورًا حاسمًا: أولاً، يبدو أن بن سلمان يرى نفسه صديقًا لبوتين. ثانيًا، يريد بن سلمان أن يتحدث مع الرئيس بايدن مباشرة. الذي لا يريد التعامل معه -على ما يبدو- بسبب مقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي.
يلفت إلى أنه -في الوقت الحالي- يبدو أن المملكة تحاول تجنب عناوين الأخبار المتعلقة بالطاقة. والطلب الصعب من واشنطن. يقول: يبدو أن وزير النفط الأمير عبد العزيز بن سلمان -الأخ الأكبر غير الشقيق لمحمد بن سلمان- لن يكون متحدثًا في مؤتمر CERA في هيوستن هذا الأسبوع.
إيران توّحد شركاء المنطقة
كانت النتيجة غير المتوقعة للأزمة الأوكرانية إعادة تنشيط الحواس الأمريكية والأوروبية المتوترة للمصالح المشتركة. يجب أن يكون الشرق الأوسط أن يكون جزءًا من ذلك أيضًا. لكن يتعين على اللاعبين العمل على مفهوم “المصالح المشتركة”. والتي قد تعني هنا التوحد أمام إيران.
لكن، بطبيعة الحال، تبقى إيران الشاغل الرئيسي الذي يوحّد شركاء واشنطن في الشرق الأوسط. هو تهديد تتوقّع دول الخليج وإسرائيل أن يتعاظم وقتما وكيفما عادت إدارة بايدن الدخول في اتفاق نووي مع طهران. إذ لا تزال آثار ما حدث بعد اتفاق عام 2015 حاضرة في ذاكرة المنطقة. يقول شينكر: استفاد الحرس الثوري الإيراني من وفرة الأموال ليعيث فساداً في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ويموّل بصورة أفضل ميليشياته التي تعمل بالوكالة عنه وتزعزع الاستقرار في العراق واليمن ولبنان. في الوقت الذي يعمل فيه على تطوير صواريخ باليسيتة متقدمة.
يضيف: خوفاً من تعريض الاتفاق النووي للخطر، لم تفعل إدارة أوباما سوى القليل جداً لكبح طموحات طهران الإقليمية.
تضاؤل الثقة في واشنطن
على الرغم من التحول نحو آسيا، لا تزال الولايات المتحدة تتمتع بحضور دبلوماسي وعسكري كبير في الشرق الأوسط. لكن تضاؤل ثقة المنطقة في واشنطن يقوّض جهود الولايات المتحدة للرد على النفوذ الإقليمي المتنامي للصين وروسيا. وإزاء تزايد المطالب ومحدودية الموارد في المرحلة المقبلة، سيتعين على واشنطن التصرف بحكمة أكبر في التزاماتها وباتساق أكبر في متابعة هذه الالتزامات، خشية أن تكون ضماناتها غير مطمئنة.
على المدى القريب -سواء عاد بايدن إلى الاتفاق النووي مع إيران أم لا- فلا يوجد التزام أمريكي في المنطقة أكثر أهمية من التعهد بمساعدة الشركاء بوجه التهديد الإيراني المتزايد. حتى لو لم يصل هذا التهديد إلى مستوى السلاح النووي. خاصة وأن ارتفاع أسعار النفط يمدّ المزيد من الأموال إلى خزائن إيران.
يقول شينكر: مهما كانت الصفة التي يطلقها المسؤولون الأمريكيون على التزامهم. “حازماً” أو “ثابتاً” أو “صارماً” أو أي مصطلح دبلوماسي آخر من هذا القبيل. فإن وقوف واشنطن إلى جانب شركائها القدامى هو أفضل طريقة للحفاظ على المصداقية وردع الخصوم.
اللجوء إلى روسيا والصين من أجل السلاح
يقيناً، نجد الأطراف التي تتلقى الضمانات الأمنية الأمريكية في الشرق الأوسط ليس لديها أوهام بأن روسيا أو الصين ستسدّ الفراغ. لكن ما يسمّى بتحوّل واشنطن نحو آسيا، مقروناً بالانسحاب الفوضوي من أفغانستان، والتردد الواضح في استخدام القوة العسكرية، والاعتماد المتزايد على العقوبات الاقتصادية، دفع العديد من قدامى الشركاء الأمنيين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط إلى تنويع علاقاتهم. وقد تكون مصر أبرز مثال على هذه الظاهرة حيث تستعد لاستلام مقاتلات روسية الصنع من طراز “SU35” وهي عملية شراء قد تؤدي إلى فرض عقوبات عليها من قبل الكونجرس الأمريكي. مع ذلك، فباستثناء إسرائيل، يشهد اللجوء إلى روسيا والصين للحصول على الأسلحة اتجاهاً نحو الازدياد المستمر.
وإذا كان شركاء الولايات المتحدة يزدادون قلقاً من الاعتماد عليها لتكون مورّدهم الأساسي للأسلحة الدفاعية، فلهذا التحول نحو الأسلحة الروسية والصينية أسبابٌ أخرى أيضاً. فالقيود المفروضة على استخدام هذه الأسلحة ليست صعبة بقدر تلك التي تفرضها الولايات المتحدة، بل هي في الواقع غير موجودة. كما أن التحول إلى مورّدين آخرين يعكس حقيقة الواقع في عالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد أصبحت فيه روسيا جهة فاعلة في سوريا وليبيا، ومن المرجح أن تبقى كذلك حتى بعد حرب أوكرانيا. وتتمتع كل من روسيا والصين أيضاً بعلاقات اقتصادية مهمة تتعلق بالطاقة في منطقة الخليج. فالصين، على سبيل المثال، استوردت ما يقرب من ثلاثة أضعاف ما استوردته الولايات المتحدة من النفط الخام من الشرق الأوسط في عام 2021.
رحلات “كسر السبت” الإسرائيلية
لا تؤثر الحقائق الجديدة على العلاقات الدفاعية فحسب، بل على المبادرات الدبلوماسية الأمريكية أيضاً. فخلال إدارتَي ترامب وبايدن -رغم الطلبات الأمريكية العديدة من مسؤولين رفيعي المستوى- لم تقم أي دولة خليجية بإدانة الصين لارتكابها إبادة جماعية بحق الأويجور المسلمين.
أيضًا، لم يندد أي شريك للولايات المتحدة في الخليج -باستثناء الكويت بشكل ملحوظ- بغزو روسيا لأوكرانيا في الأيام الأولى من الحرب. حتى الأردن، وهو أحد المتلقّين الرئيسيين للمساعدات العسكرية الأمريكية، التزم الصمت. وبعد رفض الإمارات إدانة روسيا في مجلس الأمن الدولي، لم تقُم دول الخليج سوى بتوجيه اللوم إلى موسكو في تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثاني من مارس/آذار.
تتطلب الأوقات الصعبة حلولاً إبداعية. لكن الدبلوماسية بطيئة. صرح وزير الخارجية أنتوني بلينكين لشبكة NBC يوم الأحد أن هناك “مناقشات نشطة” مع الشركاء الأوروبيين حول حظر واردات النفط الروسية. لا يبدو هذا متفائلاً. ولم يرد ذكر لواردات الغاز، والتي يصعب استبدالها على المدى القصير.
ربما أشارت قطر بالفعل إلى استعدادها لتحويل شحنات إلى أوروبا. لكنها تطالب الولايات المتحدة بالتصعيد الدبلوماسي. لا يبدو أن أحدًا مستعدًا للاعتراف علنًا بأن هذه الأزمة قد تستمر لأشهر بدلاً من أسابيع. وفق هندرسون.
هنا، يجب الالتفات إلى “رحلات كسر السبت” التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي المتدين نفتالي بينيت، إلى روسيا ثم ألمانيا. والتي عكست شعور إسرائيل بضرورة موازنة رعبها مما يحدث. مع عدم عزل موسكو، باعتبارها اللاعب الرئيسي في سوريا.
فبينما انتقدت إسرائيل الصين بشأن قضية الأويجور والهجوم الروسي على أوكرانيا. أفادت بعض التقارير أنها استخدمت حق النقض ضد بيع نظام “القبة الحديدية” الدفاعي المضاد للصواريخ – الذي طورته إسرائيل والولايات المتحدة بصورة مشتركة – لأوكرانيا. يلفت مدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن إلى أن الإسرائيليين يخشون من أن يؤدي نقل هذا النظام إلى إثارة غضب الروس.
ما يعقد عملية التنسيق المداري -الصعبة بالفعل- لعمليات سلاح الجو الإسرائيلي ضد أهداف عسكرية إيرانية في سوريا، حيث تقوم بطاريات موسكو المتطورة المضادة للطائرات بحراسة المجال الجوي.