حتى الآن، تظل الصورة الكبيرة المؤثرة للجغرافيا السياسية لشرق المتوسط على المسار الذي يراه الغرب “أكثر استقرارًا”، والذي تم رسمه لأول مرة منذ أكثر من عام. مع ذلك، فإن ما تسعى إليه واشنطن -باعتبارها راعي الصفقات في المنطقة- ليس تحولًا جذريًا نحو تعاون عملي دائم أو شامل. فإلى حد ما، أصبحت المدخلات الاقتصادية والتقنية والبيئية ذات الصلة للتعاون أكثر تقييدًا، فقط عندما انفتحت المدخلات السياسية.
لكن، عدم اليقين الاقتصادي والحذر البيئي، إلى جانب الاضطرابات السياسية في قارات أخرى. قد أدى في الواقع إلى إضعاف الاستثمار. ودفع أسعار الطاقة إلى الارتفاع مرة أخرى في الأشهر الأخيرة. في الجزء الآخر من العالم، قد تكون العوامل نفسها -عدم اليقين الاقتصادي والحذر البيئي- جعلت مشاريع النفط والغاز الرئيسية الجديدة في شرق البحر المتوسط. بما في ذلك المشاريع المشتركة الإبداعية بين المنافسين الإقليميين السابقين أو الشركات المنافسة. تبدو أكثر جدوى وربحية.
في هذا المسار، يبدو الوصف التفصيلي للسياسة اليونانية أو القبرصية بشأن قضايا شرق البحر الأبيض المتوسط هو “خارج نطاق النظرة العامة للتحالفات الجديدة”. وفق الدكتور ديفيد بولوك، زميل برنشتاين في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى. يقول: “يكفي أن كلا الحكومتين رحبتا بالدفء الجديد في موقف تركيا. بما في ذلك الزيارات رفيعة المستوى، والبيانات الرسمية التصالحية، وبعض الاتفاقات حول مختلف الأمور الثانوية. والأهم من ذلك، الغياب شبه التام للأعمال الاستفزازية.
رغم هذا، لم يتم حل أي من الخلافات الأساسية على المحك، وليس من المحتمل أن يتم حلها في أي وقت قريب. لا تزال التسوية الرسمية النهائية لتقسيم قبرص أو توحيدها بعيدة المنال -إلى جانب المطالبات البحرية المتضاربة التي تنطوي عليها- وبالمثل، لم يُحرز سوى تقدم ضئيل في توسيع منتدى غاز شرق المتوسط ليشمل تركيا.
اقرأ أيضا: غاز شرق المتوسط.. ضربة البداية المصرية نحو «صفر كربون»
مصر.. السعي نحو مخططات الطاقة في شرق المتوسط
تعد القاهرة أحد المستفيدين الواضحين من هذه التحالفات الجديدة لشرق المتوسط. فهي لم تعد تواجه خطرًا من تركيا، سواء في الخارج، أو في ليبيا، أو من الناحية السياسية الداخلية. وتعتبر الحكومة المصرية مرشح متحمس للعديد من مقترحات الطاقة الجديدة متعددة الأطراف، وكلها بتمويل خارجي. وهي تتمتع باهتمام عالمي وإقليمي معزز وفعال إلى حد كبير. بأمن العبور عبر البحر الأحمر وقناة السويس إلى البحر الأبيض المتوسط، والذي قد تؤدي فيه دورًا متزايدًا.
في الوقت نفسه، تتمتع مصر بالحرية في متابعة صفقات إضافية ثنائية أو متعددة الأطراف في شرق البحر المتوسط. مع التركيز على مناطق بعيدة، مثل سوريا. ومع ذلك “لا يعد أيًا من هذا بضخ كبير حقًا للنقد أو الاستثمار في اقتصاد البلاد المستمر على حافة الهاوية”، على حد تصور بولوك، الذي يرى أن القاهرة “مشتتة بسبب الاضطرابات المستعرة على جبهات أخرى، سواء في إثيوبيا أو السودان”.
لذلك، في حين أن دور مصر العام في المنطقة يخضع لعملية استعادة تدريجية. فمن غير المرجح أن تصبح البادئ أو المحرض الرئيسي في الأوقات السابقة. بدلاً من ذلك، ولأسباب محسوبة لمصالحها الخاصة. فمن المرجح أن تعزز القاهرة الميل العام الجديد نحو الاستقرار والحد من الصراع.
يلفت المحلل الأمريكي إلى أحد الجوانب المهمة، وهي مكانة مصر في الهجرة المتوسطية أو تدفقات اللاجئين. على الرغم من المستويات المرتفعة للفقر والضغط السكاني، إلا أن القاهرة تحافظ بشكل ملحوظ على سيطرة صارمة على حركة التدفق هذه. وبالطبع، فإن استمرار تدفق المساعدات والاستثمار من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى مصر هو -إلى حد ما- الجانب الآخر من هذه الصفقة الضمنية.
إيران وحماس.. الأوراق الجامحة
هناك القليل من الآخرين الذين يستحقون نظرة سريعة هنا. فحماس تسيطر على غزة، ولكن ليس ساحلها، الذي يخضع لدوريات إسرائيلية مستمرة. ورغم أنه من المؤكد أن الأسلحة والمواد المهربة الأخرى لا تزال تمر إلى حد معين. لكن، لا يكفي أي من ذلك لخلق تهديد بحري كبير. خلال المناوشات التي دامت عشرة أيام في مايو/أيار 2021 بين حماس وإسرائيل، أطلقت الأولى آلاف الصواريخ، لكن القليل منها فقط حاول -دون جدوى- استهداف السفن الإسرائيلية أو المنصات البحرية.
على النقيض من ذلك، تعرض ميناء أشدود الإسرائيلي القريب على البحر المتوسط والمنشآت الرئيسية -محطة خط الأنابيب ومحطة الطاقة ومحطة تحلية المياه- في عسقلان لهجمات خطيرة من حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين. ومع ذلك، فقد تم إيقاف معظمها عن مسارها، أو تم اعتراضها من قبل القبة الحديدية والدفاعات الأخرى.
يقول بولوك: في المستقبل المنظور، يمكن توقع أن يؤدي الجمع بين الردع الإسرائيلي والدفاع عن النفس. بالإضافة إلى التنسيق المصري المعزز في احتواء حماس، إلى الحد من هذا التهديد، على الأقل في مسرح البحر الأبيض المتوسط المباشر.
إيران، بالمقارنة، لديها بالفعل قدرات أكبر بكثير. وبالتالي لديها طموحات أكبر بكثير في نفس المجال. فلديها بعض الوصول إلى الموانئ في كل من سوريا ولبنان وعبور قناة السويس أيضًا في بعض الأحيان. ومع ذلك، فقد تحركت بشكل مباشر مرة أو مرتين فقط ضد أهداف بحرية إسرائيلية في البحر الأبيض المتوسط. حيث لا يزال موقع قوتها ضعيفًا نسبيًا.
تزود إيران كلا من حماس وحركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني في غزة، وحزب الله في لبنان. بالسلاح والمال والتدريب. بالطبع، في حالة حدوث أي مواجهات عسكرية كبيرة متجددة، فمن المؤكد أن بعض هذا الإمداد سيستخدم ضد السواحل الإسرائيلية والمنشآت البحرية مرة أخرى. لكن في الوقت الحالي، تركز إيران بشكل أكبر على الجبهات الأخرى. وبالطبع، تشعر بالقلق من الانتقام الإسرائيلي. لذلك، يبدو من المرجح أن إيران تفضل ضبط النفس من قبل عملائها. إلا إذا احتاجتهم للرد على الإجراءات الإسرائيلية ضد بنيتها التحتية النووية.
روسيا والصين.. حسابات في مناطق أخرى
تركز روسيا هذه الأيام بشكل أكبر على جبهات أخرى، هي آسيا الوسطى وسوريا وتركيا وأوروبا بشكل عام، وقبل كل شيء، أوكرانيا. وبالتالي فهي منخرطة في البحر الأسود بشكل أكثر نشاطًا من البحر المتوسط. مع ذلك، فإن روسيا هي أيضًا قوة متوسطية، مع منفذ رئيسي في سوريا وتدريبات أسطول مستمرة تتجاوزها. يقول بولوك: “إن مرتزقتها منخرطون بعمق في ليبيا، وهي تحاول جاهدة زيادة مبيعاتها للأسلحة في مصر وأماكن أخرى. بشكل عام، لا يبدو أن كل هذه الأنشطة من المحتمل أن تهدد أو تقوض العلاقات الأكثر استقرارًا. التي تحظى بالأولوية حاليًا من قبل القوى الإقليمية.
يمكن قول الشيء نفسه عن الصين، التي تعمل على زيادة وجودها بشكل حاد ومظهرها في جميع أنحاء العالم. بما في ذلك البحر الأبيض المتوسط. ويُعّد شرق المتوسط، على وجه الخصوص، هو محطة رئيسية لـ “مبادرة الحزام والطريق”، التي أصبحت مركزية لسياسة الصين فيما وراء البحار.
وعلى عكس الحالة الروسية، لا يزال التوسع الصيني يكمن في المجالات التجارية والثقافية والبنية التحتية والاستثمار، وليس المجال العسكري. على أي حال، تحاول الصين عادةً -وتنجح- في تجنب التورط في النزاعات الإقليمية، من خلال رفض الانحياز لأي طرف. لهذه الأسباب، فإن مغامرات الصين على طول البحر المتوسط، لا يمكن اعتبارها مزعزعة للاستقرار في الوقت الحالي.