جاءت الاحتجاجات الأخيرة من جمهور المحامين بالنقابة العامة وعدد من النقابات الفرعية، لتحمل عددا من الرسائل المهمة التي يجب قراءتها واستيعابها بوضوح، وفي نفس الوقت هناك نتائج مختلفة قد تسفر عنها هذه الاحتجاجات التي يمكن أن تستمر أو تتجدد من نقابات مهنية وشرائح اجتماعية أخرى لذات السبب أو لأسباب أخرى.
اقرأ أيضا.. المحامون يهددون بالتصعيد ضد الفاتورة الإلكترونية.. و”الضرائب”: لا استثناءات
وتأتي تلك الاحتجاجات من إحدى النقابات الكبيرة العضوية والتي نشطت دوما في المجال النقابي والسياسي، وهو ما أدى إلى حل مجلسها أو وضعها تحت الحراسة في أوقات مختلفة. ومثلت إحدى منابر الرأي العام والضلع الثالث لمثلث وسط القاهرة بجانب نقابة الصحفيين ونادي القضاة منذ 2005 وحتى ثورة 25 يناير 2011.
وسبق أن انطلقت منها عشرات التظاهرات تعبيرا عن مواقف خاصة بانتخابات المحامين وتعديلات قانون المحاماة ورفض الحراسة على النقابة، أو داعية للإصلاح السياسي والحريات العامة، وطالما احتضنت مؤتمرات عديدة لحركة كفاية وغيرها من القوى الوطنية في قاعتها الشهيرة والتي أغلقت أمام الأنشطة المختلفة كما حدث مع قاعة نقابة الصحفيين.
تحمل هذه الاحتجاجات غضبا من نموذج الجباية الحكومي الذي بات سلوكا متزايدا يتم ممارسته على قطاعات مختلفة من المصريين ومنهم المهنيين، من خلال نظام ضريبي ينحاز ضد الفقراء والطبقة الوسطى ويراهم مجرد أفراد تنحصر مهمتهم في تمويل الجهاز الضريبي بالنسبة الأكبر من دخولهم المحدودة خاصة من جانب الموظفين الذين يتم خصم ضرائب الدخل الخاصة بهم من المنبع، في ظل وجود توجه حكومي شره لأي موارد يستطيع خلقها من أي مصدر كان بغض النظر عن قدرة المواطنين على التحمل. وأهمها ضريبة القيمة المضافة باعتبارها ضريبة غير مباشرة تطبق على المستهلكين بدون تمييز.
ووجد المحامون أنفسهم وسط قرارات مالية متوالية من وزارة العدل بزيادة الرسوم والمصروفات على رفع الدعاوى القضائية، مرورا بالإجراءات القانونية الخاصة التي كانت تتم يوميا بدون رسوم باعتبارها جزءا من عملهم سواء بالاطلاع واستخراج الشهادات والصور الرسمية من القضايا المحكوم فيها، أو بالاطلاع على مسار الدعاوى الخاصة بهم فيما يسمى بالجدول، وإلغاء عدد من غرف المحامين بالمحاكم ومنها مجلس الدولة، والزحام الذي يعانيه هؤلاء المحامون أمام الخزينة في انهاك يومي لوقتهم وصحتهم خاصة مع تفاقم عدوى الكورونا، بالإضافة لوضع ضوابط تعسفية على لقاء المحامين بوكلاء النيابة، وحضورهم التحقيق مع موكليهم. ناهيك عن الاعتداءات من جانب بعض أفراد الشرطة وأعضاء النيابة العامة عليهم اثناء ممارسة عملهم.
كما تعاني النقابة من حبس عشرات المحامين تحت ذمة الحبس الاحتياطي وصدور أحكام قضائية ضد بعضهم، كما حدث مع المحامي زياد العليمي وماهينور المصري، الذين أطلق سراحهما أخيرا، ولا يزال بعضهم محكوما عليهم أو يتم تجديد حبسه في قضايا أخرى مثل محمد الباقر ويوسف الشريف.
ويشعر قطاع كبير من المحامين وكأن المطلوب هو إضعاف وكسر مهنة المحاماة وهي ركن أصيل في تحقيق العدالة بجانب القضاء الجالس الذي يحظى بكل المميزات المالية والمعنوية والسياسية بعد انتهاء الخدمة.
بينما يتم في نفس الوقت التعامل بمنتهي التشدد والتعسف مع المحامين أثناء ممارسة مهنتهم أمام المحاكم، من خلال إحالتهم من النيابة العامة بجرائم الإساءة إلى القضاء أو رجال النيابة العامة وهو ما حدث في مرات عديدة.
وهكذا يتم تدمير تلك الحصانة القانونية للمحامي التي يتمتع بها بموجب الدستور وقانون المحاماة. وسط تقاعس آخر من جانب المجالس النقابية المتوالية وانشغال أعضائها بخلافاتهم الداخلية، وغياب دورها في الدفاع عن المحامين خاصة الشباب منهم الذين كانوا الجسد الأساسي لهذه الاحتجاجات.
وتأتي تلك الاحتجاجات بشكل أساسي بسبب إلزام المحامين بالتسجيل فيما يسمى بمنظومة الفاتورة الإلكترونية، التي تسعى لميكنة التعاملات المالية لكل الشركات والأعمال التجارية، ويعترض المحامون بأنهم ليسوا مهنة تجارية، وبأن ذلك سوف يزيد الأعباء المالية عليهم من اشتراكات في المنظومة المشار اليها، كما سيودي إلى أعباء مادية على المتقاضين أنفسهم. ناهيك عن المصروفات غير الرسمية التي ينفقونها أثناء ممارسة عملهم داخل المحاكم وأقسام الشرطة. وطول فترة التقاضي نفسها.
وهو ما يؤدي إلى وضع عراقيل أمام تفعيل الحق في التقاضي، وتحميله بنفقات باهظة ليصبح اللجوء إليه في حكم المستحيل في ظل الضغوط الاقتصادية على المواطن المصري. الذي سيفضل اللجوء إلى طرق أخرى لنيل حقه، أو بأن يتحكم القوى في الضعيف لعدم استطاعة الأخير تحمل أي نفقات مالية للمسار القضائي.
وهذا الموقف من المحامين يمثل امتدادا لموقفهم واحتجاجاتهم ضد محاولات إجبارهم على التسجيل في ضريبة القيمة المضافة، وهناك دعوى بعدم دستورية تطبيق هذه الضريبة على المحامين حيث استطاعت النقابة إلزام وزارة المالية ببروتوكول مشترك بين الجانبين باستقطاع دفعة مقطوعة عند رفع الدعاوى القضائية بالمحكمة.
كما تحمل تلك الاحتجاجات رسائل أخرى موجهة للأطراف المختلفة أهمها:
أولا: تأتي هذه الاحتجاجات بعد عدم استجابة المصريين لدعوات التظاهر في 11 نوفمبر الماضي ليس عن قناعة بوجهة النظر الرسمية بل لأسباب أخرى مختلفة. وهو ما يؤكد بأن قطاعات كبرى من المصريين لا زالت تحتفظ بمواقف غاضبة من السياسات المتبعة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وهو ما يظهر على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل واضح، وتنتظر الوقت المناسب للتعبير عن هذا الغضب، خاصة كلما كان ذلك مؤديا لضغوط حياتية عليهم.
الرسالة الأهم، أنه ليس بمقدور المواطنين التحمل أكثر من ذلك، بتحميلهم فاتورة دخولها في مشروعات ضخمة ويراها البعض غير مبررة ولا تصب في زيادة الإنتاج، فضلا عن أنها ليست ذات أولوية قصوى في دولة وصل فيها حجم الديون الخارجية إلى 170 مليار دولار وتصرف جزءا من الدخل الإجمالي في سداد فوائد تلك الديون
ومن المحتمل أن تكون السياسات الاقتصادية في مجال التعليم والصحة والإسكان والمالية أحد الدوافع الأساسية للتظاهر مستقبلا على هذه السياسات.
ثانيا: ستؤدي تلك الفعاليات الاحتجاجية لاستعادة تلك النقابات دورها في التعبير عن هموم أعضائها في علاقتهم مع أجهزة السلطة ووزاراتها المختلفة بغض النظر عمن يتولى موقع القيادة فيها، لأنه سيكون مجبرا على تلبية مطالب الجمعية العمومية الضاغطة على مجالس الإدارة.
وقد يبقى نموذج احتجاجات المحامين قابلا للتكرار من جانب النقابات الأخرى لأبداء رأيهم الرافض لتلك المنظومة مثل الأطباء والمهندسين وغيرهم ليس فقط ضد الفاتورة الالكترونية، بل ضد منطق الجباية بشكل كامل، مما أدى إلى هجرة آلاف الأطباء سنويا لأوروبا بسبب دخلهم المتدني والمصاعب التي يجدونها أثناء عملهم في المستشفيات بما فيها الاعتداءات التي تمارس عليهم من ذوي المرضى أحيانا في ظل ضعف إمكانيات الخدمة الصحية.
ثالثا: هذه الاحتجاجات المهنية إلى جانب ما يقوم به محتجين آخرين مثل أهالي جزيرة الوراق، والقطاعات العمالية المختلفة، قد تؤدي إلى موجة واسعة من الاحتجاجات خاصة مع تزايد الضغوط الاقتصادية وخفض قيمة العملة وتزايد حجم الدين الخارجي. وغياب قنوات التواصل مع أجهزة الدولة وغياب فاعلية البرلمان.
رابعا: أن تظاهرات المحامين لم تؤد إلى فوضى أو ضرب الاستقرار وهو ما كانت تردده بعض وجهات النظر الدولتية، بل بالعكس جرت تلك الاحتجاجات في ظل مشاركة كبيرة دون أي تجاوز، كما منحت هذه الاحتجاجات أجهزة الدولة ترمومترا لقياس مدى غضب هذه القطاعات من السياسات المختلفة، ويمكن أن تؤدي لاعتماد مبدأ الحوار بين تلك الأجهزة والنقابات مرة أخرى.
وتضع هذه الاحتجاجات عددا من المطالب الأساسية في مقدمتها:
ـ إعادة النظر في نظام الفاتورة الإلكترونية خاصة لأنه يتطلب نفقات كبيرة، وجهاز حكومي مدرب على نوعية ذلك النظام، ومنظومة الكترونية لا تسمح بوجود أعطال فيها، والأهم عدم تحميل الممولين الأعباء المالية بتطبيق هذا النظام.
ـ ضرورة مراجعة السياسات الاقتصادية الخاطئة التي تسير عليها أجهزة الدولة، والتفاعل مع الاقتراحات المختلفة التي أصدرتها الأحزاب السياسية الأخرى خاصة أحزاب الحركة المدنية بالإضافة إلى النقابات المهنية والعمالية، وهو ما يتطلب التسريع بإجراء حوار وطني حقيقي مرت شهور على الدعوة إليه دون البدء بخطوات عملية على الأرض.
ـ التأكيد على اعتماد منهج المشاركة مع الأحزاب والمنظمات النقابية في هذه القرارات المصيرية والتي تخص الموازنة العامة أو التي تفرض أعباء مالية جديدة على المواطنين، والتأكيد على مشاركة المؤسسات الأخرى ومنها أجهزة الإعلام والبرلمان بشكل حقيقي وفاعل في الرقابة على الأداء الرسمي والحكومي بمختلف الأشكال المنصوص عليها في الدستور.