جدلًا واسعًا، أثارته دعوة الكاتب والباحث السياسي العراقي جرجيس كوليزادة، في مقال نشرته صحيفة سعودية حمل عنوان “دعوة إلى إعادة كتابة القرآن الكريم من جديد”، بدعوى أن “الرسم العثماني المكتوب به لا يصلح لأمة الإسلام في العالم المعاصر”، في الأوساط الدينية والاجتماعية في شتى البلدان الإسلامية، لكن الواقع الحقيقي يشير إلى أن دعوته ترددت وأشير إليها كثيرًا، إلا أن خوض معتركها مرفوض من أتباع “القديم”، ومانحي القُدسية لكل شيء بلا إعمال للعقل.
“رغم دفاع أهل السنة والجماعة على قدسية الرسم العثماني في المصحف الشريف إلا أن السند لهذه القدسية غير منطقي ولا عقلاني”.. الباحث السياسي العراقي جرجيس كوليزادة
هجوم بلا وعي
الكاتب العراقي، ربط التغييرات التي طرأت على الديانات الإسلامية والمسيحية بفعل أزمة انتشار فيروس كورونا، وغلق المساجد والكنائس، ومن ثم إعادة فتحها مع بعض الإجراءات الاحترازية المُشددة التي حدت من إقامة الشعائر الدينية بالشكل المتعارف عليه، وسط تأكيد من المؤسسات الدينية بوجوب ذلك، في ظل انتشار الوباء القاتل.
جرجيس، ذكر في مقالته التي نُشرت بصحيفة إيلاف السعودية، وتم حذفه سريعًا نتيجة الهجوم عليه، أن مساحة من المرونة الفقهية والسماح الشرعي برزت وفرضت نفسها في الواقع الاسلامي الراهن، وهي تحدث لأول مرة في التاريخ منذ بدء الخلافة الإسلامية، من أجل حماية الانسان، لافتًا إلى أن القاعدة الذهبية القرانية “لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا”، تُبرر من باب المنطق والعقل ما جرى من تغييرات وتحولات، ولو أنها نادرة ولم تحصل إلا في واقعنا المعاصر، ولكنها بادرة مشجعة جدًا لاعادة النظر في النصوص الإسلامية، وفي العبادات والممارسات.
ودعا الكاتب، كافة المراجع الإسلامية بإعادة النظر في الأصول الشرعية والفقهية التي تخص الإسلام، وفقًا للمرونات والتغييرات التي حصلت في العبادات بسبب فيروس كورونا، استنادًا إلى رؤية معاصرة تخدم المسلمين كافة وتنفع الإنسانية أجمع، معقبًا: ” أولى المسائل التي ندعو لها هي إعادة النظر في كتابة القرآن الكريم، لأن الرسم العثماني المكتوب به لا يصلح لأمة الإسلام في العالم المعاصر، وخاصة للمسلمين من غير العرب، بسبب الإحراج الملحوظ في لفظ الكلمات المرسومة بشكلها الخاطيء عن الرسم الإملائي الصحيح”.
واستدل على صحة دعوته، قائلًا: “رغم دفاع أهل السنة والجماعة على قدسية الرسم العثماني في المصحف الشريف إلا أن السند لهذه القدسية غير منطقي ولا عقلاني، لأنه لا يعقل فرض قدسية إلهية على شيء من صُنع البشر، والكتابة صناعة بشرية، ثم إن كتابة وجمع آيات المصحف لم تحصل في عهد النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وإنما وقعت بعد سنوات من وفاة الرسول”.
واستشهد جرجيس، بمقال الكاتب السعودي أحمد هاشم، والذي حمل عنوان “تصحيح الإسلام”، مبينًا أن “الرسم الحالي والذي شمل العديد من الأخطاء الإملائية والإعرابية والنحوية قدرت بـ2500 خطأ، إنما كان من فعل الكتاب، واللجنة التي تكونت لجمع كتاب الله”، مشيرًا إلى أن تلك الأخطاء شملت زيادة في أحرف بعض الكلمات، أو نُقصانها، وتبديل حرف بآخر”.
وختم مقاله مؤكدًا أن “الزمن قد حان للتعامل على أساس المنطق والعقل مع النصوص الدينية والخروج من عالم الغيبيات، وغربلة النصوص الدينية من الأخطاء النصية والفكرية التي وقعت فيها بفعل أخطاء بشرية وممارسات آدمية، وبسبب عدم تطور الكتابة قبل ألف وألفين سنة”.
المسألة الأولى التي دعا إليها الكاتب العراقي، والتي لاقت هجومًا كبيرًا؛ ليست جديدة على أي حال، فسبقه إليها العديد من علماء المسلمين، بين مؤيد للطرح وداع إلى إعادة النظر في الأخطاء الإملائية الموجودة في المصحف الشريف، وغير مشكك في قول الله تعالى “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”، وبين رافض للفكرة ومحاربلمن يدعوا لها.
“رسم القرآن إعجاز رباني المشاهدة وكمال الرفعة وهو صادر عن النبي صلى االله عليه وسلم”.. الشيخ عبد العزيز الدباغ
إعجاز إضافي
أستاذ اللغة العربية وآدابها عمر عبد الهادي عتيق، يقول في بحثه الذي حمل عنوان “العلاقة بين رسم القرآن الكريم والدلالة”، إن العلماء القدماء والمحدثون اختلفوا في توجيه المواضع التي خرج فيها الرسم القرآني عن الرسم القياسي “الإملاء”، وانقسموا إلى فريقين؛ فريق ربط الرسم القرآني بالدلالة على اعتبار أن الرسم أمر توقيفي، وفريق نفى ربط الرسم القرآني بالدلالة وطعن في معرفة الصحابة رضوان االله عليهم بالكتابة.
ويرى الشيخ عبد العزيز الدباغ، أن رسم القرآن إعجاز رباني المشاهدة وكمال الرفعة وهو صادر عن النبي صلى االله عليه وسلم، وليس للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة، إنما هو بتوقيف من النبي، وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها ونحو ذلك لأسرار لا تهتدي إليها العقول إلا بفتح رباني، وهو سر من الأسرار التي خص االله بها كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية، فكما أن نظمه مُعجز، فرسمه مُعجز أيضًا.
شيخ القُراء علي بن محمد الضّبّاع، بين في كتابه “سمير الطالبين في رسم وضبط الكتاب المبين”، أن الظواهر الكتابية التي خرجت عن الرسم القياسي لها حكمتها ومسوغاتها الدلالية، إذ لم يخالف الصحابة رضي االله عنهم في هذه الأشياء إلا لأمور قد تحققت عندهم وأسرار وحكم تشهد لهم بأنهم كانوا الغاية ا لقصوى في الذكاء والفطنة.
الآراء السابقة لم تنكر في جوهرها وجود “أخطاء إملائية”، في الرسم العثماني للمصحف الشريف، لكنها أرجعت ضرورة وجودها إلى أمور إعجازية لا قدرة لعلماء اللغة والدين على استيعابها، أو كشف دلالة وجودها على هيئتها المتعارف عليها حاليًا، وهو ما يبرر بشكل كبير عدم تناول القضية بشكل كبير في “الدوائر الإسلامية” الرسمية على مدار 1400 عام.
“عملية جمع القرآن كانت بشرية تمامًا وأي شيء بشري منزوع عنه القداسة”.. عضو اتحاد الكتاب كارم عبد الغفار
سوء هجاء الأولين
في الوقت ذاته، ذهب فريق آخر إلى تأكيد وجود أخطاء إملائية، في القرآن الكريم، نافيًا العلاقة بين الرسم والدلالة، منهم أبو زكريا الفراء الذي قال: “ألا ترى أنهم كتبوا “فما تغن النذر” بغير ياء، و”َمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ” بالياء”، مشيرًا إلى أن ذلك من سوء هجاء الأولين.
وذكر ابن خلدون، في الفصل الثلاثين من الباب الخامس في كتاب “العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”: “كان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولا إلى التوسط لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع”.
وتابع: “انظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته أقيسة رسوم صناعة الخط عند أهلها، ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركاً بما رسمه أصحاب رسول الله، وخير الخلق من بعده المتلقون لوحيه من كتاب الله وكلامه، كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركاً، ويتبع رسمه خطأ أو صوابًا، وأين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه، فاتبع ذلك وأثبت رسماً، ونبه العلماء بالرسم على مواضعه”.
وأكمل: “لا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط، وأن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم أصول الرسم ليس كما يتخيل، بل لكلها وجه، ما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيهاً للصحابة عن توهم النقص في قلة إجادة الخط، وحسبوا أن الخط كمال، فنزهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه، وذلك ليس بصحيح”.
وأشار إلى أن “الخط ليس بكمال في حقهم، إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية كما رأيته فيما مر.. والكمال في الصنائع إضافي، وليس بكمال مطلق، إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ولا في الإخلال، وإنما يعود على أسباب المعاش، وبحسب العمران والتعاون عليه لأجل دلالته على ما في النفوس”، مردفًا: “قد كان النبي أمياً، وكان ذلك كمالاً في حقه، وبالنسبة إلى مقامه، لشرفه وتنزهه عن الصنائع العملية، التي هي أسباب المعاش والعمران كلها، وليست الأمية كمالاً في حقنا نحن، إذ هو منقطع إلى ربه، ونحن متعاونون على الحياة الدنيا، شأن الصنائع كلها، حتى العلوم الاصطلاحية، فإن الكمال في حقه هو تنزهه عنها جملة بخلافنا”.
“عندنا بيحرس المؤسسات الدينية مجموعة من الأغبياء إلا من رحم ربي”.. عضو اتحاد الكتاب كارم عبد الغفار
غربلة التراث
عضو اتحاد الكتاب كارم عبد الغفار، يقول إن هناك ملفات كتيرة جدًا في التراث الإسلامي تحتاج إلى “غربلة” بداية من إعادة النظر في جمع القرآن وطريقة الجمع وقدسية الجمع وبشرية الجمع، مرورًا بالحديث المنسوب للنبي وصولًا إلى فتاوى المذاهب والفقهاء.
ويتابع عبدالغفار: “الموضوعات شائكة وبلوتنا كبيرة، في كل تلك الملفات، عملية جمع القرآن كانت بشرية تمامًا، وأي شيء بشري منزوع عنه القداسة، والخطأ وارد عليه جدًا، وحتمًا، وحديث الكاتب العراقي عن وجود أخطاء إملائية وقعت في سهو النسخ صحيح من وجهة نظري، ولا توجد مشكلة في الاعتراف به ومحاولة تصحيحه بصرف النظر عن النسخة العثمانية، أو غيرها”.
ويصف عضو اتحاد الكتاب، إمكانية التصحيح بـ”شبه المستحيل” بسبب وضع حرية الرأي والتعبير، مشيرًا إلى أن الإصلاح يحتاج إلى مناخ سياسي صحي، و حوار ونقاش علني أمام الناس لكل “البلاوي” الفكرية، لإحداث تغيير، ولو حتى ببطء، مستشهدًا بتغير موقف العديد من المسلمين من قُدسية كتاب “صحيح البخاري”، متابعًا: “الناس من 30 سنة بس كانت بتحلف بالبخاري زي القرآن دلوقت الصورة الذهنية تغيرت شوية، ولو الأجواء صحية ومناسبة وهناك حوار عقلاني محترم وحاكم محايد وقانون منصف يمكن إحداث تغيير”.
وعن سر رفض وتجنب المؤسسات الدينية الكبرى في العالم الإسلامي في ظل حالة التطور التي نعيشها، الخوض في تلك الإشكاليات، قال عبد الغفار: “عندنا بيحرس المؤسسات الدينية مجموعة من الأغبياء إلا من رحم ربي، ومقسومين نصفين في الغالب إما تابعين للحاكم أو مجموعة دراويش حافظين مش فاهمين”.