الأصل في القانون التعامل مع العقوبات المالية، والغرامات، على سبيل أنها عقوبات أصلية. فهي تغني عن اللجوء لعقوبة الحبس، ولها حدين أقصى وأدنى. كما يفترض أن تأتي بشكل نسبي، مع الضرر الذي نتج عنها. لكنها مع الوقت تتحول لعقوبات تكميلية، تبعد في المراعاة عن الحالة المادية للمتهمين.
في خريطة استراتيجية مصر المعلنة لحقوق الإنسان، كان الدفع بمنع الحبس في حالات القضايا المدنية ضمن أهدافها. إلا أن الواقع يٌخبر بكم من قضايا الرأي، وحتى الجنائية التي لا يزال يُلزم المتهمين فيها بالغرامة، كعقوبة مكملة في أغلب الحالات، تستبدل في حالات التعثر بالسجن.
ورغم أن الغرامة تعد جزءًا من العقوبات التي تقرها الكثير من القوانين حول العالم، وهي ذات حدين ملزمين. إلا أن ذلك لا يتوفر للجميع على المستوى المادي. كما أنها بشكل عام لا تنظر إلى متوسط المستوى الاقتصادي للفرد في مصر، التي تعاني نسبة الثلث من حجم سكانها من الفقر.
الغرامة المالية بين العفو الرئاسي والإفراج الشرطي
قبل يومين، أعلن محمد عيسى المحامي بالمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية قرار رئيس نيابة وسط القاهرة بوقف تنفيذ عقوبة الغرامة للمتهمين في قضيتي الشورى والاتحادية. وكانت مقدرة بمبلغ 100 ألف جنيه، على كل فرد من أصل 100 صدر بحقهم عفوًا رئاسيًا.
وفق عيسى، صدر قرار عفو رئاسي بحق هؤلاء الـ 100 في 2014. وتم تنفيذ هذا القرار قبل أن يفاجئ محامو الـ 100 منذ شهر تقريبًا بمحضري مطالبة بتسديد مبلغ غرامة عن القضيتين. وهو ما تم استدراكه نظرًا -لعدم قانونيته- باستخراج صور رسمية من قرار العفو. وذلك بعد تقديم مذكرة شارحة لوقف تنفيذ العقوبة، والاكتفاء فقط بتحصيل مبلغ مالي قدره 90 جنيهًا كمصاريف.
جميعنا نتذكر قضية «جمعة الأرض». وهي من قضايا الرأي التي سجن على خلفيتها ما يزيد على ألف شخص، في أعقاب مظاهرات تيران وصنافير، والمطالبة بالتراجع عن التنازل عنهما للسعودية. حينها اضطر المئات من المعتقلين بعد قضائهم فترة ستة شهور تقريبًا إلى دفع غرامات وصلت إلى 5 ملايين جنيه. وهي مبالغ طائلة بالنسبة للمحكومين في القضية بالغرامة، لم يتمكنوا من سدادها بمفردهم، فنظمت من أجلها حملة تبرعات.
لا غرامة دون نص
بحسب المحامي العمالي ياسر سعد، فإن أنواع الغرامات عديدة ومنها جنائية، نص عليها قانون العقوبات كعقوبة أصلية، أو كعقوبة تبعية. وفي كلا النوعين تخضع لمبدأ الشرعية الجنائية. حيث أنه لا غرامة دون نص. وأيضًا لابد أن تخضع هذه الغرامة لكل قواعد تنفيذ العقوبة مثل العفو والتقادم والتعدد. ولا يجوز تطبيقها على غير المسؤول، فلا يجوز الحكم بها على ورثة المسؤول. وتطبق الغرامة الأشد في حالة تعددالغرامات المفروضة على ذات الفعل.
هنا، العفو الرئاسي كحالة محتجزي قضية الشورى يشمل الغرامة المالية بحسب «سعد». بينما يختلف الأمر عندما يكون الإفراج شرطيًا. إذ يكون من الملزم للمتهم دفع الغرامة، والتي تصل قيمة بعضها إلى ملايين.
يحكي سعد عن مشاهداته عبر المحاكم، حيث يضطر بعض المتهمين إلى بيع أثاث المنزل، أو الاقتراض، ومن ثم الدخول في متاهة الديون، التي قد ترده إلى السجن مرة أخرى، في حال عدم إمكانية السداد. خاصة وأنه في مصر لا تطبق بفكرة الحالة الاقتصادية للمتهمين، أو محاولة تدارسها. القانون يضع حدودًا مالية بحسب الجريمة، بغض النظر عن الشق الإنساني في المسألة.
المسالة الاقتصادية والسجن كبديل
في قضية الناشط أحمد دومة، أعلنت أسرته عبر صفحة «الحرية لأحمد دومة»، أنها لن تستطيع سداد المبلغ مقابل الإفراج عنه. حيث أن المحكمة ألزمته بدفع مبلغ ستة ملايين جنيه. وهو مبلغ يفوق قدرتهم المادية، ما يبقي دومة سجينًا بديلاً لعدم الدفع.
عن السجن بديلاً عن الدفع، يقول «سعد» إن تلك المسألة تؤثر في قضية تأهيل السجناء الذين قضوا عقوبتهم بالفعل، وصدر لهم قرار عفو، أو حتى انتهت مدة عقوبتهم، ففضلاً عن التأثير الاقتصادي على المسجون وعائلته، هناك التأثير النفسي الذي يقف عقبة في طريق التأهيل، الذي أعلنت عن دعمه الدولة في استراتيجيتها، ويتجسد في المأزق العاطفي الذي تشعر معه أسر السجناء بالعجز والتقصير، وكلها أمور لا تخدم منظومة العدالة برمتها.
تسهيلات يعيقها التطبيق
يقدم القانون تسهيلات في طريقة دفع الغرامات، يوضحها المحامي الحقوقي محسن بهنسي. إذ يشير إلى قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950 في تنفيذ المبالغ المحكوم بها. ففي المادة 510 منه نص ببعض التسهيلات في دفع الغرامات المقررة على المتهم.
وتنص المادة على أن «لقاضي المحكمة الجزئية في الجهة التي يجري التنفيذ فيها منح المتهم في الأحوال الاستثنائية بناءٍ على طلبه وبعد أخذ رأي النيابة العامة أجلاً لدفع المبالغ المستحقة للحكومة، أو أن يأذن له بدفعها على أقساط، بشرط ألا تزيد المدة على تسعة أشهر. ولا يجوز الطعن في الأمر الذي يصدر بقبول الطلب أو رفضه». لكن إذا تأخر المتهم في دفع قسط، حلت باقي الأقساط، ويجوز حينها للقاضي الرجوع في الأمر الصادر منه، إذا وجد ما يدعو لذلك.
أيضًا، ينص القانون على أنه إذا حبس الشخص احتياطيًا، ولم يحكم عليه إلا بغرامة، وجب أن ينقص منها عند التنفيذ 5 جنيهات عن كل يوم من أيام الحبس المذكور. وفي حال عدم سداد المتهم نصت المادة 507 على «إذا لم يدفع المتهم المبالغ المستحقة للحكومة، تصدر النيابة العامة أمرًا بالإكراه البدني وفقًا للأحكام المقررة بالمواد 511 وما بعدها».
يقول «بهنسي»: مسألة تسهيل الدفع ترتبط بأمرين؛ الانتظام في الدفع، وهو ما لا يتوفر مع كثير من المتهمين المتعسرين، وكذلك دفع أول قسط الذي عادة ما يكون ربع المبلغ على الأقل، والأمر العسير بالنسبة للمسجون الذي يواجه تعسرًا ماديًا، أو قضى زمنًا طويلاً في السجن. كما أن بعضهم انقطعت صلته بعائلته، ولامعيل له. أما بالنسبة للنساء فالأمر أكثر تعقيدًا، حيث أن الحالة الاقتصادية أضعف.
الغرامة المالية.. اللامساواة
على الجانب الآخر، عندما يستبدل القانون الغرامة بالحبس، لا ترتبط مدة العقوبة الجديدة بمبلغ الغرامة. فقد تتساوى غرامة من بضعة آلاف بغرامات تبلغ الملايين، لا فرق في ذلك المواطن البسيط ورجل الأعمال.
كل هذه الأحوال، تجعل من الغرامات عقوبة إضافية وليست تكميلية، على عكس ما هو منصوص عليه بالقانون. هذا بخلاف تأثيرها النفسي والاجتماعي الذي قد يتجاوز السجن نفسه. وفق «بهنسي»، قد يتسبب ذلك في ضياع وتفكك الكثير من الأسر متواضعة الحال.
بالعادة، تذهب أموال الغرامات الجنائية إلى خزائن وزارة العدل، التي ترسلها بعد ذلك إلى وزارة المالية، فتتلقاها ضمن إيرادات أجهزة الدولة كجزء من الميزانية. ثم يُعاد توزيع مجموعها طبقًا للموازنة العامة في العام الجديد.