يمر الوطن بأيام صعبة، فالظروف الراهنة، محليا وإقليميا وعالميا، تحتم علينا أن نعيد النظر في طريقة مجابهتنا لواقعنا المعاش. تعبر سفينة الوطن ببحر هائج يهدد استقرارها وتواجه الكثير من التحديات والمصاعب. يحاول فيه الفاعلين السياسيين تحسس طريقهم.
للأسف، لم يتم نقاش الكثير من القضايا بشكل تشاركي، إذ توارت المعارضة وضعفت قواها. إلا أن الظروف قد تتغير وتسمح بفعالية ونشاط المعارضة.
عن الحوار الوطني أتحدث. فإذا ذكر الحوار الوطني ستتداعى أفكار كثيرة في ذهني وذهن المصريين. أفكار عن آمال حول أن تتقارب الأطراف السياسية، وتتناقش في كيفية بناء الوطن وانتشاله من الهوة السحيقة التي يكاد أن يقع فيها سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.
ستتقفز الي ذهني حوار بين النظام ورموزه والمعارضة في محاولة لإحياء العملية السياسية في وطن مأزوم. منذ اقترح الرئيس عبد الفتاح السيسي إقامته في إفطار الأسرة المصرية في رمضان الماضي. فهي أول بادرة من النظام للحوار مع المعارضة. لم تكن الساحة السياسية نشطة أو بها زخم، بل على العكس، الحياة السياسية في مصر مصابة بالتصلب والشلل التام منذ سنوات. فالمعارضة غير فعالة، وغير نشطة، ومتشرذمة، وضعفها وعدم تجددها واضح للعيان.
لقد تم تقويض بعض مبادرات المعارضة لتحريك المياه الراكدة في الواقع السياسي المصري.
منذ أن سمعت بالحوار الوطني وأنا أتابع تصريحات القائمين عليه. تمنيت أن يكون الحوار الوطني بداية لبناء لوطن متقبل لكافة طوائف وفئات الوطن. سمعت الكثير عن المقررين، وعن رؤساء اللجان، وعن اعتراضات بعد الفئات على طريقة تسيير الحوار. فمثلا، اعترضت بعض النسويات لعدم تخصيص لجنة لقضايا النساء. إلا أن شغلي الشاغل هو وجود النوبيين من عدمه في الحوار.
إن ملف القضية النوبية متخم بالكثير من الموضوعات، لكنه غائب عن طاولة الحوار الوطني.
تخيلت أن الملف النوبي سيطرح في أي لجنة، إلا أن الواقع أثبت عدم حضور الملف النوبي في أي من لجان الحوار الوطني. هناك بعض القضايا العالقة في الملف النوبي، مثل حق العودة التي أقرتها المادة الدستورية 236. إلى جانب قضية اللغة والتراث والتاريخ ومناهضة التمييز. من المهم جدا أن نطرح الدستور كخارطة طريق، نسعى لتطبيقها، وتفعيل موادها وبنودها، يجب أن نربط بين الدستور كوثيقة حاكمة للحوار الوطني. فقد ارتضي المصريين الدستور وصاغوه ليحكم تفاعلهم مع بعضهم البعض، ومع أجهزة الدولة المختلفة.
قد يطرح البعض فكرة أن القضية النوبية حسمت بإدراج مواد دستورية في دستور 2014، وبإقرار التعويضات لمتضرري التهجير. لكن الموقف الراهن يثبت ضحالة تلك النظرة. فإلى الآن لم تطرح الدولة برنامج أو خطة أو حتى نية للبت في ملف العودة. والعودة هي القضية المركزية النوبية، بل على العكس، انتهكت الدولة مادة العودة الدستورية رقم 236 بالقرار الجمهوري رقم 444، الذي يقتطع 17 قرية من أرض العودة، ويحولها إلى حدود عسكرية لا يتم فيها السكن أو التنقل.
إذا أردنا فتح ملف النوبة والوضع المتأزم لها، يجب أن نعيد قراءة المشهد، وأن نعتمد على الدستور كقانون حاكم لمواطني هذا البلد وتفاعل السلطات الحكومية معهم.
لقد أقر الدستور حقوق وأطر بعينها للحفاظ على مكتسبات المواطنين، وأدوار وواجبات علي الدولة. لكن -مع الأسف- تغافلت الدولة عن ملف الثقافة النوبية، التي أكد الدستور أنها رافد من روافد الثقافة المصرية التي يجب أن تهتم بها الدولة وتراعاها. حيث أكد أعضاء لجنة الدستور، المعروفة إعلاميا بـ “لجنة الخمسين” عند صياغتهم لدستور 2014، أن مصر دولة متعددة الأعراق. حيث تكون الثقافات المتنوعة وطنا يشبه الفسيفساء، الذي يسر الأنظار من فرط تعدده وثراءه وجماله.
للأسف، تقاعست الدولة عن الكثير من المهام التي أوكلت اليها إزاء مواطنيها النوبيين. لم تبذل الدولة أي مجهود للحفاظ على اللغة النوبية كلغة محلية. لم تبدأ الدولة في تدريس النوبية في المدارس في نصر النوبة وفي قري التهجير. لم تنشأ الدولة مجلس اللغات المحلية، الذي يفترض أن يحافظ على اللغات المحلية في مصر، مثل النوبية لغة أهل النوبة، والأمازيغية في سيوة، ولغة البجا في أسوان والبحر الأحمر.
لم تعترف مصر باللغات المحلية إلى الآن كما فعلت الجزائر والمغرب. هاجم بعض القوميين العرب فكرة الاعتراف باللغة النوبية كلغة محلية، وعلى سبيل المثال، كتب المرحوم عبد الرحمن الأبنودي مقالا حاد اللهجة عن رفضه أن يتحدث المصريين أية لغة دون العربية، واعتبرها اللغة الوحيدة التي تعترف بها الدولة كلغة قومية لمصر.
إن الدستور الذي صاغه أعضاء لجنة الخمسين أقر حقوقا للمواطنين وواجبات على الدولة كي يستقيم حال البلد. إلا أن النظام قد خذل جموع المواطنين المصريين، وتجاهل نداءات مطالبة بتنفيذ الدستور وحمايته من أي توغل من السلطة التنفيذية.
لقد تخيلت أنه بإقرار الدستور سينصلح وتصبح مصر مجتمع أفضل ودولة أكثر عدالة. أتألم حاليا من فرط سذاجتي، لأن إيفوريا التغيير لم ينتج عنها أي اختلاف على أرض الواقع. بل بقي الدستور وثيقة قليلة التأثير في المشهد السياسي. أشعر أن من صاغوا الدستور كانوا حالمين أحلام باليوتوبيا صعب أن تنفذ في وجود أشخاص حالمين، إلا أنهم لا يملكون أي أدوات لتنفيذ هذا الدستور. فقط يسعون بأحلامهم لأن يغيروا الواقع، ليقيموا وطن متعدد الأعراق والاثنيات، حيث تحترم فيه كل الثقافات، وكل روافد التراث.
للأسف، كل جهود نشر اللغة والحفاظ عليها مجرد جهود متواضعة يقوم عليها المجتمع النوبي. فمازالت اللغة تعاني وتقترب من الاندثار، والقائمين على تعليم اللغة قليلين جدا، يقدمون مجرد مجهود شخصي لا تدعمه الدولة بأية وسيلة. إلى جانب عدم إنشاء مفوضية للتمييز، ينوط بها دستوريا التعامل مع ضحايا التمييز المبني على الدين والمعتقد والجنس والعرق واللون والأصل الجغرافي، الذي يهم النوبيين بسبب عامل اللون والأصل الجغرافي والعرق. إلا أن العنصرية والتمييز الذي يعاني منه النوبيين يجب أن يطرح للنقاش.
إن العنصرية داء عضال، يجب أن نناقشه بشكل جماعي حتى ننهي هذه المأساة.
لا أعلم لماذا أتعلق بالدستور، وهو القانون الأساسي للدولة الذي يفترض انه يصيغ أفعال ومواقف الدولة وأجهزتها. إلا أن الدولة لا تلقي لها بالا، وتتعامل معه باعتباره كتاب استرشادي، لا تؤثر نصوصه في أفعال الحكومة والجهات التابعة لها.
أتمنى أن يعيد المشاركين قراءة الدستور حتى يحققوا آمال الشعب المصري.
أتمنى أن يشارك القائمين على الحوار الوطني في نقاش مع النوبيين على مشاكلهم المتراكمة. تاريخ وواقع النوبيين ملئ بالمشكلات وتداعيات التهجير. أتمنى أن أعيش وغيري من النوبيين في وطن يحترم تراثهم وتاريخهم، ويثمن تضحياتهم التي قدموها للوطن.