أفسدت مزايا الأغلبية السكانية في الدول، بقايا الإنسانية المحملة بالهموم لدى الأقليات في مجتمعاتها، لتصبح “العنصرية” سمة سائدة لدى الجميع، وغير مقتصرة على فصيل كما كان معتادًا، فأضحى أولئك الذين يعانون من ويلات الاضطهاد والتمييز، هم أنفسهم من يمارسونه في حق غيرهم، ممن هم في درجة أقل منهم، أوضد المرفوضين في المجتمع لاعتبارات “دينية أو عرقية أو جنسية”، بحثًا عن مكان لهم في حضن “العنصرية” المترسخة في كل الأركان.
الجميع أصبح يكره الاختلاف، ويرفض الاعتراف سوى بدين ودنيا “الفئة السائدة”، ليتسابق من في أعالى الجبال وفي باطن الأرض، وحتى في عنان السماء، معلنًا أنه لا صوت عاقل أو قلب راحم سوى ذاك الذي تصدح به حناجر، وتمصمص عليها شفاهها حزنا، لتنجر أقدام الأقليات “المقهورة” أيضًا، إلى وحل العنصرية، سواء خوفا من بطشها، أو طمعا في مسحة تبرك بها، أو درءا لانتقاد جديد قد تلقاه.
اضطهاد المضطهدين
“عنصرية الأقليات”، في المجتمعات العربية والغربية، أصبحت في عصرنا الحالي، مشهدًا معتادًا، فبدلًا من أن يتنقد أتباع فصيل “ضعيف” إجراءات التمييز التي تصدر بحقه وبحق أقليات أخرى، أصبح هو أيضًا يمارسها، على غيره، معتمدًا على نفس التقسيمات التي سجلتها الأغلبية المهيمنة “الدين والعرق والجنس”، لكونه مرفوضًا من الأكثرية الموجودة في المجتمع، فمن الممكن أن تجد مسلمًا شيعيًا ينتقد مسلمًا سنيًا، أو مسيحيًا أرثوذكسيًا يهاجم مسيحيًا كاثوليكيًا، أو يطحن جميعهم ملحدًا، أو يسبون جميعًا أيضًا شخص “مثلي الجنس”.
حكايات عنصرية الأقليات في الداخل عديدة، ونراها كل يوم عبر مشاهد حياتنا اليومية، أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فباستطاعتك أن تتذكر ردود الفعل المتداولة عبر صفحات الأصدقاء، بعد انتحار الناشطة المصرية سارة حجازي، أو موقف المغردين من وقائع التحرش المتهم فيها أحد الشباب مؤخرًا، ومدى خطأ المرأة في ارتداء ملابس بعينها.
الإعلامي المصري باسم يوسف، حكى عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك” عن واقعة كان شاهدًا عليها خلال إحدى رحلاته في دولة أوروبية، حيث التقى خلالها مجموعة من المصريين المهاجرين والمقيمين هناك، وأنه كان خلال تلك الفترة يتم مناقشة قانون بتلك الدولة بشأن حقوق مجتمع المثليين، وخلال حوارهم بدأوا يتناقشون عن حقوق المثليين والملحدين، في ظل المطالبات بعدم التمييز ضدهم.
“يوسف” ذكر، أن الأشخاص الجالسين معه، أعلنوا رفضهم لوجودهم في المجتمع المقيمين فيه، منوهًا بأنه سأل بعضهم عن أسباب رحيلهم عن مصر، فأخبره المسيحي أنه قدم على هجرة من مصر بدعوى اضطهاد المسيحيين، وعدم قدرتهم على بناء الكنائس، وآخر ذكر أنه اضطر للخروج من مصر لأنه لم يستطع ممارسة حريته، فأخبرهم أن ما يفعلونه الآن مشابه تمامًا لما حدث معهم.
اقرأ أيضًا:
وفي واقعة أخرى سجلتها كاميرا هاتف في العاصمة البريطانية لندن، حين هاجمت امرأة سوداء، والتي من المؤكد أنها تعرضت للتنمر في مراحل عمرها، وتعلم مدى سوء شعور العنصرية، سيدتين محجبتين داخل حافلة بلندن، واصفة إياهن بـ”أكياس الرمل” وأنهما من تنظيم داعش الإرهابى، مضيفة: “أنتن تخفين القنابل أسفل ملابسكن، أنا لا أحبكم أنتم حمقى، عودوا من حيث أتيتم نحن هنا أحرار”، وفقا لصحيفة “ديلى ميل” البريطانية.
طبيعة التعصب
عالم النفس الأمريكي الراحل جوردون ويلارد ألبرت، تحدث في كتابه “طبيعة التعصب”، أن العقل البشري يسعى إلى تصنيف الظواهر والأحداث والأشخاص إلى أنماط مشتركة، وقوالب جاهزة، من أجل تبسيط الواقع، وإعفاء نفسه من عناء التفكير، مشيرًا إلى أن العقل الإنساني لا بد أن يستند إلى التصنيفات ليفكر، وما أن تتكون التصنيفات حتى تصبح الأساس المعتاد للأحكام المسبَقة.
جوردون عرف التعصب بأنه “كراهية مبنية على تعميم خاطئ ومتصلب، قد يظل شعورًا أو قد يتم التعبير عنه، وقد يتجه لجماعة أو فرد من تلكَ الجماعة”، لافتا إلى أن ضحايا الاضطهاد قد يقومون بممارسة الأفعال التي تٌمارس ضدهم تجاه أشخاص آخرين أقل منهم، كما يحدث معهم من أشخاص أعلى منهم في ترتيب الفوقية والعنصرية.
الخوف من الأغلبية
دراسة أمريكية، سلطت الضوء على أن اضطهاد ضحايا العنصرية لأمثالهم، يكون بسبب الخوف من الأغلبية ما يدفع الأقليات إلى اتخاذ موقف مشابه لهم، حيث طلب باحثان من عدد من الأمريكيين البيض والسود، تقييم أشخاص مرشحين لوظيفة بعضهم من مواطني الولايات المتحدة الأصليين، والآخرين من ذوي البشرة البيض.
وذكر الباحثان، أنه عند إخبار الأشخاص الذين أجريت عليهم الدراسة أن التقييم سيكون علنيًا، وجدوا أن الأمريكيين السود أعطوا المواطن الأصلي الهندي تقييمًا منخفضًا عن الأبيض، وأنه حين تم إبلاغهم بأن الأمر سيكون سريًا، أعطوا المواطن الأصلي نفسه تقييما أعلى.
وخلصت الدراسة التي ذكرها الكاتب السعودي فائق منيف عام 2014 في مقال له، ولم يتثن لنا “التأكد من صحتها” إلى فرضية أن الأقلية تحاول إرضاء الأغلبية والتقرب منها، فتستشف رغباتها وتحاول التوافق معها، مشددة على أن الأقلية قد تصبح أشرس من الأغلبية في محاولة لإثبات الولاء، وإيجاد قواسم مشتركة للخروج من قائمة المستهدفين، ومساندة الأغلبية في عنصريتها ضد أطراف وأقليات أخرى.
التقاطع مع الأغلبية
الجنوبي المصري رامي يحيى، اعترف بتعرضه للعنصرية من أبناء جلدته، ومن أقليات أخرى، تعلم مدى جرم الفعل، وقبح إحساسه، مفسرا ذلك بقوله: “بنيت الأكثرية في بلادنا على خمس (ذكر – مسلم سني – عربي – أبيض – غيري الميول) ، وهذا التعدد في أوجه الأكثر يجعل سعة دائرتها البينية أوسع وتتقاطع معها مختلف الأقليات فيما عدا تقسيمة أو تقسيمتين، بحيث لا توجد أقلية مختلفة تماما مع الأغلبية”.
وأضاف الكاتب والشاعر في تصريحات خاصة لـ”مصر 360″: “للأسف كل فريق من الأقليات يستمسك بالجزء المتقاطع مع الأغلبية حتى يظهر لبعض الوقت في دور الأكثرية، ووقتها يكون شرس جدًا في اضطهاد الأقلية الذي تختلف معه في هذا الجزء المتقاطع مع الأغلبية”.
وأردف صاحب “هاشتاج” “الأقليات لبعضيها: “الأسباب السابقة تؤدي إلى أن يصبح المواطن من الأقليات كمن يريد أن تنظر له الأكثرية لترضى عنه، وتتوقف عن اضطهاده في باقي أجزاء شخصيته المختلفة”.
سياسة الحكم
“رامي” رأى أن الأنظمة السياسية تلعب دورًا أساسيًا في استمرار الأوضاع في المجتمعات على الواقع الحالي، من خلال تهميش كل قامات التنوير والتصحيح من أصحاب القضية “القادرة” على مواجهة “الادعاءات” الصادرة عن الأغلبية بطوائفها المختلفة، في مقابل “تلميع” أنصاف وغير المؤهلين للحديث لإظهار قضايا الأقليات في مظهر “مهلهل” وغير ذي جدوى.
وشدد على أن الدولة حريصة على إقصاء أي مؤسسة أو شخصية عامة، يمكنها إحداث “حراكًا” في الواقع المجمد، فيُسكت الحكماء ليتكاثر الحمقى، مضيفا: “نحن نعيش مخاض (عصر التنوير)، لكن سيبقى النضال هو الحارس الأمين لإعلاء صرخات الأقليات، وترسيخ حقوقها”.
المواطنة هي الحل
نائب رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان المصري، عبد الغفار شكر، يرى أن تلك الممارسات نتاج أوضاع عامة في المجتمعات، يشعر الإنسان إزاءه أنه “مضطهد” من الأغلبية، وبالتالي يعكس ذلك في تصرفاته مع الآخرين، بما يعني أنه رد فعل لوضع أكبر لما يحدث في المجتمعات عمومًا.
اقرأ أيضًا:
بين التنمر وضياع الحقوق.. أطقم التمريض أبطال في مواجهة كورونا
وأضاف في تصريحات خاصة لـ”مصر 360″، أن تصرف الأقليات بشكل عام هو رد فعل لما تلقاه من “تعنت”، مشيرًا إلى أن تلك التصرفات والعنصرية عمومًا تتسبب في تفتيت المجتمعات، وتعمق الانقسام على أسس طائفية وعرقية، مكملا: “الحل يتمثل في الديمقراطية، وأن تقبل المجتمعات التعددية، وتتعامل معها باعتبارها حق مشروع لكل المواطنين، وأن تصبح المواطنة مسألة حقيقية وليست مجرد شعار، ما يجعل المواطن لا يشعر بأنه مضطهد أو في موضع اضطهاد من الآخرين”.
ونصح نائب رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان، بأن يكون النضال من أجل ديمقراطية في المجتمع كمفاهيم وقيم وسلوكيات، وليس لمجرد المسألة الحقوقية فقط.