الأدب -فيما تقرر المذاهب والتيارات المختلفة- تمثيل رمزي للواقع، وهذا يعني أن الواقع في الأدب يختلف عن الواقع الذي تجده في الوثائق أو مدونات التاريخ أو أخبار الصحف. الأدب قد يستعين بالوثائق والأحداث التاريخية لا لكي يحولها إلى حكاية وإنما ليقدم لنا وجهة نظر فردية، قد تكون أكثر اكتمالًا من الواقع، وقد لا تُعنى بأكثر من اختبار وقْع الأحداث الكبيرة -كالثورات والحروب- على شخوص لا نراهم أو لا ندري عنهم شيئًا، لانشغالنا بظاهر الأحداث عن مساربها وتأثيراتها على شرائح مختلفة من الناس.
تثير رواية “نادي المحبين” لصبحي موسى جدلية العلاقة بين الأدب والواقع على نحو لا يمكننا من مقاربتها دون الوعي بهذا البعد؛ فهي تتناول ثورة المصريين في يناير 2011م وما أعقبها من أحداث وصولًا إلى مظاهرات الثلاثين من يونيو 2013م، وهذا هو الإطار الزمني التاريخي للسرد الروائي، وهي لا تتناول تلك الأحداث من منظور الأسباب أو المقدمات التي أدت إليها، كما أنها لا تتناولها من منظور أحد البسطاء الذين استجابوا لها وحلموا بتغيير واقعهم ونهضة بلادهم، وهنا يصبح التعامل مع الوقائع أكثر حرية، وإنما تتناولها من منظور القوى الفاعلة في الداخل والخارج الذين حرثوا أرض المسرح العام لتلك الأحداث ثم راحوا يديرونها بما يحقق مصالحهم، وبما ينتهي بالحدث كله –وفق منظور الرواية- إلى حالة من المسرحة الكبيرة التي يقف وراءها مخرجون ومؤلفون لا يراهم المتابع، ولا يشعر بوجودهم..”العالم لا يمكنه أن يحيا بغير المسرح، ما يحدث في الكواليس أمر، وما يجري أمام الناس أمر آخر”. (ص241)
لقد اختارت “نادي المحبين” مقاربة الحدث من قمته، لتقدم لنا كواليس المسرح، أو “ما وراء الحدث”، لتسرد لنا سيرة اللاعبين الأساسيين في الداخل والخارج.
من البدهيّ أن رواية كهذه تقيم بنيتها التخييلية على أساس معرفي، أو لنقل تنسج خيوط عالمها بالجمع بين الوثائقي والتخييلي، وهذا بالضبط ما فرض علينا هذا المدخل القرائي.
سنحاول هنا ألا ننشغل بتصنيف الراوية، وما إذا كانت تنتمي إلى الرواية التاريخية من حيث تناولها أحداث تاريخية صارت الآن من الماضي، ولا يهم كثيرًا أن يكون هذا الماضي قريبًا أم بعيدًا على نحو ما فعل “صبحي موسى” نفسه قبل ذلك في “المورسكي الأخير”.. فما يشغلنا تحديدًا هو الطريقة التي عولجت بها هذه الأحداث العامة، من تلك الزاوية المحددة التي اختارتها لنفسها: أي عالم الفاعلين الأساسيين الذين صنعوا الحدث عبر خطوات محددة: التمهيد له أولًا، ثم إدارته ثانيًا، ثم الصراع حوله أخيرًا.
نحن إذن إزاء حدث تاريخي، وكل حدث هذا شأنه تتعدد وجهات النظر إليه، تمامًا كما يقول الراوي المثقف في افتتاح الرواية بعد الإهداء: “لا شيء في التاريخ واضح كما نعتقد؛ فكل حدث له أكثر من رواية ومصدر”. (ص9)
وهذا يعني أن ثمة فروقًا بين الحدث وروايته، وإذا كنا إزاء أحداث تاريخية، أو ثورة شعبية عامة، فهذا يعني أن لنا –نحن القراء– روايتنا، باعتبارنا من المشاركين في الحدث أو المتفاعلين، وكل رواية لها انحيازها، ومن ثم، سيكون صعبًا على القارئ أن يترك نفسه طول الوقت لمتابعة تقنيات السرد وآليات التشكيل الجمالي للرواية باعتبارها عملًا سرديًّا تخيليًّا فحسب، فهي وإن كانت كذلك إلا أنها تتقاطع مع وجهات نظر أخرى للحدث ذاته.. ولعل هذا التحيز القرائي آخر ما يرجوه روائيّ لعمله، ولعله آخر ما يرجوه القارئ أيضًا.. ولكن -كما يقال- لا بد مما ليس منه بدّ..!
(1)
تبدأ الرواية بالفقرات التي تنتهي بها؛ تبدأ بالراوي المثقف يتأمل مرآة التاريخ وهي تتجلى واضحة قوية على واجهات عمارات وسط البلد التي صُنعت بإتقان في زمن سابق، كانت الحياة فيه جادة وصادقة، وتنتهي الرواية بالتأمل في مرايا الذات وهي تتابع سيرة حياة كاتب مثقف اجتهد دائمًا في اللعب على كل الأسلاك، منذ قدومه من الريف إلى مقاهي المثقفين وحتى وصوله إلى قمة مجده، ليس لأنه بات رئيسًا لمركز دراسات “ابن طفيل” فحسب، وإنما لأنه أصبح كاتبًا عالميًا مرموقًا، تستعين به مراكز الدراسات في فرنسا وأمريكا، إذ يعدّ المشاريع الاستراتيجية، ويمكن لمقالة واحدة يضع عليها توقيعه أن تجعل كثيرًا من مراكز التأثير – في الداخل والخارج – تعيد النظر في حساباتها.
وما بين البداية بمرايا التاريخ المتجسد على واجهات العمارة والنهاية، نتابع تحولات جسد المثقف وجسد الوطن معًا، ما بين السقوط أو “الفقد” وهو عنوان الجزء الأول من “نادي المحبين و”الاستعادة” وهي عنوان الجزء الثاني.
وعلى امتداد الرواية يقع جسد المثقف المخترق بالشذوذ والخوف والضعف في موازاة الوطن، بحيث يغدو سقوط المثقف مقدمة لسقوط الوطن، بقدر ما تغدو قيامته قيامة للوطن كذلك.. لقد كان صعود الأخوان- أو الإسلاميين عمومًا– خطّة مُحْكَمة اشتغلت عليه دوائر مختلفة في الداخل والخارج، بحيث بدا الأمر (مؤامرة) خالصة، احتشد لها الفرقاء من أعضاء نادي المحبين: الأخوان والأمير القطري والإسرائيليين والأتراك بالإضافة إلى تمهيد داخلي قام به المثقفون– يحرص الراوي على وصفهم بـ”العصابة”- الذين يثرثرون دائمًا على مقاهي “مربع الشر” (الوصف أيضًا للراوي).
وعلى جسد النص ينساب الحكي الذاتي في تسلسل أفقي ممتد، بداية من الاتفاق بين مدير مركز (ابن طفيل) والأمير الخليجي نايف الذي أوكل إلى الأول مهمة كتابة مقال ينشر في إحدى الصحف العالمية يعيد ثقة العواصم الغربية في قدرة الأخوان على حكم مصر مقابل شيك قيمته مليون دولار..!
ينساب السرد في خط أفقي عبر ضمير المتكلم متدفقًا في بنية سيريّة أقرب إلى المذكرات. تخترق السرد انقطاعات على مسافات متفاوتة، تعود بنا إلى ماضي الراوي مدير مركز “ابن طفيل”، لنتعرف شيئًا عن ماضيه الريفي الفقير، وكيف بات أحد أعضاء نادي المحبين، بعد أن اعتدى عليه جاره الشاب (عطية) وهو في الخامسة من عمره، ثم هزيمته النفسية بعد أن شاهد أمه عارية مع أحد جيرانها، وقدومه إلى القاهرة بحثًا عن حلمه في أن يصبح أديبًا وعمله مع الأمن ليكون عينه على كل شيء، ثم تحالفه مع الأمريكان والأخوان والأمير الخليجي..إلخ
فالعنوان “نادي المحبين” بؤرة تجمّع الرفقاء الشواذ بالمفهوم الجنسي والسياسي معًا، وذلك على نحْوٍ يذيب الفوارق بين الفعلين؛ فكما يلتقط الشَّاذ رفيقه من أي مكان ومن أي جنسية، بإيماءات وإشارات يدركها كل منهما، كذلك تلتقي رفقة السياسية من أعضاء مختلفي الجنسية، لا تجمعهم سوى المصلحة وإنفاذ مخططهم أو بتعبير أدق (مؤامرتهم).. وكثيرًا ما يغدو الشذوذ الجنسي سبيلًا أو معبرًا إلى مؤامرات الشذوذ السياسي.. تماما كما حاصر الأميرُ نايف الراوي بخادمه “حمد” ليكون وسيلة متعته وعينًا للأمير على الراوي والمركز معًا، وعلى نحو ما همست وزيرة الخارجية الأمريكية “هيلاري كلينتون” في أذن “جميل” (مرشح إسلامي لرئاسة الجمهورية استبعد بعد يناير لجنسية أمه الأمريكية) بأنها تدعم نادي المحبين، في إشارة إلى أنها تعرفه ميوله الخاصة.. بما يُوحِّد -في التحليل الأخير- الشذوذ الجنسي واتفاقها مع الإسلاميين حول خطة الإدارة الأمريكية في سيناء..
لقد كان ذلك اتفاقًا مبرمًا -فيما يسرد الراوي- بين الأمريكان والأتراك والإسرائليين والإسلاميين، على نحو يقوض فكرة انتخاب الأخوان وشرعية حكمهم من جذورها؛ لقد كان الأمر محض اتفاق بين اللاعبين، ولم تكن الثورة والانتخابات التي أعقبتها سوى مسرحة له.. فقد رصدت الإدارة الأمريكية عشرين مليارًا من الدولارات من أجل وصول الجماعة إلى الحكم..!
لم تكن التسمية “نادي المحبين” علامة على مكان بعينه؛ إذ لا يوجد مكان يحمل هذه اللافتة، فكل مكان يجمع ذوي الميول الجنسية المثلية هو في حد ذاته نادٍ لهم، ورغم ذلك فثمة إشارات تجعله -على مستوى الحضور المكاني داخل القاهرة- امتدادًا لمقاهي المثقفين التي تتراصّ في مربع واحد يصفه السرد باستمرار بـ”مربع الشر”، بحيث يمكن الانتقال من هذا إلى ذاك بسهولة، وبحيث تغدو أماكن المثقفين ساكني “مربع الشر” هي ذاتها أماكن “الخرتيّة” الذين يصطحبون الأجانب في تجوالهم مقابل الفتات، والخرتيّة وظيفة لا يمكن أن توصف بالمهمة أو ذات قيمة، ولكنها –كما يصفها الراوي – “تخلق من صاحبها شخصًا مختلفًا، شخصًا ليس مهمًا أن تعرف بدايته ولا نهايته، لأنها دائمًا غامضة، يكفي فقط أن تعرف منجزه في المكان، وكان منجز الخرتية عظيمًا، منه هذا المقهى الذي تحوّل إلى مركز المثقفين”. (ص11)
لا يمكننا فهم وصف مقاهي المثقفين بـ”مربع الشر” باعتبارها حُجّة لفظية أو موقفًا من الراوي تجاههم، ليس لأنه جزء من هذا المربع فحسب، وإنما لأن السرد لا يقدم لنا مقدمات هذه الحُجة أو سبب هذا الوصف الذي يجعلهم دائمًا في عينه مجرد (عصابة).. لا يمكننا فهم هذا إلا على سبيل الإسقاط الذي تقوم به الذات التي تدرك تمامًا أنها تلعب على كل الأسلاك، ولا ولاء لها إلا لمن يمنحها المال والمتعة الشاذة.
وفي منظور الراوي يلتقي المثقف بالخرتيّة التقاء يمكن لأحدهما أن يحل مكان الآخر في المكان والوظيفة معًا؛ فقد ازدادت مع الوقت كراسي مقهى المثقفين والأدباء بفضل الخرتية والمثقفين الذين ينتهي تأثيرهم أو أثرهم بهذا الحضور: مجرد زيادة في عدد الكراسي التي شغلت المكان..!
من هذا المقهى ينطلق الراوي إلى “نادي المحبين” بالمفهوم الواسع: الجنسي والسياسي، لنتابع تشابك الخيوط وتعدد الولاءات وتضارب المصالح، إنه يصرح قائلا: “وما أنا إلا أداة تم تحريكها، كنت أعرف أن اللعبة خطرة، وليس مستحبًا الدخول فيها، ولكن العلايلي ورطني، وزادت الورطة حين قال النجار “ونحن نريدك أن تكتب”، لا أنكر أنني ضعفت أمام المال، وربما ضعفت أكثر أمام حمد الجميل، كل هذا جعلني أتحمس للأمر”. (ص87)
يتحرك الجسد الثقافي فوق الجسد السياسي، وكل حدث يمكن أن يرى من أكثر من زاوية، ويمكن لمثقف فقير قادم من الريف يملؤه الخوف والشذوذ أن يتبنى زاوية نظر اليوم ويتبنى نقيضها غدًا، فلا قيمة تحركه ولا وطن يدافع عنه، فجسده ذاته مرتع لكل الأمراض التي يتعذر مقاومتها، وهي بذاتها قادرة على أن تؤول به إلى السقوط أو الفقد.
وعلى هذا ينتهي “الفقد” الجزء الأول من نادي المحبين بوصول الإخوان إلى الحكم، ليجد المثقف نفسه منبوذًا بعد أن سلبوه أمواله بالخارج ومكانته بينهم، وبات بالنسبة إليهم ورقة محروقة لا قيمة لها، وكل المطلوب منه أن يغدو تابعًا ذليلًا، يقول: “لم يشغلني أنني فقدت كل شيء، فجزء في ذهني لم يكن يصدق ما يحدث…فلا يمكن أن ينتهي كل شيء هكذا فجأة، ولا أن أكون المنديل الذي استخدموه في تطهير أنفسهم، ثم ألقوا به في سلة المهملات”. (ص248)
(2)
ومع نهاية الجزء الأول: (الفقد) يعتلّ جسد المثقف تمامًا ويسقط بأزمة قلبية في ميدان التحرير، ولن ينقذه إلا نفر من المواطنين الذين تجمعوا هناك، في إشارة إلى تحوله وانحيازه إلى الناس أو ما يصفهم السرد بالمهمشين البسطاء، وفي غرفة العناية المركزة يلتقي بممرضته “صباح” (لاحظ دلالة الاسم) لتبدأ من هذا المشهد صفحات الجزء الثاني: “الاستعادة”، وهنا يكتسب السرد كثيرًا من الترميز والتكثيف الدلالي:
إذ تغدو أزمة المثقف القلبية واعتلال جسده علامة على أزمة الوطن بوصول الأخوان إلى الحكم، كما يغدو تعافيه من مرضه ومن شذوذة معًا علامة على تعافي الوطن.. لقد استقام المثقف على طريق الوطنية واستقامت حياته أخلاقيًا بزواجه الطبيعي من “صباح”، وذلك على نحوٍ يجعل “صباح” ومولودها (الغد المنتظر) نقيضًا لأنعام: سكرتيرته وزوجه الشاذة وشريكته في مركز (ابن طفيل)..
وهنا تبدو الاستعادة متعددة المستويات، تبدأ بالفردي والأسري وتنتهي بالجماعي والوطني.. ولا يمكنك أن تتجاهل تأكيد السرد على متانة العلاقة بين استقامة الخلق (بترك الشذوذ) واستقامة الحياة وقدرة الوطن العليل على مقاومة حكم الأخوان والتخلص منه.. سيغادر الراوي المستشفى بقلب عليل وعقل صحيح، ليكتب في الصّحف العالمية موقعًا مقالة باسم العرّاف (لاحظ دلالة الاسم في سياق الاستعادة)، سيكتب هذه المرّة بدافع الوطنية أو صحوة ضمير المثقف الذي يريد التكفير عن ذنبه..
واللافت أن هذا الجزء يفتتح بمقال يشرح فيه عيوب حكم الإخوان ويتوقع سقوطهم خلال عام واحد، وذلك مقابل مقالة المليون دولار ورفقة “حمد” التي افتتح بها الجزء الأول (الفقد)، وهي المقالة التي أعادت ثقة الدوائر الخارجية في قدرة الإخوان على الحكم.. تبدو المقالة هنا نقيضة للمقالة الأولى، ولكن شتّان ما بين مقال يكتبه المثقف بدافع من ضميره واستقامته ومقال يكتبه من أجل المال والشذوذ..!
كان المقال الذي وقّعه العرّاف من حيث الظاهر مجرد قراءة بعين خبيرة لواقع سياسي تتوالى عليه الأزمات والخطايا التي يقوم بها الإخوان، ولكنه لا ينفصل عن خطّة وضعها الراوي بالاتفاق مع مديري البلاد (وهذا هو الوصف الذي يعتمده السرد كلما أشار إلى أجهزة الأمن).. قابل الراوي العميد المُقال (حسين النجار) ودار بينهما هذا الحوار:
“سألني النجار عن الحل، قلت: الدولة العميقة وحدها يمكنها أن تجعل حياة الإخوان بؤسًا، بدا على الرجل أنه لم يفهم، فسألته عمّا يفعله الناس لو استيقظوا يومًا فلم يجدوا الخبز أو السولار، ماذا لو تكرر انقطاع المياه والكهرباء وتوقفت المواصلات؟”.(ص281)
تتشابك الأحداث وتتقاطع المصائر بين الراوي وباقي الشخوص، يعتقله الإخوان لفترة قصيرة بتهمة التمويل الأجنبي، يلاحظ فيها الرفض العام لسلطة الإخوان، وهنا يبدو الراوي أقرب إلى الجماهير التي توشك أن تنزل في مظاهرات كبيرة بعد أن نظمتها حركة “رفض”، ومع المظاهرات تتهاوى نظرية الفئران التي طالما روّج لها في الدوائر الغربية، يختفي الفاعلون تباعًا، وتحلّ محلّهم وجوه جديدة، وجوه يمكن وصفها بالمخلصة (بالمفهوم الوطني والأخلاقي)، وكأننا إزاء ولادة جديدة لشعب ووطن.
(3)
لن يتوقف الكلام حول الجدال بين المعرفي والجمالي في الفنون عامة وفي الرواية خاصة، ولن يحسم بسهولة سؤال الغاية: هل يقصد الفن أن يقدم لنا المعرفة؟ وإلى أي مدى يمكننا الوثوق بمثل هذه المعرفة، ولعل السؤال الأكثر إشكالًا: هل ثمة تعارض بين المعرفي والجمالي؟
تطرح “نادي المحبين” منذ صفحاتها الأولى هذه العلاقة، ليس لأنها تتناول أحداثًا عامة فحسب، وإنما لأنها لا تتوقف عن نثر الإشارات المرجعية للفاعلين التاريخيين على جسد السرد، ولا يمكن للمتلقي أن يجاهل هذه الإشارات حول وزراء سابقين في حكم مبارك، وقيادات إسلامية استبعدت من سباق الرئاسة لأسباب معروفة يحرص النص على إثباتها في متنه كما هي، بل لا يمكنه أن يتجاهل الإشارات الواقعية للراوي نفسه مدير مركز ابن طفيل..
قد يكون ضروريًا هنا أن نشير إلى قهر السياق، ومحاصرته للمتلقي بمثل هذه الإشارات التي لا يمكنه تجاهلها، مهما ردد بينه وبين نفسه مقولات استقلال النص الأدبي في موازاة الواقع؛ فعملية الاستقلال في النهاية لا يمنحها المتلقي للنص بقدر ما يمنحها النص لنفسه أولًا، سواء بزاوية اختياره، وطبيعة أحداثه وشخوصه وتقنياته السردية… إلخ.
وهذه الإشكالات يثيرها نص “نادي المحبين” بشكل كبير؛ فالمعرفي هنا بدا مشغولًا بهتك الأسرار عن الجانب غير المنظور من الحدث، والتحدث – بيقين راسخ – عن مؤامرات واتفاقيات (موقّعة) بين قوى مختلفة، ربما كان السرد الذاتي في حد ذاته إحدى الحيل البنائية التي يمكنها تمرير المعرفي دون حاجة إلى توثيقه، وهذا بالضبط إشكالية تلقي مثل هذا النص..
وقد لا نختلف حول وجود نصوص ذات نزوع معرفي cognitivism تماما كما أننا لا نختلف حول وجود نصوص ذات نزوع جمالي، ولكن من المفيد أن ينتهي بنا المعرفي إلى مزيد من الفهم للحدث في ذاته، ويمكنك أن تقول إن ذلك قد حدث بدرجة أو أخرى، ولكنه في المقابل قد وقع فيما لا يمكن تجاوزه بسهوله؛ فكل نزوع معرفي في نص أدبي مظنة التحيز، وكل تحيز نصي يؤول في النهاية إلى تضاربات قرائية، لن تقلل من قدرة النص على إضاءة الحدث فحسب، وإنما سيكون البناء الأدبي آخر ما يشغلها.. وما أكثر النصوص التي تلقتها “الجماعة المفسرة” على هذا النحو، لعل أشهرها -على سبيل المثال لا الحصر- رواية البيضاء ليوسف إدريس ..!
ما أريد قوله باختصار، أن ثمة توازنًا يجب أن يحدث بين المعرفي والجمالي، وحين يهيمن المعرفي على الجمالي في نص ما يرهن النص برسالته، وهنا يصبح الفن “مجرد دعاية وترويج يتسم بالمهارة لوجهة نظر ما. والدعاية تستهدف ضمان الإيمان بشيء، والموافقة عليه بكافة السُبل الفعّالة لتحقيق هذا الغرض” (جوردون جراهام: فلسفة الفن: مدخل إلى علم الجمال، ترجمة: محمد يونس ص88)
أشرنا أعلاه إلى قهر السياق أو ضغوطه التي يمارسها على الجماعة القارئة أو المفسرة، وربما يختلف التقدير في سياق آخر وجماعة أخرى، تمامًا كما يمكننا إعادة قراءة راوية البيضاء اليوم بعيدًا عن قبضة سياق التلقي الأول .. ربما..!