الديمقراطية مجموعة مصالح مشتركة لعموم المواطنين، الديكتاتورية مصالح أقلية مُتغلبة ومُسيطرة. الديمقراطية ليست مجرد مبادئ ومثاليات عن التداول السلمي للسلطة، ولكنها انحياز اجتماعي؛ لتمكين عموم الناس من حقوقهم، كما يؤدون واجباتهم، الديكتاتورية ليست جينات موروثة في الدم، وليست قدراً حتمياً، يختص به شعب أو ثقافة أو حضارة، ولكنها منظومة حكم وإدارة تحمي امتيازات ومنافع ومصالح فئات بعينها بقصد إدامتها، وزيادتها وضمان عدم تهديدها. الديمقراطية وظيفة اجتماعية، وليست مجرد منظومة من الإجراءات الخاصة باختيار الحكام، وانتقال السلطة فيما بينهم عبر الانتخابات العامة، إنما هي وظيفة اجتماعية تتجلى في الكيفية التي تعمل بها السلطة؛ لأجل الناس، وليست ضد الناس، كذلك في الكيفية التي بها يشكل الناس نوعية السلطة التي تحكمهم، وليس العكس أي أن تتولى السلطة تشكيل وبرمجة الشعب الذي تحكمه. كذلك الديكتاتورية وظيفة اجتماعية تجتهد في الاحتفاظ بالسلطة أطول فترة ممكنة في يد أقلية نافذة مُتغلبة مُتحكمة متزودة بمنظومات القسر، والقهر والإكراه المادي والمعنوي، هذه الأقلية تحكم دون أدنى إزعاج من المحكومين، ثم تتحكم دون أدنى وخز من ضمير، ثم تتصرف في مقادير الشعب، دون أدنى رادع من رد فعلي شعبي مكافئ.
نقطة الاتفاق بين الديكتاتورية والديمقراطية، تتلخص في نوع المصالح الاجتماعية التي تخدمها كل منهما، فالديكتاتورية تخدم مصالح أقلية، تنفرد بالاستحواذ على مفاتيح ومقاليد السلطة، ومنها تنطلق إلى الاستحواذ على موارد الثروة ومصادر المال، باختصار: الديكتاتورية تخدم تحالفا من فئات ممتازة، فئات فوق باقي الفئات، فئات ذات تمكين وتنعيم وسلطان ونفوذ وامتيازات، وديمومة هذا الوضع لفترات طويلة من الزمن، ينزع عنه صفات السوء والاستئثار التي ينطوي عليها، ثم تضفي عليه صفة الأصل الطبيعي للمجتمع والحياة، وتشب الأجيال وراء الأجيال، وهي تعتقد أن استئثار الأقلية المتميزة بالسلطة والثروة، هو أمر طبيعي، مثلما الليل والنهار، والظلمة والنور، والصيف والشتاء، تنزع الديكتاتوريات إلى ترسيخ وهم، أنها حتمية تاريخية، وأنها قدر لازم، وأنها أصل طبيعي من أصول الحياة، الديكتاتورية- على مدى تاريخها الطويل- لديها اعتقاد راسخ، أنها قانون الحياة، وأنه بدونها تضطرب حياة المجتمع، ويسودها الفوضى ويحل فيها الخراب.
نقطة الاختلاف بين الديكتاتورية والديمقراطية: أن الديكتاتورية منظومة مُعمِرة في التاريخ، وفي كل الثقافات وفي كل الأمم، تواصلت، وما زالت تتواصل حتى يومنا هذا في أغلب بلدان العالم، فأكثر شعوب الأرض- حتى يومنا هذا- لم تتمكن من بناء منظومات للعدل، تحمي بها نفسها من بغي الحكام وظلمهم وجورهم، بعض الشعوب- منها شعوب ذات حضارات عريقة في التاريخ القديم- تُحكم اليوم بديكتاتوريات محضة، ديكتاتوريات لا ترى في الشعب إلا مصدر خطر، لا ترى الشعب صاحب سيادة، لا تؤمن أن الشعب له كلمة، تعتقد أن الله، وليس الشعب هو مصدر السلطة، وأن الحكم ليس أكثر من مُلك بيد الله، وأن الله- دون سواه- يهبهم هذا المُلك، وهو من يسائلهم، ويحاسبهم يوم القيامة، هذا اللون من الديكتاتورية الأصلية المعتقة، ما زال يحكم مناطق واسعة من العالم.
…………………………………………………
ليس من طبع الديكتاتوريات أن تتطوع وتبادر- من تلقاء نفسها- بتقديم تنازلات أو تقليص، ما تنفرد به من سلطات، أو تخفيض ما تتمتع به من امتيازات، أو ما تستأثر به من خيرات البلاد، فقط يحدث ذلك عبر تحركات باقي الفئات المحرومة من طيبات السلطة وخيرات الوطن، وهذه التحركات تبدأ بأشكال بسيطة: العزوف عن الحياة العامة، الصمت، اجتناب السلطة، محاولة الصبر والتحمل. ثم في مرحلة ثانية، تبدأ تختمر أفكار الملل، ثم الضجر، ثم السخط، ثم الشكوى. ثم في مرحلة ثالثة، تبدأ تختمر أفكار التذمر، ثم الاحتجاج، ثم في مرحلة رابعة، تختمر أفكار الوعي بالظلم والأمل في العدل، ثم في مرحلة خامسة، تختمر أفكار التغيير والبحث عن وسائل للتعبير عن مكنونات الناس، ومطامحهم وآمالهم المشروعة.
ثم في مرحلة سادسة، يتبلور رأي عام بين أعداد متزايدة من الناس حول مصالحهم المشتركة في مجتمع عادل، وفي حكم يخدم المصالح العامة. ثم في مرحلة سابعة، تتنوع الأفكار وتتعدد التوجهات حول كيفية اقتناع السلطة الحاكمة، أن دوام القهر من الأقلية للأغلبية مستحيل، وأن دوام الإفقار المتعمد للأغلبية، ودوام الإثراء الفاحش للأقلية، كلاهما مستحيل أن يستمر. ثم في مرحلة ثامنة، تختلف ردود فعل الديكتاتوريات على حالة الغليان الاجتماعي المتصاعد، فلو كانت ديكتاتورية متعقلة، فلربما استجابت لبعض مطالب الشعب، لكن المتعقل بين الديكتاتوريات نادر جداً، فلا لزوم للتعقل، وفي يدها الهراوات الغليظة، وعندها السجون المنيعة، ولديها الخبرات الطويلة في الحكم بقبضة الحديد والنار، وبعض الديكتاتوريات تتعقل، لكن بعد فوات الأوان، وحين يكون الغليان قد وصل إلى حد الفوران، وبدأت المياه الوالعة تتساقط من حواف الإناء، هنا تتقدم الديكتاتوريات بتنازلات، لكن كمن يصل إلى المطار، بعد أن تكون الطائرة قد تحركت، ثم أقلعت، ثم عانقت عنان السماء. ثم في مرحلة تاسعة، تتطور الأمور في أحد مسارين: وجود نخب متعقلة في صفوف الشعب والسلطة تقود انتقالاً آمناً نحو أفضل الخيارات الممكنة، أو تدهور الأمور في مسارات شعبوية متشرزمة متناثرة، ليس لها قوام متماسك، وليس لها رأس مفكر، وليس لها قيادة تحظى بتوافق، وليس لها رؤية عملية للمستقبل. ثم في مرحلة عاشرة، تنفلت الأمور نحو انتفاضات شعبية مباغتة أو ثورات عشوائية، يعقبها ديمقراطيات هشة، والديمقراطيات الهشة تفتح الباب لثورات مضادة ، ثم الثورات المضادة لا تكتفي باستعادة الظلم القديم ولا إحياء الاستبداد القديم ، إنما- لدواعي الاستقرار- تبدع استبداداً جديدا، يتضاءل أمامه الاستبداد القديم، ثم تتجرأ- بسهولة شديدة- على اقتراف مظالم بشعة، تبدو المظالم بالمقارنة معها عدلاً مفقوداً وزمناً جميلاً، ويستبد الحنين بكثيرين إلى الديكتاتوريات الأسبق، باعتبارها ديكتاتورية وسطية رحيمة، فيما كانت تنزله بالناس من قهر وفقر، أرحم بكثير من القهر الجديد والفقر الجديد.
……………………………………………………………………..
في بلاد تفتقر إلى تراث سياسي في التغيير الديمقراطي، وتداول السلطة، كما تفتقر إلى تقاليد التحالفات والتوافقات والالتقاء على خطوط عريضة، كما تفتقر إلى احترام الاختلاف والتنوع والتعدد، كما تفتقر إلى تقاليد النضال السلمي في مواجهة عسف الديكتاتورية، كما تفتقر إلى رأي عام ديمقراطي مستنير مشبع بأفكار الحرية الفردية، والحريات العامة والعدل الاجتماعي، في بلاد مثل هذه، تكون المعادلة هي: بنية تحتية قوية متجذرة للديكتاتورية في مقابل بنية تحتية هشة للديمقراطية. وفي مناخ سياسي، تكون فيه كلمة الحاكم هي الدستور الفعلي، وهي القانون العملي، في مناخ مثل هذا، تنكشف القوى الديمقراطية الهشة أمام قوى الديكتاتورية الصلبة، ويدخلان في سباق غير متكافئ، تبدأ فيه القوى الديكتاتورية بإطلاق دخان الرعب: الخوف على البلد، الخوف من الفوضى، الخوف على الدولة، المخاطر على الأمن القومي، المؤامرات الخارجية والداخلية، ثم تحت هذا الدخان يجري اصطياد كل من له معنى أو قيمة من القوى الديمقراطية، ولا توجد مشكلة في قائمة الاتهامات المجهزة، بل والموحدة، حتى تخلو الساحة العامة من كل صوت جاد، يحظى بشيء من التقدير والاحترام لدى قطاعات من الناس، ثم يجري الالتفات إلى القاعدة الأوسع من القوى الديمقراطية الهشة؛ فيجري تأميم من يقبل التأميم، وترضية من يقبل الترضية، واستخدام من يقبل الاستخدام، وتوظيف من يقبل التوظيف، بحيث تتكون معارضة في خدمة الديكتاتورية، وفي تنسيق معها، تأتلف معها في الانتخابات، وتقتسم معها نسبة من مقاعد البرلمان وغيرها من مزايا الحكم وامتيازات السلطة، ثم يحدث- على الملأ- تزاوج بين الديكتاتورية والمعارضة، تزاوج على نفقة الشعب، ورغم أنف الشعب، قوى ديمقراطية هشة، تلعب دور المعارضة بإذن الديكتاتورية وشروطها وعلى مقاسها ووفق مراحل تطورها، ففي كل مرحلة تعيد الديكتاتورية رسم شكل العلاقة بينها وبين قوى الديمقراطية الهشة؛ فيتغير شكل المعارضة؛ فيبدو كأن النظام قد أقدم على إجراء تغييرات مهمة، وقدم تنازلات مهمة، وقام بإصلاحات مهمة، وكل ما تم تقديمه بالفعل هو إعالة من بقي من المعارضة على نفقة الشعب، بينما المعارضة الحقيقية مهمشة أو منسية أو منبوذة أو في الحبس.
وحتى يضمن الطرفان- وهما الديكتاتورية ومعارضتها الرسمية- استمرار هذا التزاوج الشائن على نفقة الشعب، يلزم وأد الطبقات الوسيطة، الطبقات الكفيلة بتحريك العفن في المياه الراكدة، يلزم وأدها بالوصفة السهلة: الجوع والخوف، والانشغال على مدار الليل والنهار بلقمة العيش، ثم الخوف- من الأعماق- من بطش الديكتاتورية، جوع يشغل، ويستهلك الجهد والوقت والطاقة والفكر، وخوف يدفع للسكوت والمشي تحت الحوائط.
…………………………………………………………….
لا تحول ديمقراطي، دون أمرين متلازمين: إحياء الطبقات الوسيطة، تمكين حقوق المواطنة.
وهذا مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.