أدت السياسات الأمنية السعودية الصارمة الأخيرة، إلى جانب المظالم اليمنية التاريخية، بشأن اغتصاب المملكة المتصور للأراضي اليمنية منذ عقود، إلى استياء عميق بين أبناء الشعب اليمني. مما أدى إلى انضمام الآلاف من الشباب المنتمين للمذهب الشافعي وهم من السنّة إلى الحوثيين وهم ينتمون للمذهب الشيعي للقتال ضد النظام المدعوم من الرياض. المعروف أنها ركن ركين في العالم والإسلام السني.
أدى انضمام هؤلاء الشباب إلى تعقيد استراتيجية الرياض لإخضاع الحوثيين. ويرى خبراء أنه لعب دورًا في إقناع السعوديين بقبول وقف إطلاق النار والوصول إلى الهدنة الحالية، واغتنام الفرصة لتخليص أنفسهم -جزئيًا على الأقل- من المستنقع اليمني. لتبدو محاولاتهم أشبه بالأمريكيين في فيتنام في القرن الماضي.
في تحليله الذي نشره معهد كارنيجي للسلام الدولي، يشير أحمد ناجي، الباحث المتخصص في الشؤون اليمنية، إلى العديد من المؤشرات على أن استراتيجية المملكة العربية السعودية المتمحورة حول الأمن قد فشلت. ويذكر أن الباحث يمني الجنسية.
يقول: العلامة الأكثر وضوحا هي الحالة التي يجد اليمن نفسه فيها اليوم. اليمن تقريبا دولة فاشلة والسعودية من الأطراف التي تتحمل مسئولية هذا الفشل. دولة فاشلة على أعتابها بالكاد تضمن الأمن للرياض.
اقرأ أيضا: هل الحوثيون على استعداد لتقديم تنازلات من أجل السلام؟
يضيف: علاوة على ذلك، مع تسليح أعداء السعودية من اليمنيين “يقصد هنا إيران” بالصواريخ والطائرات بدون طيار. فإن أي محاولة من جانب السعوديين لحماية بلدهم، من خلال إنشاء مناطق عازلة، أو بناء جدران حدودية. من غير المرجح أن يكون لها التأثير المطلوب.
ويؤكد أنه “من أجل تحقيق الأمن الحقيقي، يجب على السعودية أن تتوقف عن التفكير في العسكرة -خاصة وأن سياساتها في هذا الصدد تولد معارضة من اليمنيين- وتبدأ في التفكير في دعم الاستقرار السياسي الضئيل ودعم المشاريع الاقتصادية في اليمن.
مشكلة أمنية
لعقود من الزمان، اعتمدت السعودية للحفاظ على مصالحها في اليمن على ما كان يُعرف باسم “اللجنة الخاصة “. وهي طائفة واسعة من زعماء القبائل اليمنيين والسياسيين التابعين للرياض. والتي جعلت المملكة تعتقد أن من حقها التدخل في الشؤون اليمنية.
يقول ناجي: غالبًا ما كشفت إجراءات اللجنة الخاصة عن أولويات الرياض. والتي كانت تتمثل في احتواء وإعادة توجيه الاتجاهات السياسية، سواء كانت ديمقراطية أو غيرها، التي تهدد النظام السياسي الموالي للسعودية في اليمن. هذا النهج النخبوي في التعامل مع المجتمع اليمني أثار استياء العديد من اليمنيين.
في 2011 تحولت الشكوك السعودية إلى تخوف، أسرعت الرياض بقمع الاحتجاجات في المملكة، وبناءً على طلب المنامة، تدخلت عسكريًا لفعل الشيء نفسه في البحرين. وفي اليمن، كان نظام الرئيس الراحل علي عبد الله صالح غير قادر على قمع الاحتجاجات المتزايدة، ودعا الرياض للمساعدة في التوسط مع المعارضة اليمنية.
وقتها، قدّم السعوديون مبادرة لنقل السلطة إلى حكومة جديدة، دعت إلى احتفاظ صالح بالسيطرة على 50% من أعضائها. كما وعدته بحصانة كاملة من الملاحقة القضائية. ودعت إلى حوار وطني بين القوى السياسية اليمنية الرئيسية. لكن، أثبتت المبادرة عدم فعاليتها وسط الخلافات بين الفصائل اليمنية التي كان داعموها الإقليميون يتطلعون إلى مزيد من النفوذ.
لذلك، بدعم من السعودية، قمع صالح بقوة الاضطرابات التي ألهمها الربيع العربي. ولكن في عام 2014، شن الحوثيون -الذين اشتبكوا مع الحكومة على مدى سنوات- تمردا شاملا. خلصت الرياض إلى أن اليمن الغارق في أزماته لم يعد آمنًا، بل إنه يشكل خطرًا أمنيًا على المملكة. حيث أصبح جزءا كبيرا من البلاد الآن في أيدي ميليشيا مسلحة مدعومة من إيران. وحُرمت الرياض من القدرة على التلاعب بالمشهد السياسي اليمني.
تأمين الحدود
في مارس/ آذار 2015، تدخلت السعودية في اليمن على رأس تحالف عسكري عربي. كما بدأ السعوديون في إجراءات مشددة بطول حدودهم مع اليمن. بدا ذلك جليا في الانتشار المكثف لقوات الأمن، والتشديد الإضافي للقيود التي تحكم الدخول إلى المملكة. بعد ذلك بوقت قصير، تم توسيع الإجراءات لتشمل تجنيد آلاف اليمنيين لمساعدة القوات السعودية على حراسة الحدود.
يقول ناجي: لم تقتصر الاستراتيجية الأمنية على الحدود، ففي مدن جيزان ونجران وأبها وخميس مشيط بجنوب السعودية -من بين مدن أخرى- سعت السلطات السعودية إلى تقليص عدد العمال اليمنيين. فتم القبض على العديد منهم في شبكة أمنية، وتم ترحيل بعضهم بسبب الإقامة والعمل في المملكة بشكل غير قانوني -كانت في السابق جريمة تميل السلطات إلى التغاضي عنها عندما يتعلق الأمر بمواطنين يمنيين- وآخرون لأسباب واهية، مثل الاشتباه في التعاطف مع الحوثيين.
استلزم نهج الأمن السعودي الشامل هندسة ديموجرافية لسكانها في المناطق الحدودية. بدأت هذه الممارسة قبل تدخل الرياض في اليمن في عام 2015، لكنها نمت في نطاقها بعد ذلك. ففي منتصف عام 2015، أخلت الرياض العديد من سكان القرى الحدودية.
ما الذي أحدثه نهج السعودية الأمني؟
يلفت ناجي إلى أنه من الناحية السياسية والعسكرية، كان تدخل التحالف الذي تقوده السعودية غير ناجح بشكل واضح.
يقول: كان الهدف المزدوج للتحالف هو هزيمة الحوثيين واستعادة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا إلى السلطة. ومع ذلك، في السنوات السبع التي انقضت منذ إطلاق التحالف حملته، وسع الحوثيون المنطقة الواقعة تحت سيطرتهم، ولم تعد الحكومة المعترف بها دوليًا إلى صنعاء.
واليوم، يحكم الحوثيون ما يقرب من 30% من البلاد، التي تضم 65% من سكان اليمن. بينما تحتفظ الحكومة -المعترف بها دوليًا- بالسيطرة على بقية الأراضي من خلال مجموعة متنوعة من الجماعات.
يشير الباحث بمعهد كارنيجي للسلام إلى المفارقة المتمثلة في أن حملة التحالف الذي تقوده السعودية عملت على ترسيخ وتعزيز الروابط فيما بعد بين الحوثيين وإيران. حيث اعتبرت إيران الحرب فرصة لتوسيع أجندتها في اليمن، من خلال تزويد الحوثيين بالأسلحة والخبرة العسكرية. وقد مكن ذلك طهران من تقويض أمن الحدود السعودية وتسوية حسابات مع الرياض.
وأوضح: كان للحوثيين أسبابهم الخاصة لزيادة تعاونهم مع إيران واعتمادهم عليها في نهاية المطاف. بعد الاستيلاء على صنعاء والتدخل العسكري للتحالف الذي تقوده السعودية، وجد الحوثيون أنفسهم معزولين عن جميع دول المنطقة تقريبًا، مما اضطرهم إلى تعزيز علاقتهم مع إيران.
اليوم، يتم توفير أو تمويل معظم الأسلحة التي يستخدمها الحوثيون من قبل الإيرانيين. هذه الأسلحة هي التي مكّنت الحوثيين من شن هجمات بطائرات بدون طيار وصواريخ على الأراضي السعودية، الأمر الذي يرفع في الحال من مكانة الجماعة العسكرية، ويظهر نفوذ إيران المتزايد.
ويؤكد: من وجهة نظر المملكة، فإن أحد أكثر الإخفاقات إثارة للقلق في السياسات التي تتمحور حول الأمن في البلاد هو أن الحوثيين استفادوا من المشاعر المعادية للسعودية -القديمة والجديدة- بين اليمنيين. يتضح هذا بشكل خاص في النجاحات التي حققها الحوثيون خارج معقلهم التقليدي. ولزيادة التجنيد في أوساط السنّة، اعتمد الحوثيون على مزيج من المظالم التاريخية والاستياء المعاصر.
اقرأ أيضا: المبعوث الأمريكي لليمن لـ “مصر 360”: على جميع الأطراف اختيار السلام
تأثيرات لم تكن بالحسبان
كان للتدخل العسكري للرياض، بتركيزه الفريد على هزيمة الحوثيين، تأثير آخر أثبت على الفور تقريبًا أنه ضار بالمصالح الوطنية السعودية. في تكثيف الصراع بين الدولة اليمنية والحوثيين، جذبت الحملة التي تقودها السعودية انتباه الجميع بعيدًا عن الجهات الفاعلة الأخرى في اليمن المجزأ بشكل متزايد وشجعتهم على الضرب.
يوضح ناجي أنه في إبريل/ نيسان 2015 -أي الشهر الذي تلا التدخل- حقق “تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية” نجاحًا عسكريًا غير مسبوق، عندما هاجم مدينة المكلا اليمنية وسيطر عليها بسرعة. لذلك، اضطر السعوديون وحلفاؤهم إلى تحويل موارد كبيرة من حملتهم المناهضة للحوثيين إلى مسألة طرد القاعدة. وهو ما تحقق بعد عام. لكن المفارقة هي أن هذه الحملة الناجحة كانت بقيادة الإمارات والقوات اليمنية التي ساعدت في تشكيلها “وعندما تمكن الإماراتيون من تعزيز نفوذهم في اليمن، أزعج هذا التطور السعودية”.
على الجانب الإنساني، كان للحملة التي تقودها السعودية عواقب وخيمة، مع وجود العديد من المناطق اليمنية على شفا المجاعة بسبب المعارك التي دمرت الاقتصاد اليمني. كما استهدفت العمليات العسكرية الكثير من البنية التحتية المرتبطة بالنقل وجعلتها غير صالحة للعمل، بما في ذلك الطرق الرئيسية والجسور ومحطات البنزين.
يشير ناجي إلى أن “العواقب غير المباشرة كانت واسعة النطاق. جعلت الحرب من الصعب للغاية على العديد من الشركات الخاصة تصدير منتجاتها لأسباب لوجستية، وكذلك تراجع الشهية بين المستوردين الأجانب للمخاطرة بالتعامل مع الشركات في بلد مزقته الحرب. دفع هذا عددًا كبيرًا من رجال الأعمال اليمنيين إلى مغادرة البلاد والبحث عن فرص في الخارج. وأدى تدفق رأس المال المرتبط بمثل هذا النزوح الجماعي إلى تفاقم الوضع الاقتصادي، وترك آلاف اليمنيين عاطلين عن العمل”.
في الوقت نفسه، يلفت إلى أن “القيود الأمنية التي فرضتها السعودية على الحدود اليمنية وعلى العمال اليمنيين لم تنجح في وقف تدفق اليمنيين إلى السعودية”.
خيارات أخرى
مع تلك التغيرات والتأثيرات، تواصل المملكة بإصرار اتباع استراتيجيتها التي تتمحور حول الأمن. الأمر الذي أدى إلى تسريع تفتيت اليمن وتقسيمه إلى مناطق نفوذ مختلفة. الإجراءات التي تتخذها الرياض على طول الحدود أو فوقها مباشرة تعطل بشكل مباشر حياة المجتمعات المحلية، وتؤثر بشكل غير مباشر على اقتصاد اليمن ككل، ولا تعزز الأمن الداخلي السعودي.
لذلك، يؤكد ناجي أن “الأمر يتطلب إطارًا جديدًا للسياسة”، حسب قوله. فقد “يستلزم أوضح خيار مربح للجانبين اعتماد برنامج إنعاش اقتصادي. حيث ستستفيد السعودية تقريبًا بقدر استفادة اليمن، بما في ذلك على الجبهة الأمنية”.
وأوضح: نظرًا لنية السعوديين الظاهرة لتقليص عملياتهم العسكرية في اليمن، مقابل إنهاء الحوثيين للهجمات على الأراضي السعودية. يصبح هذا هو الخيار المعقول الوحيد. الانسحاب السعودي الذي لا يتضمن نوعًا من الاتفاق أو على الأقل تفاهم ضمني مع الحوثي يمكن أن يشجع الأخير على محاولة الاستيلاء على المزيد من البلاد، وبالتالي دفع اليمن إلى دوامة أخرى من الصراع. ومن مصلحة الرياض تفادي مثل هذه النتيجة.
يمكن أن تبدأ الرياض بإعادة إنشاء وتعزيز اللجان الاقتصادية السعودية- اليمنية المشتركة، التي تم تشكيلها عندما تم توقيع معاهدة جدة في عام 2000. ويمكن أن تدخل توصيات اللجان الخاصة بمشاريع الإنعاش الاقتصادي في المناطق الحدودية حيز التنفيذ في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة اليمنية -والتي تحتفظ السعودية بعلاقات وثيقة معها- ولاحقًا، إذا توصل السعوديون إلى تفاهم مع الحوثيين، فيمكن تنفيذه في مكان آخر.
استثمارات طموحه
على الرغم من أن إحياء الأسواق الحدودية يجب أن يمثل الهدف النهائي للجان الاقتصادية، لكنه “مشروع طموح”، كما يرى الباحث اليمني. لكن في غضون ذلك، قد تنظر اللجان في اتخاذ مشاريع أكثر تواضعًا من شأنها أن تجني نتائج مفيدة اقتصاديًا، وإن كان ذلك على نطاق أصغر.
يقول: يستلزم أحد هذه المشاريع إنشاء السعودية لمنطقة تجارة حرة داخل أراضيها على طول حدودها مع اليمن. يمكن للسعوديين أن يأخذوا حذوهم من المنطقة الحرة -التي أنشأتها سلطنة عمان على حدودها مع محافظة المهرة اليمنية- إذا أطلقت الرياض مخططًا مشابهًا على أراضيها، فستحتفظ بالإشراف على الأمور الأمنية. مع تحفيز التجارة بين اليمنيين والسعوديين.
كما أن الاستثمار في قطاعات اقتصادية معينة في المناطق الداخلية من اليمن سيساعد أيضًا على استقرار المجتمعات التي خرجت من صفوفها بسبب الحرب. لا سيما إذا كان ذلك مصحوبًا برفع أو تخفيف القيود المفروضة على استيراد السلع اليمنية. يرى ناجي أنه “إذا تم تنشيط القطاع الزراعي في اليمن، سيعيد توظيف نسبة كبيرة من المزارعين والعاملين الزراعيين ذوي الخبرة في البلاد، وسيكون لدى هؤلاء العمال المهرة حافز قوي للبقاء.