ثمة مشاهد لافتة حفلت بها زيارة البابا فرنسيس (بابا الفاتيكان) إلى العراق. وهي تبعث بمجموعة من الرسائل المهمة. لاسيما في ظل الأوضاع السياسية والأمنية والإقليمية المعقدة. سواء بعد هزيمة تنظيم داعش الإرهابي، أو تبعًا لحالة الانفلات والسيولة الأمنية على خلفية نشاط الفصائل المدعومة من إيران. ويضاف إلى ذلك، تنامي الاحتجاجات الشعبية، منذ اندلاع حراك أكتوبر عام 2019، وتداعياته المستمرة حتى الآن.
البابا فرنسيس.. لقاءات حملت رمزية مؤثرة
من بين اللقاءات التي حملت رمزية مؤثرة؛ زيارة بابا الفاتيكان إلى عدة مناطق عراقية، وقعت تحت هيمنة التنظيم الإرهابي. ثم زيارته إلى المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني في النجف. فضلاً عن إحياء قداس في مدينة الموصل، شمالي بغداد، للصلاة على ضحايا تنظيم داعش.
وفي ساحة حوش البيعة التي تجمع أربع كنائس تعرضت للهدم والتخريب بفعل الاعتداءات التي نفذها تنظيم داعش الإرهابي، تحدث البابا خلال القداس الجماعي عن “الضرر الجسيم” الذي تعرض له المجتمع المسيحي في العراق. وقد تضاءل عددهم إلى نحو 400 ألف من إجمالي عدد سكان العراق البالغ 40 مليونًا. ذلك على خلفية الهجرات الجماعية والنزوح بسبب الاعتداءات الطائفية.
قال البابا قبل أن يشرع في صلواته بالقرب من أطلال كنيسة الطاهرة السريانية الكاثوليكية التاريخية، بينما لم تتعاف بعد من آثار العدوان الإرهابي الذي لحق بها: “هذا التناقص المأساوي في أعداد تلاميذ المسيح، هنا وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط إنما هو ضرر جسيم لا يمكن تقديره، ليس فقط للأشخاص والجماعات المعنية، بل للمجتمع نفسه الذي تركوه وراءهم”.
وأضاف: “إنها لقسوة شديدة أن تكون هذه البلاد، مهد الحضارات قد تعرّضت لمثل هذه العاصفة اللاإنسانية، التي دمّرت دور العبادة القديمة”. وأشار إلى ألوف الألوف من الناس، مسلمين ومسيحيين وأيزيديين وغيرهم هجروا بالقوة أو قتلوا. بينما خص الأيزيديين بوصف “الضحايا الأبرياء للهجمية المتهورة وعديمة الإنسانية”.
زيارة البابا فرنسيس.. هل خسرت إيران زعامة العالم الشيعي
في حديثه لـ”مصر 360″، قال الأكاديمي العراقي، الدكتور محمد نعناع، إن إيران خسرت زعامة العالم الشيعي بعد أن اختار البابا زيارة النجف ولقاء السيستاني. مشيرًا إلى التنافس التقليدي بين النجف وقم على تمثيل الشيعة. بالرغم من التفاوت التاريخي الهائل بين المدينتين. فالمدينة الإيرانية، على كل حال، تأسست في النصف الثاني من القرن العشرين.
ويوضح نعناع أن “السيستاني الذي يعيش في النجف ولم يتنازل عن جنسيته الإيرانية، ويعتزل الناس، منذ عقدين تقريبًا، ولا يخرج إلا نادرًا، هو الأليق بقيادة الشيعة. ذلك لجمعه بين الأصالة والاعتدال. وأيضًا ما يعرف عنه من معارضته لإيران سياسيًا وعقائديًا، على حد قوله نعناع. الذي يردف: “السيستاني يبدو بعيدًا تمامًا عن استغلال مكانته الروحية وموقعه الشرعي لتحقيق مصالح طائفية أو منافع شخصية.
ففي الوقت الذي راهنت إيران على تأثير زيارة البابا على مواقف السيستاني المتعلقة بالعالم الإسلامي كالقضية الفلسطينية، جاء موقف السيستاني أصيلاً معبرًا عن ضرورة احترام حقوق الشعوب في تقرير مصيرها. بل أكثر من ذلك أرسل السيستاني رسالة واضحة للعالم تمنع محاصرة الشعوب اقتصاديًا. وهذا يعني دعوة من مرجع النجف من موقع أعلى لإعادة النظر بالصراع الإيراني الأمريكي والجنوح للسلمية والحوار لحل المشاكل السياسية والأزمات الاستراتيجية.
ولقد ربحت النجف زخمًا جديدًا، وهو يؤكد السائد والمعروف، حيث كان واضحًا تاريخيًا، اعتدال النجف ومرجعيتها وقيادتها الدينية المتمثلة بالسيستاني، بحسب الأكاديمي العراقي. كما أن “زيارة البابا رسخت البعد الإنساني والاعتدالي لمرجعية النجف، وأن هذه المرجعية لا تساوم على القضايا الإنسانية والوطنية وتقوم بواجباتها من منطلق المصلحة العامة وليس تحقيق المصالح الضيقة”.
يلفت الباحث العراقي، زمان حبيب، إلى أن زيارة البابا فرنسيس حققت مكاسب جمة. حيث أن العالم ينظر للعراق من خلال زاوية أوسع. وبنظرة تبدو أدق، هذه الزيارة التاريخية للكرسي الرسولي تقدم دعمًا غير محدود لصالح الحكومة العراقية، وعلى رأسها مصطفى الكاظمي. وأيضًا للرئيس برهم صالح، وقد كان الاثنان في استقبال البابا.
قداس البابا فرنسيس.. سابقة تاريخية
يوضح حبيب لـ”مصر 360″ أنه بالرغم مما تعرضت له نحو 14 كنيسة للتدمير على يد التنظيم الإرهابي، ومن بينها كنائس تاريخية تعود للقرن الخامس والسادس والسابع، وانخفاض عدد المسيحيين لنحو أربعمائة ألف بعدما كانت نسبتهم قبل العزو الانجلو أمريكي خمس ملايين، غير أن البابا أقام صلواته في الموصل على أطلال الكنائس المهدمة وطلب الصفح. وأكد على المصير الإنساني المشترك أمام التطرف والكراهية.
وفي كاتدرائية مار يوسف في بغداد، أقام البابا فرنسيس قداسه الأول بالعراق. وهي سابقة تاريخية، بحسب الباحث العراقي، لافتًا إلى أنها “المرة الأولى التي يقيم فيها القداس بالطقس الشرقي الكلداني، وتجرى الصلوات باللغتين العربية والآرامية”.
قال البابا فرنسيس، في مدينة أور الأثرية والتاريخية، والتي كانت عاصمة الدولة السومرية، وولد فيها النبي إبراهيم: “من هذا المكان ينبوع الإيمان، من أرض أبينا إبراهيم، نؤكد أن الله رحيم، وأن أكبر إساءة وتجديف هي أن ندنس اسمه القدوس بكراهية إخوتنا. لا يصدر العداء والتطرف والعنف من نفس متدينة: بل هذه كلها خيانة للدين”.
ولا يعد لقاء البابا فرنسيس بالسيستاني سوى محاولة لنبذ التعصب، والانفتاح على المسلمين، سواء سنة أو شيعة، وعلى كافة الأطراف المعتدلة. إذ التقى بابا الفاتيكان بشيخ الأزهر أحمد الطيب، قبل عامين، في أبو ظبي. ووقعا على ما عُرف بـ “وثيقة الأخوة الإنسانية”، لتعزيز الحوار بين المسيحيين والمسلمين.
وبحسب بيان صادر عن مكتب السيستاني، فإن الزيارة التاريخية تطرقت إلى “التحديات الكبيرة التي تواجهها الإنسانية في هذا العصر ودور الإيمان بالله وبرسالاته والالتزام بالقيم الأخلاقية السامية في التغلب عليها”. كما شكل اللقاء “فرصة للبابا حتى يشكر آية الله لأنه رفع صوته، مع الطائفة الشيعية، إزاء العنف والصعوبات الكبيرة التي شهدتها السنوات الأخيرة، دفاعًا عن الضعفاء والمضطهدين”. وفقًا لما صدر عن المكتب الصحافي للكرسي الرسولي، في بيان رسمي.
زيارة الصفح والمغفرة
وقد طالب البابا فرانسيس مسيحيي العراق بـ”الصفح عن المظالم التي يرتكبها المتطرفون بحقهم، ومواصلة المثابرة على إعادة بناء البلاد بعد سنوات من الحرب والصراعات الطائفية”. وخلال حديثه إلى جمهور كنيسة الطاهرة الكبرى (الحبل بلا دنس)، قال البابا فرانسيس إن كلمة “المغفرة” هي كلمة أساسية للمسيحيين.
وأضاف: “قد يكون الطريق إلى الشفاء الكامل طويلاً، لكنني أطلب منكم، من فضلكم، ألا تثبطوا عزيمتكم. ما نحتاجه هو القدرة على التسامح، ولكن أيضاً الشجاعة لعدم الاستسلام”.
ومن بين اللقاءات المهمة التي قام بها البابا فرنسيس، زيارة القيادات الدينية لطائفة الصابئة المندائية، إحدى الديانات القديمة بالعراق والعالم. وقد اجتمع برئيس ديانة الصابئة المندائيين في العراق والعالم الشيخ، ستار جبار الحلو. كما التقى ممثل عن الأقلية العرقية الدينية الأيزيدية في العراق، بيش إمام فاروق.
وقالت نائب رئيس الجمعية الثقافية المندائية، فائزة فرحان، إن “البابا فرنسيس بزيارته إلى العراق تحدى كل الظروف الأمنية والصحية التي يواجهها البلاد. داعية إلى ضرورة نبذ العنف والانتماءات الدينية التي ظهرت بعد عام 2003. وتعزيز تعايش الصابئة المندائية مع المكونات الأخرى لضمان عودتهم إلى بلادهم”.
وتابعت فرحان أن زيارة البابا فرنسيس إلى العراق “نوعية تاريخية” تحث على المحبة والتعايش بين الأديان. وبزيارته تحدى الظروف الصعبة التي يمر بها العراق كونه “رجل كبير ذو مكانة دينية كبيرة”.
وقال البابا في خطابه الذي سبق صلاته المشتركة مع ممثلين عن الشيعة والسنة والأيزيديين والصابئة والكاكائيين والزرداشتيين: “لا يصدر العداء والتطرف والعنف من نفس متدينة، بل هذه كلها خيانة للدين”. وأضاف: “لا يمكن أن نصمت عندما يسيء الإرهاب للدين. بل واجب علينا إزالة سوء الفهم”. غير أن وكالة “رويترز” كشفت عن مسؤول كنسي محلي، أنه تم الاتصال باليهود ودعوتهم لكن الوضع كان بالنسبة لهم “معقدًا”. خاصة وأنهم ليس لديهم مجتمع منظم.