لعله قد أصبح من المسلمات، أو على الأقل من المعطيات الكبرى الحاكمة للمسألة العربية الإسرائيلية وفي قلبها القضية الفليسطينية حاليا – والتي ستبقى معنا طويلا – أنها لم تعد قضية العرب الأولى ولا الثانية ولا الثالثة، بمعنى أن النظر لإسرائيل لم يعد محكوما بالمنظور الإيديولوجي القومي العربي، لدى معظم الحكومات العربية المهمة، ولا عند قطاعات نافذة من النخب السياسية والثقافية العربية. وبالطبع لم يكن التكييف الديني البحت للصراع مع إسرائيل شائعا- بوعي- إلا عند تنظيمات الاسلام السياسي، التي منيت بدورها بهزيمة تكاد تكون ماحقة في خضم صراعات ما بعد الربيع العربي.

بالطبع -ولدواع الإحاطة المعرفية فقط- فقد كان شيء من ذلك التكييف الديني للصراع شائعا لدى العامة في كل البلدان العربية، ولكنه كان دائما مختلطا بدرجة غائمة من الوعي القومي، وفي كل الأحوال فإن آراء ومدركات أولئك العوام من مواطنينا ليست ذات وزن مؤثر، بما أن الرأي العام ليس أصلا موضع حساب لصناع السياسة والفكر في مجتمعاتنا ودولنا، ومن ثم فلا خطأ في قولنا أن أيا من المنظورين القومي أو الإسلامي لم يعد حاكما بل ولا مهما في التعامل الاستراتيجي والتكتيكي مع إسرائيل لدي أغلب الحكومات والنخب العربية .

هذان المنظوران الإيديولوجيان القومي والديني هما ما يمكن أن نسميهما بالأدبيات القديمة في الصراع العربي الإسرائيلي، وقد أضاف إليهما الرئيس عبد الفتاح السيسي في حديثه الأخير في الندوة الثقافية للقوات المسلحة في ذكري انتصارات أكتوبر ١٩٧٣ إحلال العلاقات السلمية وحسن الجوار وربما التعاون الإقليمي محل الصراع المسلح في العلاقات بين دول الإقليم.

هذه القراءة لتلك المعطيات لا يختلف عليها اثنان فيما أظن، لكنها ليست كل المعطيات الواجب قراءتها، إذ تبقى القضية الفلسطينية ماثلة كقضية تحرر وطني  وحقوق سياسية لشعب مضطهد، وكذلك تبقى مسألة الأيديولوجية الصهيونية بمضمونها العنصري الاستعماري المنحدر من الفكر القومي الأوروبي في القرنين ١٨ و١٩، ثم تبقي قضية القضايا بالنسبة لمصر وهي إملاءات الجيوبوليتيكس، أو الجغرافيا السياسية، وتأثيراتها الحاسمة علي الأمن القومي والمصالح الوطنية المصرية.

لن نسترسل كثيرا في الحديث عن الحقوق الفلسطينية، ولا عن الصهيونية بحكم أنهما مسألتان واضحتان بذاتهما، كما يقول أساتذة علم المنطق، ولكن ربما لا تكون مسألة الجيوبوليتيك أو الجغرافيا السياسية لعلاقات التعاون والتنافس وحتى الصراع بين مصر وإسرائيل بهذا الوضوح في أذهان بعضنا أو معظمنا.

يرجع قدر كبير من انعدام الوضوح في هذه النقطة إلى غلبة الإدراك القومي للصراع مع إسرائيل والصهيونية على الفكر السياسي المصري طوال الحقبة الناصرية، متوازيا معه التكييف الديني لهذا الصراع لدى جماعات الإسلام السياسي، وفي الخطاب الرسمي لبعض الحكومات العربية في الخمسينيات والستينيات،  كما سبق التنويه، وبما أن “هذه الأدبيات القديمة”! لم تعد الآن ذات موضوع -على نحو ما هو واضح في السطور الأولى -فقد حان الوقت للتركيز الواجب على المكون الجغرافي السياسي لجدلية العلاقات المصرية الإسرائيلية.

قد لا تكفي مشاركة مصر الملكية في حرب فلسطين عام ١٩٤٨، أي قبل تصديها في الحقبة الناصرية لقيادة المشروع القومي العربي لشرح وإثبات ما نسميه بإملاءات الجغرافيا السياسية، وذلك لأن كثيرين تحدثوا وقتها عن منافسات العروش بين ملك مصر والملكين الهاشميين في الأردن والعراق حول الزعامة العربية الاسلامية،  باعتبارها الدافع الرئيسي للمشاركة المصرية في حرب ١٩٤٨، وإن كانت هذه المنافسة تنطوي في ذاتها علي مدلولات جغرافية سياسية،  ولكن من المؤكد أنه يكفي ويزيد لشرح وإثبات حاكمية عامل الجغرافيا السياسية لجدلية العلاقة المصرية الإسرائيلية رد مصطفي النحاس باشا المفحم على السفير البريطاني عام ١٩٣٦،  ففي ذلك العام وبينما كانت الثورة العربية الكبرى تحتدم في فلسطين ضد المشروع الصهيوني وحاضنته الممثلة في الانتداب البريطاني، أبدى النحاس كرئيس لحكومة مصر اهتماما شديدا بتلبية الأماني الوطنية الفليسطينية، الأمر الذي اعتبره البريطانيون موقفا غير ودي من الزعيم المصري، الذي كانوا قد وقعوا معه لتوهم معاهدة ١٩٣٦،  آملين في فتح صفحة جديدة مع المصريين وقيادتهم الوطنية، فكان رد النحاس هو أنه “لا يمكنه الاطمئنان علي أمن مصر مع وجود قوة عسكرية متحالفة مع قوى عالمية علي حدود البلاد الشرقية، كما هو  وضع  المنظمات الصهيونية حاليا٠

حرب فلسطين 1948

لمزيد من تأصيل نظرية النحاس باشا، التي ترقى في الحقيقة إلى مستوى العقيدة الاستراتيجة للأمن القومي المصري، فلنفترض أن أيا من جارات مصر العربيات أو من جاراتها في أي اتجاه جغرافي تمتلك مالدي إسرائيل من دوافع وقدرات وتحالفات دولية (بغض النظر عن الدين والقومية وحتى عن الحقوق الفليسطينية، أي بغض النظر عن التاريخ ).. فأليس علينا أن ننافسها، ليس فقط في امتلاك هذه الأدوات والقدرات، ولكن أيضا في التأثير النشط في أوضاع الإقليم لتحقيق مستويات متقدمة من توازنات القوة الشاملة، وترتيبات الأمن الاقليمي الجماعي، التي يجب أن يكون في مقدمتها إحياء مبادرة إخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل، والتي هي مبادرة مصرية الأصل تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي يمكن أن تكون مكملة أو موازية للمفاوضات النووية بين إيران وبين الدول الكبري،  وكذلك ربط التعاون الاقتصادي الإقليمي بهذه الترتيبات، بحيث لا تحصل إسرائيل علي جوائز “الخليج” بالذات مجانا، وأحيانا على حساب المصالح المصرية بالدرجة الأولي، على نحو ما هو مطروح حاليا من تصدير النفط الخليجي من الموانئ الإسرائيلية، خصما من حصة قناة السويس، وغيرها من مرافق نقل البترول المصرية.

بالطبع هناك أمثلة كثيرة لإمكانيات التنافس والتعاون الواعيين بين مصر وإسرائيل في الإطار الجيوبولتيكي الصرف، ولكن يبقى دائما أن مصر هي أكبر قوة إقليمية في المنطقة، وهي دائما المرشحة للقيادة والقادرة عليها، وهذا في حد ذاته رصيد جيوبوليتيكي بالغ الضخامة والتأثير يمكن ويجب توظيفه لتحقيق ما تحدثنا عنه من توازنات وترتيبات٠