يقف الرئيس التونسي قيس سعيد على أعتاب تأسيس “الجمهورية الجديدة”، التي وعد ببنائها. في 25 يوليو / تموز. حيث ستجري تونس استفتاء على الدستور المعدل الذي طرحه سعيد في أواخر يونيو/ حزيران الماضي. والذي يحمل في طياته نظامًا يمنح الرئيس بشكل فعال سلطة غير مقيدة.
أعاد سعيد -أستاذ القانون الدستوري- شخصيًا، كتابة المسودة الأولية للدستور، التي قدمتها لجنة خبراء. مما دفع رئيس اللجنة للتحذير من أن هذا “يمكن أن يمهد الطريق لإنشاء دكتاتورية مفتوحة”. في الوقت نفسه، لا يبدو أن الرئيس، الذي جاء بعد ثورة أطاحت بالديكتاتور زين العابدين بن علي. قد فكر فيما سيحدث في حالة وقوع الاستفتاء ضده. ربما، وقتها، قد يحاول فرض الدستور الجديد، بغض النظر عن نتيجة التصويت.
يختلف الدستور الجديد بشكل كبير عن الدستور الحالي، الذي خرج للنور عام 2014. وكان نتاج مشاورات طويلة على أساس الانتخابات الديمقراطية لجمعية دستورية. ونقاش عام مكثف، وتسوية بين المجموعات السياسية الرئيسية في تونس. حيث يجسد فكرة الديمقراطية المتجذرة في مؤسسات مستقلة قوية.
مع ذلك، فإن الدستور الجديد -كما يرى المراقبون- هو في الأساس نتاج رؤية رجل واحد، لسلطة مركزية غير خاضعة للمساءلة. وتم وضعه خارج أي إطار قانوني، وبأقل قدر من المناقشة. فمنذ أن علق سعيد البرلمان في يوليو/ تموز 2021، ظلت تونس تعمل خارج القواعد السياسية العادية.
اقرأ أيضا: هل يصل قيس سعيد إلى “الجمهورية الجديدة” في تونس؟
في ورقة سياسات أعدها أنتوني دروكين، زميل السياسات بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. يبدو أن “دستور سعيد” جاء لإيجاد تسوية سياسية جديدة من شأنها تقويض الإنجازات الديمقراطية التي تحققت في العقد الماضي.
يقول دروكين: تشكل هذه اللحظة المحورية تحديًا خطيرًا لشركاء تونس في أوروبا وأماكن أخرى. الذين قدموا دعمًا كبيرًا لانتقالها الديمقراطي.
عملية دستورية معيبة
صاغت لجنة الخبراء الدستور على خلفية تفكيك سعيد التدريجي لجميع الضوابط على سلطته. على مدار بضعة أشهر، وضع جانباً أجزاء من الدستور تتعارض مع خططه. ومنح نفسه سلطة الحكم بمرسوم في مجموعة واسعة من مجالات السياسة، ووضع مجلس القضاء الأعلى تحت سيطرته. وعندما عقد النواب جلسة افتراضية للطعن في إجراءاته الطارئة، قام بحل البرلمان، وهدد بفتح تحقيقات مع من شاركوا فيها.
كان دستور 2014 يتطلب أن يتم المصادقة على أي تعديلات دستورية من قبل ما لا يقل عن ثلثي أعضاء البرلمان. وفي حالة تقديمها للاستفتاء، تحصل على الأغلبية المطلقة من الأصوات. لكن، تم وضع دستور سعيد الجديد مع القليل من المدخلات الخارجية.
ترأس لجنة الخبراء التي كتبت المسودة الأولى أستاذ القانون صادق بلعيد. يشير دوركين إلى أن المسودة “كتبت على عجل، واستندت إلى نتائج الاستشارة العامة عبر الإنترنت في وقت سابق من هذا العام “ولم يمنح سعيد أي دور للأحزاب السياسية في العملية. ولم يمنح سوى عدد قليل من منظمات المجتمع المدني فرصة لمناقشة المسودة”. ورفض الاتحاد العام التونسي للشغل -وهو الكيان الأكثر نفوذاً في البلاد- المشاركة في هذا الأمر.
وصف أحد الخبراء الدستوريين النظام السياسي الذي سيتم إنشاؤه بموجب مسودة الدستور بأنه “مفرط في الرئاسية”. لن يكون للرئيس وحده المسؤولية عن تعيين رئيس الوزراء والحكومة، بل يمكنه أيضًا اقتراح تشريعات. في حين أن البرلمان يمكنه فقط اقتراح تشريع للحكومة للنظر فيه، وسيحتاج إلى أغلبية الثلثين للتصويت ضد أي مشروع قانون.
وإذا وافق البرلمان على تصويت بحجب الثقة عن حكومتين متتاليتين، يمكن للرئيس حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة. كما سيسمح المشروع باستدعاء النواب وفقًا للقواعد التي يضعها الرئيس. ولن يكون هناك استقلال أو آلية قضائية لتحل محل الرئيس.
نقل دروكين عن سعيد بن عربية عضو لجنة الحقوقيين الدولية. قوله: “الرئيس غير خاضع للمساءلة، وفروع الدولة الأخرى مختزلة إلى مجرد وظائف، وضمانات استقلال الهيئات الدستورية غائبة”.
الرئيس وحده.. لا للدولة المدنية
لا يتضمن الدستور الجديد أي ذكر لتونس كدولة مدنية أو سيطرة مدنية على الجيش. كذلك، فإن السمات البارزة الأخرى للدستور الجديد أنه سيدخل حيز التنفيذ بعد إعلان نتائج الاستفتاء. دون اشتراط موافقة غالبية الناخبين عليها.
اللافت للنظر أن بلعيد -الذي كان يُنظر إليه على أنه مساعد مقرب من سعيد- انتقد بشدة البنود التي أدخلها الرئيس في المسودة النهائية. جادل بلعيد بأن البند الذي يسمح بتمديد ولاية الرئيس في حالة وجود خطر وشيك على الدولة “يهدد بخلق دكتاتورية لا نهاية لها”. كما جادل بأن هناك بندًا ينص على أن الدولة “يجب أن تعمل لتحقيق أهداف الإسلام الخالص”، وهو ما يمكن أن يفتح الطريق أمام نظام ثيوقراطي (حكم رجال الدين). أيضا، حذر بلعيد من أن إضافة مجلس تشريعي ثان -يمثل الأقاليم والمقاطعات التونسية- دون تقسيم واضح للسلطات. قد يؤدي إلى مزيد من الارتباك.
يقول دروكين: تنعكس الطبيعة المتسرعة لمسودة سعيد في حقيقة أنه -بعد أسبوع فقط- أصدر نسخة منقحة صححت العديد من الأخطاء.
وأضاف: بشكل عام، يبدو أن مسودة الدستور هي إلى حد كبير المشروع الشخصي لفرد واحد. وتحمل السمة المميزة لمخاوفه الطويلة الأمد وإصلاحات أفكاره. حوَّل سعيد تدريجياً معظم أعضاء الطبقة السياسية ضد مشروعه. وهناك القليل من الدلائل على أن مراجعة الدستور تجتذب الكثير من الاهتمام العام.
كانت العديد من الجماعات السياسية ومنظمات المجتمع المدني قد أيدت استيلاء سعيد الأولي على السلطة. وبدا أن الكثير من الجمهور يؤيدها بسبب خيبة أمل واسعة النطاق من النظام السياسي المتصلب في تونس. لكن محاولات الرئيس الأخيرة لحشد مؤيديه بشأن المسائل السياسية باءت بالفشل.
يشير زميل السياسات بالمجلس الأوروبي إلى أن الرئيس التونسي -من نواح كثيرة- منعزل. حيث أنه يعتمد على دائرة صغيرة من المستشارين. وقد خلقت عملية اتخاذ القرار غير الشفافة وغير الرسمية التي يتبعها، أجواء سياسية محمومة، ومشحونة بشائعات عن المنافسات بين القادة. “أدى الخطاب التحريضي الذي يوجهه سعيد إلى خصومه السياسيين إلى زيادة هذا التوتر”.
استراتيجية المعارضة
في الأشهر التي أعقبت تعليق سعيد البرلمان، كافحت الأحزاب السياسية التونسية لتشكيل جبهة موحدة ضده. ومع اتضاح تصميمه على تعزيز سلطته، وإقصاء منافسيه السياسيين، نحت الأحزاب الكثير من خلافاتهم جانباً. انضم معظمهم إلى جبهة الإنقاذ الوطني، التي أنشأها السياسي المخضرم أحمد نجيب الشابي، الذي دعا إلى حوار وطني شامل حول المسائل السياسية والاقتصادية لمساعدة البلاد على الخروج من الأزمة.
بالفعل، طرح المعارضون خارطة طريق، تتضمن عودة قصيرة للبرلمان، وترشيح حكومة وحدة وطنية، وعملية حوار، وانتخابات جديدة. ودعت جميع أحزاب المعارضة تقريبًا إلى مقاطعة الاستفتاء، بسبب عيوب صياغة الدستور الجديد. لكن حججهم لم تكتسب زخمًا لدى الجمهور.
يفسر دروكين ذلك بالقول: يرجع ذلك إلى تورط المعارضة في السياسات التي فقدت مصداقيتها في العقد الماضي. حيث لم تفعل سلسلة من الحكومات الائتلافية، المدعومة بإجماع سياسي واسع. الكثير لمعالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الأساسية في البلاد. الاستثناء الجزئي هو حزب الدستور الحر بزعامة عبير موسي.
ترى المعارضة أن الاحتجاجات العامة في تونس هي المفتاح لإنهاء مشروع سعيد. ومع ذلك، لم تتمكن الكتلة الرئيسية لأحزاب المعارضة -ولا حزب موسي- من حشد المتظاهرين بأعداد كافية لتحقيق ذلك. فقط، جذبت الاحتجاجات المناهضة لسعيد مؤخرًا حشودًا أكبر من المظاهرات لصالحه. لكن الانسحاب من السياسة يبدو أكثر انتشارًا من دعم الرؤية البديلة للمعارضة. ولا تزال استطلاعات الرأي تشير إلى أن سعيد يتمتع بشعبية أكبر بكثير من أي من خصومه.
أما الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو أهم لاعب سياسي في البلاد باستثناء الرئيس. كان متعاطفًا في البداية مع تعليق سعيد للبرلمان، لكنه نأى بنفسه عنه. منتقدًا فشله في التعامل مع الجماعات السياسية الأخرى بطريقة شاملة.
مع ذلك، أشارت مصادر في الاتحاد للباحث أن المجموعة “من المرجح أن تظل تركز على القضايا الاجتماعية والاقتصادية. بدلاً من محاولة حشد أتباعها في المسائل السياسية أو الدستورية”. وبينما انتقد الأمين العام للاتحاد، نور الدين الطبوبي، العديد من سمات الدستور الجديد. لكنه قال إن أعضاء الاتحاد “أحرار في التصويت في الاستفتاء كما يحلو لهم”.
انهيار اقتصادي وشيك
في واقعه، يجد الاقتصاد التونسي نفسه في حالة كارثية. تفاقمت مشاكلها المزمنة بسبب تأثير الحرب الروسية على أوكرانيا، حيث تعتمد تونس بشكل كبير على القمح المستورد، وتضررت من ارتفاع أسعار الأسمدة والنفط والسلع الأخرى.
يعتقد العديد من المحللين أن الدولة التونسية قد تنهار مالياً في الأشهر المقبلة. أدى نقص الغذاء وارتفاع الأسعار والتأخر في دفع الرواتب إلى تفاقم أزمة غلاء المعيشة الحادة للتونسيين. واضطرت عدة سفن محملة بالحبوب إلى الانتظار خارج موانئ تونس، بينما سارعت السلطات للعثور على النقود لدفع ثمن الشحنة قبل أن ترسو.
تجري تونس محادثات مع صندوق النقد الدولي بشأن حزمة إنقاذ منذ نوفمبر/ كانون الثاني الماضي. بعد تعليق مناقشات سابقة عقب إقالة الحكومة في يوليو/ تموز. ودعا صندوق النقد الدولي تونس إلى السيطرة على فاتورة أجور القطاع العام، وتوجيه الدعم بشكل أكثر دقة، وإصلاح الشركات المملوكة للدولة. وجعل الضرائب أكثر عدلاً، وتحسين مناخ الأعمال. كما طلبت من قيادة البلاد الموافقة على هذه الإصلاحات في بيان عام، للإشارة إلى التزامها بتنفيذها.
بدا سعيد مترددًا لفترة طويلة في اتخاذ هذه الخطوة، تاركًا الأمر للوزراء الذين لا تتمتع خطاباتهم بسلطة تذكر دون دعمه. لكن، خلال زيارة قام بها مدير الشرق الأوسط بصندوق النقد الدولي إلى تونس في أواخر يونيو/ حزيران. أعلن سعيد أن “الإصلاحات الاقتصادية الكبرى ضرورية”. ثم أعطى صندوق النقد الدولي الضوء الأخضر لبدء مفاوضات رسمية، وأرسل فريقًا إلى العاصمة في أوائل يوليو/ تموز.
يقول دروكين: يبدو أن السياسيين المعارضين يراهنون على أن فشل الحكومة في إدارة الاقتصاد سيساعد في حشد السكان ضدها. يعتقد بعض النشطاء المناهضين لسعيد أن مزيجًا من الفشل الاقتصادي والعزلة السياسية للرئيس سيؤدي إلى سلسلة من نشاط المعارضة ويجادلون بأنه في ظل هذه الظروف، فإن الجيش -الذي يقدر النظام قبل كل شيء ولن يرغب في اتخاذ إجراءات قمعية- قد يجبر الرئيس على الاستقالة. ومع ذلك، ليس هناك ما يضمن أن هذه العملية ستؤدي إلى العودة إلى السياسة الديمقراطية.