حينما صدر القانون رقم 219 لسنة 2017، والذي جرم منع أو حجب حصة من الميراث، أو حجب المستندات الدالة عليه، وذلك بنصه في المادة 49 من القانون، حيث نصت على أنه “مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد ينص عليها أي قانون آخر، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه، ولا تجاوز مائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين. كل من امتنع عمدًا عن تسليم أحد الورثة نصيبه الشرعي من الميراث، أو حجب سندًا، يؤكد نصيبًا لوارث، أو امتنع عن تسليم ذلك السند حال طلبه من أي من الورثة الشرعيين”. استبشر الكثير من المصريين، وخاصة النساء في القطاع الريفي والجنوبي من مصر خيراً بهذا القانون، وكأنه طوق النجاة لهم من منعهم من حصصهم المورثة وفقا للعادات والتقاليد، حيث يعد الحرمان من الميراث ظاهرة اجتماعية منتشرة في بعض الأوساط الاجتماعية في مصر، لا سيما في المناطق الريفية والبدوية، على الرغم من الآراء الفقهية الصريحة التي تحرم منع أي وارث من استيفاء نصيبه الشرعي في الميراث.
وقد تعرضت المحكمة الدستورية العليا لبحث مدى دستورية ذلك القانون في الدعوى رقم 31 لسنة 42 دستورية، والتي قضت فيها المحكمة الدستورية العليا بجلسة السادس من نوفمبر سنة 2021 بعدم قبول الدعوى، والتي كانت قد أحالتها إلى المحكمة الدستورية العليا محكمة جنح مستأنف جنوب بنها، وذلك للفصل في مدى دستورية النص فيما لــــم يتضمنه من لــــزوم وجــــود قسمـــــــــة رضائية، أو قضائية نهائية لغير مثليات التركة، لقيام الجريمة.
وقد بينت المحكمة الدستورية، أن النص القانون قد جرم الفعل المؤثم، وهو فعل الامتناع العمدي، سواء كانت الحصة المورثة مفرزة أم شائعة، كما قضت المحكمة الدستورية قبل ذلك في طعن، أقيم على ذات القانون بدستورية النص مؤسسة ذلك على، أن المشرع سعى لحماية حق الإرث، باعتباره أحد مصادر حق الملكية الخاصة المكفول بنص المادة 35 من الدستور، وواجه ظاهرة، استشرت في المجتمع، يجنح فيها بعض الورثة، ممن يضعون أيديهم على التركة أو مستنداتها، إلى حرمان المستحقين من أنصبتهم الشرعية، أو حجب المستندات المؤكدة لتلك الأنصبة، فاتخذ من فعل الامتناع عمدًا عن تسليمها، أو حجب السند مناطًا لوقوع الجريمة، مستهدفًا تحقيق مصلحة اجتماعية محل حماية دستورية.
إلا أنه ما زال المجتمع المصري يئن من وطأة، عدم تفعيل ذلك القانون بشكل كامل، يمنع وقوع الجريمة، أو حتى بشكل يضمن عودة الحقوق لأصحابها، وحتى لو كان سبب ذلك يعود للتلاعب في مستندات الميراث، أو للتهرب بالحيل القانونية من نفاذ الحكم، أو لإطالة مدة التقاضي، وما إلى ذلك من أسباب، إلا أن مؤداها جميعها يقف عند حد عدم كفاية النص بحالته الحالية للقضاء على هذه الظاهرة المجتمعية المخالفة لكافة القيم، فهل نحن بحاجة إلى نص أكثر صرامة من النص الحالي؟ أم أننا بحاجة فعلية؛ لتحقيق وتطبيق حقيقي للنص القائم؟
فإن الأمر يجب ألا يقف عند حد العقوبة المقررة، والتي من الممكن أن يتم الاحتيال عليها عن طريق سبل التقاضي البطيئة منها على سبيل المثال، التهرب من عمل معارضة في الحكم الغيابي، حتى مرور الثلاث سنوات المقررة؛ لانقضاء الدعوى الجنائية، أو التحايل على بعض الورثة، فيما يخص التقسيم الرضائي من خلال إحالة القضايا على مكاتب الخبراء، وما إلى ذلك من إجراءات يتقنها جيدا المحامون، حسب موقف موكلهم من القضية.
وإن كنت أرى، أنه يجب ولزاما على النيابة العامة، أن تقوم بعمل تحقيق قضائي، فيما يحال إليها من محاضر عن جريمة الامتناع، بما يتضمن حضور أطراف النزاع أمام النيابة، والتحقيق معهم بشكل كامل في أبعاد القضية والمستندات، وألا تكتفي النيابة، بما ورد بمحاضر الشرطة، وتحيل القضية إلى محكمة الجنح بناء على ذلك المحضر، إذ أن النيابة العامة لو قامت بإجراء ذلك وبالتحقيق القضائي، حتى ولو اقتضى الأمر ضبط وإحضار الأطراف الممتنعة، والتحقيق معهم وحبسهم احتياطيا، فإنه منذ تلك اللحظة سيشعر الممتنعون بشدة الأمر، وربما يصلون إلى تسوية الموقف بشكل أسرع. وأظن أن ذلك من أصيل عمل النيابة العامة، لكن ما يضر بقيمة النص، هو عدم وجود تحقيق قضائي في هذه الجرائم، وما يستتبعه هذا التحقيق من فاعليات تضيف إلى النص وجود وتفعيل حقيقي.
كما أنه مما يضيف إلى هذا النص وجودا مجتمعيا فاعلا ونافعا، أن يضاف إلى النص وجوب التسليم للحصة المحجوبة، حتى يكون للنص دلالة مجتمعية فعلية، حتى لا يكون مجرد الحبس كوسيلة للتهرب من الحصة المحجوبة أو الممنوع تسليمها، إذ أن التسليم هو ما يحقق الغرض المبتغى من وجود النص في حد ذاته، وهذا ما يؤكد فاعليته وصلاحيته المجتمعية، كما أن ذلك يكون له مقتضى وجودي في حالات التحقيق القضائي من قبل النيابة العامة، كما أن صلاحية التسليم ونفاذه من الممكن، أن يكون له أثر في قِصر أمد التقاضي، والقضاء على تلك الظاهرة المجتمعية، وبما يضمن عدم تكرار الجرم من آخرين، أو ما يسمى بالضمان الاستباقي.
وهذا، وبشكل كلي ونظرة متعمقة، ما يحقق القيمة الحقيقية للقوانين، وما يجعلها ذات فاعلية في إرساء القيم المجتمعية، وتفعيلها والحفاظ عليها، ولا يكون مجرد وجود النصوص القانونية هي فقط البحث عن العقوبات، حتى ولو كانت سالبة للحرية، إذ أن غاية النصوص هي الحفاظ على الحقوق من ناحية، وإعلاء قيمة القانون، ما بين الأفراد من ناحية ثانية، وإن كانت تلك الأمور، لا تقف عند حد القضية محل المقال، وإن كانت تتجاوز هذا النطاق إلى غيرها من قضايا المجتمع، وما يتعلق به من قوانين وقضايا ذات أبعاد مجتمعية.
ومن هنا، أدفع القائمين على العمل التشريعي المصري، والعمل القضائي والقانوني إلى البحث في كافة المتغيرات المجتمعية التي تقتضي الحفاظ على قيمها، ودفع الضرر بمحاولات الاعتداء عليها من الخارجين عن حدودها، حتى نعيد للقوانين قيمتها وهيبتها المجتمعية، ولا يقف الأمر عند مجرد المعالجات السطحية فقط، دون الغور في أعماق القضايا ذات الخلاف، والبحث عن أفضل الحلول التي تقتضي التدخل لمعالجتها، وبالتالي السعي إلى الصياغات القانونية التي تقوى على مواجهة الخروقات بالنفاذ الفعلي والحلول الجذرية.