انطلق موسم صوم السيدة العذراء مريم فبدأ الأقباط الحج إليها ينشدون المدائح ويتهللون بالتراتيل. “على دير العدرا ودّيني. أوفي ندري والرب راعيني. يا مراكبي وديني للعدرا وأعطيك من نَدْري شمعة تحطها في بيتك بركة”.
3 مزارات شهيرة لمحبي العذراء
في ثلاثة أديرة شهيرة تستقبل أم النور زوارها. ففي دير العذراء بجبل أسيوط بدرنكة يتجه آلاف الأقباط صوب مغارتها الأثرية يقضون أسبوعَي الصوم بين صلوات القداس وذبح النذور والمشاركة في دورة العذراء الشهيرة.
قطار طويل من الشمامسة يهبط من مغارة العذراء بالجبل ثم يصعد مرة أخرى والكل يردد “السلام لك يا مريم”. بينما يطير الحمام في السماء إذ تتسمى العذراء باسمه فيلقبونها بـ”الحمامة الحسنة”.
لماذا يدق الأقباط الصلبان في الموالد؟
أما في دير العذراء بالبياضية ببني سويف وكذلك في كنيسة العذراء الأثرية بمسطرد في القاهرة فإن احتفالًا أصغر ينعقد يقصد فيه الزوار بئرًا أثرية قيل إن العذراء حمّمت طفلها المسيح فيه. وذلك أثناء رحلة هروبها إلى مصر.
وبمجرد أن تعبر من بوابة الكنيسة سترى الموالد المصرية بكامل زينتها. الحلوى والحمص والفولكلور. إلا أن أكثر ما يميز موالد الأقباط عن موالد المسلمين “دقاق الصليب”.
ففي أحد أركان كنيسة مسطرد وأسفل سرادق كبير ينعقد لاستقبال الزوار ستسمع صريخًا للأطفال يختلط بصوت آلة. وحين تقترب ستجد دقّاق الصليب يمسك بيد طفل صغير ويثبت في يديه آلة معدنية ليترك في معصمه صليبًا. وربما وجدت شابًا قرر طباعة صورة لأحد القديسين على ذراعه. فمنهم من يحب مار جرجس البطل. ومنهم من يفضل صورة العذراء.
يقول مخلص -داقق الصليب: أعمل في هذه المهنة منذ عشرين سنة. أجوب الموالد والاحتفالات حيث يقبل الزوار على دق الصليب. وهو رمز الافتخار لأي مسيحي مثلما يقول بولس الرسول (فَحَاشَا لِى أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. الَّذِى بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِى وَأَنَا لِلْعَالَمِ). فهو رمز الفداء بينما هناك بعض الأقباط يدقون صورًا للقديسين كنذور.
ماركو الأمين -الباحث في التاريخ الكنسي- يرد عادة الوشم أو دق الصليب إلى التاريخ المصري القديم. مؤكدًا أن المسيحيين المصريين فقط دون بقية مسيحيي العالم يحرصون على دق الصلبان. لأن الأمر له جذور في الثقافة المصرية. ففي الريف والصعيد ستجد بعض النساء حتى اليوم يضعن بعض الوشوم في الوجه واليدين. مفرقًا بين الوشم التقليدي والتاتو الحديث.
هل للوشم جذور مصرية قديمة؟
“الأمين” أوضح أن دق الصلبان ارتبط بالموالد باعتباره شكلًا من أشكال العبادة. وهو أمر يذكر بتعميد المعابد المصرية القديمة. حيث حرص المسيحيون الأوائل على ظاهرة تسمى “تعميد المعابد” حين دخلت المسيحية مصر فعملوا على رسم الصلبان فوق الآثار القديمة.
وأشار الباحث إلى أن بعض الآثار المسيحية التي وجدت في النوبة والواحات قد حملت وشم الصليب. وهو يشبه علامة عنخ الفرعونية. مؤكدًا أن المصريين كانوا يضعون الوشم -سواء مسلمين أو مسيحيين- كنوع من الحماية الغرائبية حتى اقتصر الأمر على الأقباط ليرسم في الرسغ مكان النبض. وفي ظاهر اليد أحيانًا. وذلك بين القرنين السابع عشر والثامن عشر. وبعض جذورها تعود لفترة المماليك.
أما أشهر الأساطير التي ارتبطت بوشم الصليب فظهرت في عصور اضطهاد المسيحيين قديمًا. حيث اعتقدوا أن ملكًا سوف يجيء ويخلص المسيحيين ويتعرف عليهم عبر الصليب في أياديهم.
في مولد العدرا.. موسم الوفاء بالنذر
إلى جانب دق الصلبان فإن النذور من أكثر العادات التي ارتبطت بالموالد القبطية. حتى إن دير السيدة العذراء مريم بدرنكة يخصص غرفة كاملة لذبح النذور التي توزع على الفقراء في موسم الدير. بينما يحلل القمص عبد المسيح بسيط -كاهن كنيسة العذراء الأثرية بمسطرد- فيقول إن النذر هو هدية أو أُعطية يهبها المؤمن بهدف أن يشكر الله على نعمه وأعمال محبته التي يساعد بها الناس. ومن ثم فإن النذر يصبح تعبيرًا عن شكر الله. وتختلف أشكال تقديم النذور. فالبعض ينذر مالًا أو ذبيحة والبعض ينذر شموعًا والبعض الآخر ينذر صومًا أو زيارة.
يقول “بسيط” إن أسبوعَي صوم العذراء تكثر فيهما النذور. حيث تشهد كنيسة مسطرد آلاف الزائرين يترددون على الكنيسة من مختلف المحافظات لنوال البركة أو الزيارة أو الوفاء بالنذر. وهو ما يختلف عن العشور أو البكور التي يخرجها المسيحي من ماله لإخوة الرب. فالعشور نسبة محددة من الدخل يتم دفعها للكنيسة. أما البكور فهي أول ما يربحه المسيحي من مال فيهب جزءا منه للرب. بينما النذر يبدو كأنه وعد من المؤمن للرب أو اتفاق بينهما لا بد من الوفاء به. مستشهدا بآية من الكتاب المقدس تقول “إذا نذرت نذرًا للرب إلهك فلا تؤخر إيفاءه”.
شروط النذر عند الأقباط
يحذر “بسيط” من تغيير النذر. فلا يصح ذلك ولا يمكن لكاهن أو أسقف أن يمنح حلًا للمؤمن بتغيير نذره. رغم أن الكهنوت له سلطان الحل والربط. موضحًا أنه إنْ نذر شخص مثلًا أن يعطي خروفا للكنيسة أو للفقراء أو غيره فلا يمكن أن يقوم بتبديل النذر بثمن الخروف مثلًا. بل يجب أن ينفذ النذر كما خرج من فمه. مستشهدا بالآية “تُصَلِّي لَهُ فَيَسْتَمِعُ لَكَ وَنُذُورُكَ تُوفِيهَا” (اي 22: 27) و”اِذْبَحْ لِلَّهِ حَمْداً وَأَوْفِ الْعَلِيَّ نُذُورَكَ” (مز 50: 14).
ووفق “بسيط” فإن صاحب النذر لا بد وأن يكون أهلًا لذلك. فمثلًا الطفل يمكنه أن ينذر تقديم شمع للكنيسة إذا نجح في السنة الدراسية. لكن لا يمكنه نذر البتولية مثلًا. والتي تعني أن يعيش حياته راهبًا ولا يتزوج لأن هذا الأمر لا يستطيع تقريره في الطفولة.