في ظل المناخ العولمي الذي شمل المعمورة منذ عقود قليلة، في إطار ثورة المعلومات، والذكاء الإصطناعي والهندسة الوراثية، وغيرها من تطورات، شهد العالم ثلاثة أمور: بارزة خلال تلك الفترة، أدت إلى حدوث طفرة معرفية خطيرة، ساهمت في دعم مجتمع المعرفة والإتصالات والنقل.
أولى تلك التطورات: وجود القنوات الفضائية التي تعمل من خلال الأقمار الاصطناعية، ما جعل المتعطشين والراكضين وراء الأخبار في كافة المناحي العلمية والاجتماعية، تصل إليهم المعلومة بشأنها في الحال، وبأساليب ربما تكون مختلفة باختلاف هوية القناة، وذلك في أي مكان تتوافر فيه أجهزة استقبال بسيطة ورخيصة النفقات (جهاز استقبال/أطباق لاقطة).
ثاني تلك التطورات: هي ظهور شبكة المعلومات العنكبوتية، أو ما يسمى إعلاميًا بالإنترنت، وهي الأخرى مصدر موسوعي ومعرفي خطير، يمكن للمطلع أن يستقي من خلاله كل ما يريد من معارف، ساهمت ولا تزال في توسيع المدارك، والبحث عن الحقائق التي تختلف باختلاف المواقع النتية، وبعض تلك المواقع علمية وبعضها اجتماعية. وفوق ذلك ارتبط الاستقبال “النتي” بعملية إرسال سريعة للمعلومات والملفات في ثوان معدودة، وذلك لأي طرف يقطن أي بقعة في إرجاء المعمورة.
ثالث تلك التطورات: هو الهواتف النقالة أو الخلوية، أو ما يطلق عليها الموبيلات. وهذه الأجهزة الحديثة التي يمكن، وبسهولة أن يمتلكها كافة الأفراد (وربما الأطفال) وبأسعار ليست باهظة، أصبحت أكثر تطورًا، وأصبح التحديث فيها يجرى بشكل شبة يومي، بحيث تهمل الأجيال السابقة، لتحل محل الأجيال المصنعة حديثًا لتشكل وسيلة، كان عالم التجسس والمخابرات في عقد الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ربما كان أكثر أمانيهم، أن يمتلكوا عُشر قدراتها الحالية.
أولا: أثر الهواتف النقالة على أواصر الأسرة وتبدل شكل الجريمة
وكما، أن كل شخص قادر على استخدام ذات الوسيلة بشكل مفيد وأحيانا غير مفيد، كانت الهواتف النقالة كالسكاكين كما تقطع الطعام تستخدم للقتل والجريمة. لكن وإن كانت السكاكين لا تحمل الكثير من الإغراء للقتل وغيره، كانت الهواتف النقالة من المغريات، ما يحفز مالكها على الاستخدامات غير الحميدة وغير السوية، وهو أمر يشي بأن تفضي تلك السلوكيات إلى مزيد من النواكب والكوارث للبشرية وللعلاقات الإنسانية، منذ تطور صناعة تلك الأداة بتطبيقاتها الكثيرة والواسعة الانتشار.
واحد من أبرز الأسباب التي واكبت الاستخدامات غير السليمة للهواتف الخلوية، تدهور القيم الإنسانية التي جبلت عليها الفطرة البشرية. أبرز الأمور التي أدت إلى ذلك تدهور نمط القيم ممثلا بشكل رئيس في قواعد التربية والنشأة الأسرية، وكذلك التعليم النظامي من خلال مؤسسات التعليم، والإعلام الرسمي، وكلها من وسائل التنشئة الاجتماعية للناس، والبعد عن العقائد الميتافيزيقية، التي تقودها المؤسسات الدينية الرسمية، وكذلك الإيديولوجيات التي تحض على الفضيلة والقيم الإخلاقية كالنخوة، والنجدة، والكرم، والإنقاذ، والمودة، والحب، والعطف، والحنان، واحترام الغير، وإسعاف الناس، ورفع النواكب، والنوازل، والورطات، من فوق كاهلهم. إلخ. وذلك مقابل ظهور قيم معاكسة تماما تحث على الرذيلة، والكراهية، والخصام، وتقطيع الأواصر والجريمة…إلخ.
أكثر ما شغل الناس في مصر بالهواتف النقالة (كغيرهم من الناس حول العالم)، هو اعتبار الهاتف وسيلة حياة لا غنى عنها، بل أن البعض منهم اعتبرها وسيلة تغني عن الاتصال المباشر بالناس. هؤلاء لا يستخدمون الهاتف بغرض قضاء حوائجهم الأساسية، كالاتصال، أو استقبال المكالمات، أو ضبط التوقيت، لكنهم يستخدموه في أغلب الأحيان بغرض التسالي، وتضييع الوقت. من هنا تجد هؤلاء، وعادة يكونوا من الشباب أو النساء، أو المتقاعدين، أو الفارغين لتوهم من العمل، يضعوا وجوههم على هواتفهم الخلوية أكثر مما يلقوا النظر في وجوه أبنائهم ووالديهم. كل ما سبق قطع أواصر الأسرة، خاصة مع افتقاد الجلسات الجماعية سيما على موائد الطعام، ما أدى إلى تفسخ صلات الود والأرحام، ومعرفة مشكلات الأبناء، وتواصل الأبناء مع الوالدين. وحتى مناسبات الأفراح والأطراح، فقد حلت مكالمات ورسائل الهواتف الخلوية، محل مشاركة الأقارب، والأصدقاء بالنفس والذات بما ساهم في تعميق القواطع والحواجز، ما جعل هناك رغبة أكيدة في عودة جسر الفجوة، التي خلفتها تكنولوجيا الهواتف وتطبيقاتها، لا سيما وأن تلك الهواتف استغلت اليوم أيضًا في أعمال السطو والجريمة، عبر الأعمال التي يقوم بها “هكر” محترف سعى إلى تسخير جهده في القرصنة على الغير؛ بغرض السلب والنهب واستحلال مال الغير.
ثانيا: تخريب متعمد وشجار متواصل
وليت الأمر يقف عند هذا الحد، إذ ساهم الاستخدام السيء لتطبيقات الهواتف الخلوية في مشكلات عديدة، أثرت على العلاقات الاجتماعية بشكل أربك المشهد برمته، خاصة وأنه قد أدى في بعض الحالات إلى استشراء الجريمة.
خذ على سبيل المثال: الجماعات التي تتألف عبر تطبيق الواتس أب، والتي تشكل جماعات (جروبات) من الأقارب، أو الأصدقاء، أو العاملين في مؤسسة، أو الذين تربطهم مهنة، أو محل سكن.. إلخ. فالحوارات في تلك الجروبات مالم يتحكم فيها مدير الجماعة Admin Group، فإنها تثير مشكلات بسبب خرق قواعد النقاش السليم. ومن ثم فهى تفضي إلى قطيعة بين الأعضاء أكثر من التعاون، الذي هو الغرض الرئيس من تأسيس الجروب، ما جعل البعض يصف مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي؛ بأنها مواقع للتخريب الاجتماعي.
شيء آخر، هو استخدام تطبيقات الهواتف الخلوية الخاصة بتسجيل محادثات وحوارات جماعية، يتم نقلها إلى خصوم دون إذن، أو معرفة من يسجل إليهم. إضافة إلى ذلك يتم أحيانًا تسجيل المكالمات التليفونية مع متحدث، تنقل أيضا إلى أخرين بغرض النميمة وإثارة الكراهية بين الناس. ناهيك عن تصوير الناس بشكل لقطات أو فيديو بدون إذن ودون دراية منهم، وذلك بحرفية عالية، وربما في أوضاع وأماكن لا يرغب في معرفتها المُصَورون، ثم إرسال تلك الصور لآخرين، بغية الوقيعة وتخريب العلاقات الاجتماعية، وهذه الأمور جميعها كثيرًا ما انتهت بطلاق الأزواج، أو شجار الجيران، أو الأصدقاء، أو الأقارب، وبعضها انتهى في ردهات المحاكم وساحات القضاء. جدير بالذكر أن أكثر تلك الحوادث وأشدها وطأة هي تلك التي ساهمت في تشويه سمعة الفتيات والسيدات، بتصويرهن في أوضاع مخلة، الكثير منها مصطنع، ما أسفر عن عديد حوادث الانتحار التي شهدتها مصر خلال السنوات القليلة الماضية.
ولا يتوقف الأمر عن هذا الحد، فهناك تطبيقات أخرى، على عكس تطبيق واتس أب الذي يعلم كل فرد متحدث إلى ومع من يتحدث، هناك تطبيق فيس بوك وتويتر وانستجرام وما شابه، حيث لا يعلم المتحدث أي شيء عن محدثه، بما فيه نوعه (ذكر/أنثى)، هذا الأمر يثير شهية البعض باستخدام حوارات تفضي إلى خلافات كبيرة أكثر بكثير من تطبيق واتس أب.
المؤكد أن هناك تطبيقات عديدة مثيرة للجدل، منها أيضًا ما يسفر عن تعقب شركات الإعلان لرغبات غير الاستهلاكية، هذا الأمر يحدث بشكل أشبه بالمطاردة، فبمجرد الدخول إلى موقع جوجل أو خلافه للبحث عن جهاز منزلي مثلا، تجد الكثير من الشركات تطارد الباحث لعدة أيام، لعرض المنتج على الموبيل، وربما البريد الإلكتروني الخاص في آن واحد، وهذا الأمر على حسنه في بعض الأحيان، إلا إنه يعبر عن نوع من التتبع الغريب والمزعج أحيانا.
في شأن تطبيقات الهواتف الخلوية، هناك ما يتفتق إلى ذهن الهاكرز من خلال صناعة فيروسات بمواقع النت والموبيل، وذلك بغرض الاختراق ومعرفة المعلومات المتصلة ليس فقط بكل ما يحتويه الهاتف الخلوي للشخص من أرقام، وصور، وبيانات، وملفات، وجميع جهات الإتصال المتواجدة بالهاتف، أو البريد الإلكتروني، بل والأشد وطأة الوصول إلى معلومات متصلة بكلمات المرور، بغرض تسخير بطاقات الإئتمان، وكروت الفيزا بنك، لسحب الأرصدة وتصفير حسابات الأبرياء.
هناك أيضا برامج الفوتو شوب، وهي برامج تختص في قص ولصق الصور. وكذلك برامج تغيير أصوات المتحدثين، بغية خداع المتحدث إليهم. وبرامج كشف أماكن الرادار الكاشف عن تجاوز السرعة المرورية في الطرق المفتوحة. وبرامج تجسس خاصة بتتبع الموقع الجغرافي لحامل الهاتف، والسطو على كل ما فيه، وهي برامج للتصيد الاحتيالي عبر الهاتف الخلوي، وتتم بإرسال موقع مغري لشهية حامل الهاتف، الذي يقوم بفتحه بحسن نية، ومن خلال ذلك تبدأ عملية السطو. وغيرها وغيرها من برامج وأشكال تثير مشكلات عديدة، وكراهية، وفرقة، وحوادث وجرائم لا حصر لها.
ثالثا: حلول مؤقتة
لكل تلك الأمور كان من الواجب أن يقف أساتذة الاجتماع أمام تلك المشكلة، وبالطبع كانت الاستعانة بالمتخصصين في الشئون التكنولوجية من الأمور المهمة لمواجهة تلك الظاهرة.
بداية تتحتم الإشارة إلى أن الاستخدام السلبي للهواتف الخلوية في الشئون ذات الطابع الأسري، هو أمر من الصعب مواجهته على الإطلاق، لأن تلك المواجهة ترتبط بنمط القيم والنشأة الخاصة بالمستخدم، وهو أمر من الصعب السيطرة عليه، خاصة في إطار إغراء التلصص والنميمة والفضول والوقيعة بين القيل والقال. لكن تبقى الأجهزة الشرطية المعنية بمواجهة المشكلات الخاصة بمواقع التواصل الاجتماعي، ومؤسسات التنشئة الاجتماعية كالأسرة والمدرسة، ودور العبادة، والإعلام، هي الرادع أمام كل من تسول له ذاته لخرق الخصوصية والقيام بابتاز الأخرين.
أما بشأن الأمور غير المتصلة بالعلاقات الأسرية، فإن مواجهة السلوك غير السوي المرتبط بالبرمجيات والتطبيقات الخبيثة (فوق الأجهزة الشرطية المعنية بالمواجهة) يتم بحتمية تجنب تشغيل لاقط الاتصالات دون داع، كالواي فاي والبلوتوث، مع ضرورة وضع كلمة مرور ليس فقط على الموبيل بل على كل تطبيق يتم استخدامه، حتى لا يخترق. كما أنه من المهم تجنب تنزيل تطبيقات مجهولة، وعدم الضغط على “لينكات” يتم إرسالها من غير مصادر موثوقة، وكذلك تحميل تطبيقات تهدف للتحكم عن بعد في الهاتف الخلوي الخاص حال سرقته.