تقود الولايات المتحدة، عبر مجلس الاحتياطي الفيدرالي، حرب تضخم عالمية، ستكون هي الرابح الوحيد فيها بدولار أقوى بينما ستلحق ضررًا عميقًا بدول العالم الأخرى. وهو ما ظهر بالفعل في عدد كبير منها. مصر وكينيا والأرجنتين المثقلة بالديون -على سبيل المثال- هما أقرب ما يكون إلى التخلف عن سداد الديون بفعل ارتفاعات العملة الأمريكية. كما أن الأسواق الناشئة مثل الهند وكوريا الجنوبية مهددة بكبح الاستثمارات الخارجية القادمة إليها.
هذا الأمر تصفه باتريشيا كوهين مراسلة الاقتصاد العالمي في جريدة “التايمز”، بأنه تصميم على سحق التضخم في الداخل على حساب الخارج. ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وتضخيم حجم مدفوعات الديون وزيادة مخاطر حدوث ركود عميق .
تقول “كوهين” – في تقرير حديث بجريدة “نيويورك تايمز” – إن هذه الزيادات في أسعار الفائدة تزيد من قيمة الدولار – العملة الأساسية لمعظم التجارة والمعاملات العالمية – وتسبب اضطرابًا اقتصاديًا في كل من الدول الغنية والفقيرة، على حد سواء. ففي بريطانيا وفي أنحاء كثيرة من القارة الأوروبية، يساعد تسارع الدولار في تغذية التضخم الحاد. وقد لامس الجنيه الإسترليني مستوى قياسي منخفض مقابل الدولار، إذ امتنع المستثمرون عن خفض الضرائب الحكومية وخطة الإنفاق. كما ثبتت الصين – التي تسيطر بشدة على عملتها – بتثبيت الرنمينبي عند أدنى مستوى له في عامين، بينما تتخذ خطوات لإدارة انخفاضه.
وفي نيجيريا والصومال، حيث يتربص خطر المجاعة بالفعل، يؤدي الدولار القوي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود والأدوية المستوردة.
نفسي وليسقط الجميع
يرى إسوار براساد، أستاذ الاقتصاد في جامعة كورنيل ومؤلف العديد من الكتب عن العملات، أنه “بالنسبة لبقية العالم، الوضع غير جيد بالمرة”. لكن ليس أمام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي خيار سوى التصرف بهذه القوة للسيطرة على التضخم: “أي تأخير في العمل يمكن أن يجعل الأمور أكثر سوءًا”.
ومع ذلك، فإن “كوهين” تقول: مهما كانت التوقعات الاقتصادية في الولايات المتحدة ضبابية، لا تزال أفضل مما كانت عليه في معظم المناطق الأخرى.
وتضيف أنه كثيرًا ما يتردد صدى القرارات السياسية التي تتخذ في واشنطن على نطاق واسع. فالولايات المتحدة قوة عظمى تمتلك أكبر اقتصاد في العالم ولديها احتياطيات ضخمة من النفط والغاز الطبيعي. لكن عندما يتعلق الأمر بالتمويل والتجارة العالميين، فإن تأثيرها ضخم للغاية.
الجميع مربوط بالدولار
والدولار هو العملة الاحتياطية في العالم، تستخدمها الشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات المالية، بغض النظر عن مكان وجودها، لتسعير السلع وتسوية الحسابات.
كذلك، تميل أسعار الطاقة والغذاء إلى أن يتم تسعيرها بالدولار عند شرائها وبيعها في السوق العالمية. وكذلك الكثير من الديون المستحقة على الدول النامية.
وقد أثبتت دراسة لصندوق النقد الدولي أن ما يقرب من 40% من المعاملات العالمية تتم بالدولار. سواء كانت الولايات المتحدة متورطة أم لا.
والآن، وصلت قيمة الدولار مقارنة بالعملات الرئيسية الأخرى مثل الين الياباني إلى أعلى مستوياتها منذ عقود. كما وصل اليورو، الذي تستخدمه 19 دولة في جميع أنحاء أوروبا، إلى تعادل 1 إلى 1 مع الدولار في يونيو/ تموز الماضي للمرة الأولى منذ عام 2002. كما أن الدولار يضرب العملات الأخرى أيضًا، بما في ذلك الريال البرازيلي والون الكوري الجنوبي والدينار التونسي.
دولار قوي وأزمات متلاحقة
تقول “كوهين” إن التضخم العالمي الراهن وأثره الحاد على دول العالم والأكثر حدة على الأسواق الناشئة والدول الفقيرة تقع ضمن أسبابه سلسلة الأزمات التي هزت الدول خلال الفترة الماضية، بما في ذلك جائحة كورونا، وأزمة سلاسل التوريد، والغزو الروسي لأوكرانيا، وكذلك سلسلة الكوارث المناخية التي عرقلت إمدادات الغذاء والطاقة في العالم.
إن ارتفاع أسعار الفائدة يجعل الدولار أكثر جاذبية للمستثمرين من خلال ضمان عائد أفضل. وهذا بدوره يعني أنهم يستثمرون أقل في الأسواق الناشئة، ما يفرض مزيدًا من الضغوط على تلك الاقتصادات.
ووفق “براساد”؛ فإن العملة الهشة يمكن أن تعمل أحيانًا “كآلية للتخزين المؤقت”، ما يتسبب في تقليل استيراد الدول وتصدير المزيد. لكن اليوم “لا يرى الكثيرون فوائد النمو الأقوى”. ويتعين على الدول الفقيرة دفع المزيد مقابل الواردات الأساسية مثل النفط أو القمح أو الأدوية وكذلك لفواتير القروض المستحقة من ديون بمليارات الدولارات.
قبل عام، كانت تكلفة 100 دولار من النفط أو سداد ديون بقيمة 100 دولار 1،572 جنيهًا مصريًا، و117،655 وون كوريًا، و41،244 نيرة نيجيرية. واليوم – فقط بسبب ارتفاع الدولار – تبلغ تكلفة دفعة 100 دولار 1950 جنيهًا مصريًا، و143158 وون، و43650 نايرة.
في العام الماضي، بلغت تكلفة علبة شاي بريطانية بقيمة 12 جنيهًا إسترلينيًا 16.44 دولارًا أمريكيًا، واليوم تكلفتها 13.03 دولارًا أمريكيًا. كذلك هبط سعر صندوق الشوكولاتة البلجيكي بقيمة 50 يورو من 58.50 دولارًا إلى 48.32 دولارًا.
الفقراء سيواجهون أكبر انتكاسة
يقول جيسون فورمان، كبير المستشارين الاقتصاديين السابقين في إدارة أوباما، إن الدول الأكثر ضعفًا ستواجه أكبر انتكاسة. غالبًا ما لا يكون أمام الدول الفقيرة خيار سوى سداد القروض بالدولار، بغض النظر عن سعر الصرف عندما اقترضت الأموال لأول مرة.
كانت أسعار الفائدة المتصاعدة في الولايات المتحدة هي التي أطلقت أزمة الديون الكارثية في أمريكا اللاتينية في الثمانينيات.
وهو يرى أن الوضع محفوف بالمخاطر بشكل خاص لأن العديد من البلدان تراكمت عليها ديون فوق المتوسط للتعامل مع تداعيات الوباء. والآن يواجهون ضغوطًا متجددة لتقديم الدعم العام مع ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة.
في إندونيسيا هذا الشهر، اشتبك آلاف المتظاهرين الغاضبين من زيادة أسعار الوقود المدعوم بنسبة 30%، مع الشرطة. وفي تونس، أدى نقص المواد الغذائية المدعومة مثل السكر والبن والدقيق والبيض إلى إغلاق المقاهي وإفراغ رفوف الأسواق. ومن ثم الدعوة إلى الاحتجاج الشعبي.
كما خفضت البرازيل ضرائب الوقود وزادت مدفوعات الرعاية الاجتماعية، لكن ارتفاع الأسعار لا يزال يمثل صراعًا يوميًا.
وجد بحث جديد حول تأثير الدولار القوي على الدول الناشئة أنه يعرقل التقدم الاقتصادي في جميع المجالات.
يقول موريس أوبستفيلد، أستاذ الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا، إن هناك تأثير تراكمي. حتى في البلدان التي لا يكون فيها التضخم مرتفعًا، تشعر البنوك المركزية بالضغط لرفع أسعار الفائدة دعمًا لعملاتها ومنع أسعار الواردات من الارتفاع الصاروخي.
في الأسبوع الماضي، رفعت الأرجنتين والفلبين والبرازيل وإندونيسيا وجنوب إفريقيا والإمارات العربية المتحدة والسويد وسويسرا والمملكة العربية السعودية وبريطانيا والنرويج أسعار الفائدة.
أثر الزيادات المتزامنة للفائدة
وفي حين يرى معظم الخبراء إن عدم السيطرة على التضخم داخل أمريكا سيتسبب في أزمة أكبر من الوضع الحالي، فإن اكتساح ارتفاع أسعار الفائدة هذا في جميع أنحاء العالم يهدد باحتمالية أن يتحرك محافظو البنوك المركزية بعيدًا جدًا وبسرعة كبيرة متبعين السياسة نفسها.
وقد حذر البنك الدولي هذا الشهر من أن الزيادات المتزامنة في أسعار الفائدة تدفع العالم نحو الركود والدول النامية نحو سلسلة من الأزمات المالية التي من شأنها إلحاق “ضرر دائم”.
في عام 1998، جادل آلان جرينسبان، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي لمدة خمس فترات، أنه “ليس من المعقول أن تظل الولايات المتحدة واحة من الرخاء غير متأثرة بعالم يعاني من ضغوط متزايدة بشكل كبير”.
تواجه الولايات المتحدة الآن تباطؤًا في الاقتصاد. لكن المعضلة الأساسية هي نفسها.
يقول أوبستفيلد، الخبير الاقتصادي في جامعة كاليفورنيا: “تتمتع البنوك المركزية بتفويضات محلية بحتة”. لكن العولمة المالية والتجارية جعلت الاقتصادات أكثر ترابطًا مما كانت عليه في أي وقت مضى. لذا، هناك حاجة إلى تعاون أوثق. “لا أعتقد أن البنوك المركزية يمكن أن تتمتع برفاهية عدم التفكير فيما يحدث في الخارج”.
باتريشيا كوهين هي مراسلة الاقتصاد العالمي انضمت إلى “نيويورك تايمز” في 1997، وهي مؤلفة كتاب “في أوج حياتنا: التاريخ الرائع والمستقبل الواعد لمنتصف العصور”.