صرخات ضحايا التحرش والإساءات الجنسية ليست كافية لإدانة المتهمين في مصر. فقد تتحول إلى صرخة تشهير قد تدفع نساء وفتيات أخريات إلى حبس أنفاسهنّ، باعتبار الكتمان فرصة وحيدة للهروب من الواقع.
هذا الواقع أنتجه مسار قانوني لا يزال قاصرًا، رغم التعديلات التشريعية، عن تحقيق عدالة كاملة في هذا الملف شديد الحساسية. بينما تزداد حملات عبر مواقع التواصل الاجتماعي لدعم الضحايا نفسيًا، ومساعدتهن لعدم السكوت.
ربما تسجتيب البعض لنداءات المجتمع الحقوقي، لكن عين أخريات يحدقن في مجتمع يرقب لحظة الانقضاض على الضحية قبل المتهم. هنا يدور صراع نفسي طويل قد ينتهي بأن “السكوت أسلم”، لكنه كمن “دفن جرحا” يزداد مع الوقت تراكمًا.
بينما لم تنته السوشيال ميديا من ملاحقة تفاصيل اتهام الممثل شادي خلف بالتحرش بفتيات في ورش التمثيل. حتى تعج الأخبار بوقائع جرى كشفها إما مصادفة أو تحت ضغط من الدوائر القريبة من الضحية، وهو ما يعني أن المكشوف مجرد “عينة” من المكسوت عنه.
وفي غضون أيام كانت هناوين الأخبار تحمل للقراء ثلاثة وقائع، تلميذة ضحية التحرش بمدرسة الإسكندرية، متحرش المترو، متحرش الزقايق. وهي أحداث متتابعة، يرجع البعض سبب تزايدها إلى القصور القانوني في ملاحقة المتهمين بالتحرش في قضايا سابقة.
حماية قانونية
وفي خطوة جديدة لمناهضة جرائم التحرش الجنسي والاغتصاب، وافق مجلس النواب العام الماضي على مشروع قانون لتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية، للحفاظ على سرية بيانات المبلغ أو ضحية الجريمة.
التعديل الذي أقرّ بغالبية ثلثي أعضاء البرلمان اشتمل على مادة وحيدة، نصّت على أنه “يجوز لقاضي التحقيق لظرف يقرره أن يمنع إثبات بيانات المجني عليه في أوراق القضية. وذلك في جرائم هتك العرض وإفساد الأخلاق والتعرّض للغير والتحرش المنصوص عليها في قانون العقوبات وقانون الطفل. على أن يجري إنشاء ملف فرعي يتضمّن بيانات المجني عليه كاملاً، بهدف عرضه عند الحاجة على هيئة المحكمة، والمتهم، والدفاع”. لتمثل تلك المادة باب النجاة للضحايا والناجيات، تطمئنهن بأن بياناتهن لن يطلّع عليها أحد، وفقًا للقانون، ولكن الحقيقة مغايرة، في وقائع جرى تسريب بيانات ضحاياها.
تسريب البيانات وعدم كفاية الأدلة
قضية الفيرمونت الشهيرة شهدت تسريب اسم الضحية. وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات وصور من هاتف الضحية والشاهدة. وتحولت القضية من اغتصاب إلى حفلة للجنس الجماعي وفقًا للتحقيقات وبيان النيابة. كما تحولت الضحية والشاهدة لمتهمين، وتم القبض على الشاهدة، نجلة الفنانة نهى العمروسي، ثم حبسها وإخلاء سبيلها لاحقًا.
إلهام عيداروس الناشطة النسوية، قالت إن تسريب البيانات أمور شخصية عن الضحايا أو الشهود، بمثابة تراجع للوراء. وتراجع للسيدات عن الإدلاء بشهادتهن أو الإبلاغ عن قضايا العنف الجنسي. وهنا ستخشى الفتيات والسيدات من عدم الحماية، وهو أمر لابد أن يكفله لهن القانون، خاصة في تلك النوعية من القضايا.
ليس تسريب البيانات وحده من يدفع الفتيات للتراجع للوراء. ولكن المسار القضائي أيضًا، ففي مايو الماضي قررت النيابة إخلاء سبيل متهمي الفيرمونت لعدم كفاية الأدلة. وقررت أنه لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية فيها مؤقتًا. وأوضحت النيابة العامة أنها اتخذت قرارها بعد تضارب أقوال الشهود، وعدم التمكن من الحصول على المقطع المصور الذي قيل إنه يوثّق الواقعة. بالإضافة إلى مرور ست سنوات على الواقعة؛ ما تسبب في عدم توفر الأدلة المادية اليقينية.
ضعف المسار القانوني
وهنا تضيف عيداروس أن هذا القرار له تأثير سلبي على الفتيات اللاتي سيتراجعن عن الإبلاغ واتخاذ المسار القضائي مستقبلاً. مستنكرة استخدام الثغرات القانونية حتى يحصل المتهمون على البراءة. مشيرة إلى أنه في مثل تلك القضايا عند حصول المتهم على حكم سيكون دافعًا لباقي الفتيات للتحدث، والإبلاغ عن وقائع مشابهة.
وتتفق انتصار السعيد المحامية النسوية في أن عبارة عدم كفاية الأدلة هي التي تستخدم دوماً في مثل تلك القضايا. التي عادة يكون قد مر عليها سنوات، وهي عبارة تحمل الشك لصالح المتهمين. ومثل تلك الأحكام قد تدفع الفتيات للتراجع عن موقفهن، ولكن يجب أن تفكر الفتيات في أن مجرد الحديث عن الواقعة، فإنّ هناك وصمًا مجتمعيًا سيلاحق المتهمين.
لم تكن قضية الفيرمونت الأولى التي حصل خلالها من وجهت إليهم الاتهامات على إخلاء سبيل أو البراءة. فمن قبل وبعد نحو تسعة أشهر على دعوى التحرش التي رفعتها الشاعرة آلاء حسانين ضد الناشر المصري محمد هاشم صاحب “دار ميريت”، حصل هاشم على البراءة. في حكم المحكمة، استخدم القاضي عمل الشاعرة في مجال الكتابة والإبداع ليكون مدخلاً لإدانتها. وجاء في نصه: “حيث إن المحكمة تنوه إلى أن الشاكية تمارس تأليف القصص وكتابة الشعر ومن مهاراتها الفذة معرفة رائحة احتراق الحشيش المخدر. ومن ضمن هواياتها التحدث مع آخرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي الفيس بوك متخذة من المقاهي العامة مكاناً لمقابلتهم”.
الهزيمة والحق الشخصي
المجني عليها التي ظلت تتهرب من الكتابة لفترة بحسب وصفها، قالت إنها عاشت هي وعائلتها لحظات خوف وقلق. ووصفت مشاعرها بـ”الهزيمة”، فما كانت تسعى له هو الحصول على حقها الشخصي فقط: “آمنت بالعدالة زمنًا، صممت أذني على سماع قصص كثيرة مشابهة لقصتي. قلت: لن أصبح مجرد قصة أخرى”. وترى آلاء أن الفتيات في مصر في حاجة لدعم أكبر حتى يواصلن المضي في هذا الطريق الذي بدأ من خلال شهادات. وعليه فيجب أن يستمر لمقاضاة ومحاسبة للمتهمين.
واقعة فتاة ميت غمر أيضًا تجسد وجعًا جديدًا لضحية التحرش. بعدما قضت محكمة جنايات المنصورة في مارس الماضي ببراءة المتهمين السبعة في القضية التي عرفت باسم فتاة ميت غمر. وذلك بعد 100 يوم في الحبس على ذمة القضية، إثر ضبطهم على خلفية اتهام الفتاة لهم بالتحرش الجماعي بها في أحد شوارع المدينة.
تقول الفتاة إنها كانت تتوقع حصول المتهمين على حكم قاسٍ، بعد تصويرهم أثناء القيام بالواقعة. فكان الحكم ببراءتهم مفجعًا، وسبب لها صدمة، جعلتها تندم على اللجوء للقانون
تقول الفتاة إنها كانت تتوقع حصول المتهمين على حكم قاسٍ، بعد تصويرهم أثناء القيام بالواقعة. فكان الحكم ببراءتهم مفجعًا، وسبب لها صدمة، جعلتها تندم على اللجوء للقانون، على حد تعبيرها. وتابعت: “كنت أسعى للقضاء لحمايتي، كنت أتخيل أنه سيحميني وهو الوحيد القادر على إنصافي. لا أتخيل أن من قام بلمس جسدي دون إرادتي أنه حر طليق، وأنا محبوسة في ذكرى الواقعة التي لا تمحى من الذاكرة”.
جمال الأخرس، محامي المتمهين، قال في مرافعته إن النيابة العامة بميت غمر وجهت إلى المجني عليها 15 سؤالاً. وكان هناك تناقض في الأقوال من وجه نظره، وأنه لا يوجد دليل في أوراق القضية تثبت أن المتهمين قاموا بما هو موصوف في القضية. كما دفع هاني عباده، محامي المتهمين بانتفاء جريمة هتك العرض بركنيها المادى والمعنوى. وعرض صورا من خلال “اللاب توب” للمجني عليها من مواقع التواصل الاجتماعي وهو ما اعتبرته الناجية تشهيرًا بها واستخدام صورها الخاصة لتشويه سمعتها.
نفور من المسار القانوني.. وأد مستقبل الشهادات
لو عادت تلك الوقائع مجددًا فلن تتخذ بسنت ضحية ميت غمر المسار القانوني الذي لم ينصفها. وهو نفس الحال للكاتبة آلاء حسانين، ولكن ماذا عن الفتيات اللاتي لم يختبرن التجربة بعد. هل عند تعرضهن لوقائع مماثلة سيلجأن للقضاء.
ترى منار شريف (33 سنة) أنها لن تسلك هذا المسار الذي تراه مخيبًا للأمال، فهو مسار لمزيد من التشويه. وذلك بدلاً من الحصول على حقها: “عند تعرضي لواقعة مشابهة فلن أذهب لتحرير محضر. فلو فعلت ذلك سيتم تسريب بياناتي، وأيضًا التشهير بي”.
وهنا تلفت انتصار السعيد لنقطة أخرى، وهي التعامل السيئ في أقسام الشرطة، ورفض العديد من الأمناء تحرير المحاضر بتلك الوقائع. عندما يسعون للحل الودي مع الفتاة، الذي يصل للضغط عليها، وأيضًا مساعدة أهل المجني عليه للضغط عليها للتنازل عن المحضر. وهو ما يجب تغييره.
أما ياسمين عبد الله (38 عاما)، فترى أن هناك قضايا أخرى تم البت بها. وعلى رأسها قضية طالب الجامعة الأمريكية بسام أحمد زكي الذي حكم عليه بالفعل. وهناك أيضًا متحرش المترو التي قامت الفتاة بتصويره وتحرير محضر والقبض عليه، ثم إحالته للمحاكمة. وتابعت: “عند التعرض لحالة مماثلة، فإنّ الفعل الصح هو التوجه لتحرير محضر، حتى لو تم إخلاء سبيل أو براءة متهمين بالتحرش. فعلينا كفتيات وسيدات استكمال الإصرار على الإبلاغ حتى يسمع صوتنا ويصبح له تأثير”.
تشير ياسمين إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي فتحت بابًا للفتيات للحكي والحديث، ونشر الشهادات. وهي فرصة لا يجب أن نتراجع إزاءها للوراء، فيجب الاستمرار حتى تحقيق المزيد من المكاسب حتى ولو كانت هناك خسائر.