كتب: إسلام عوض عبد المجيد·
لقد تلقت الجماعة المحلية في بورسعيد نبأ بيع أرض المتحف الواقعة على رأس المجرى الملاحي لقناة السويس، بمزيج من الذهول والغضب، وتحت وسم ـ أرض المتحف_ للمتحف دَوَّنَ المئات من النشطاء والمثقفين والأثريين، ضد التصرف في أرض المتحف القومي ببور سعيد، أو بيعها لمطور عقاري. فكيف يمكن التهاون مع تحويل الأرض التي كان يرتفع عليها أحد أبرز المتاحف القومية خارج العاصمة – والذي يعتبر أول متحف للحضارة المصرية، ضم في قاعاته المختلفة آلاف القطع الأثرية من الأحقاب التاريخية المختلفة؛ المصرية القديمة، الرومانية، القبطية، الإسلامية، والخديوية – إلى مجمع سكني مسور في موقع فريد من نوعه بكل معنى الكلمة؟ في هذا المقال، نستهدف إعادة سرد قصة المتحف، من خلال تتبع تاريخ ملكية الأرض التي شيد بنيانه عليها، قبل إزالته لأسباب إنشائية، باعتبارها نموذجا يعكس بعض علاقات الإنتاج الاقتصادية في صلاتها بالمنظومة الإدارية للدولة. في محاولة لفهم أكثر وضوحًا، للتداخل ما بين اختصاصات أجهزة الدولة المركزية، والإدارة المحلية من ناحية، وبين الملكية العامة، والخاصة التي لا زالت تتحرك الأرض في نطاقها من ناحية أخرى، على ضوء تحليل جانب من تطور الملكية في مصر.
الشركة العالمية كمالك أول!
حتى منتصف القرن التاسع عشر، لم تكن الملكية الخاصة للأرض معروفة في مصر، باستثناء ما كان يعرف بأرض الرزقة[1]، وهو شكل من أشكال حيازة الأرض، يتضمن حق الرقبة أو حق التصرف في الأرض، وفي عهد سعيد باشا (1822: 1863) الذي أصدر اللائحة السعدية التي يؤرخ بها بداية الملكية الخاصة للأرض، تعينت الأراضي الأميرية أو الأرض المملوكة للدولة عن طريق السَّلْب (أي اعتبرت كل الأراضي غير المملوكة للأفراد مملوكة للدولة). ويظهر هذا التحديد السلبي للأرض الأميرية في فرمان امتياز قناة السويس الثاني، والصادر في سنة 1856، إذ نص في المادة العاشرة منه على حق “الشركة العالمية لقناة السويس” في الانتفاع بالأراضي غير المملوكة للأفراد، ما دامت لازمة؛ لإنشاء القناة وملحقاتها. ولا شك، أن امتياز قناة السويس الذي يعد أشهر الالتزامات الأجنبية في مصر، كان بمثابة حجر الزاوية في نشأة مدينة بور سعيد الاستعمارية، ومحور نضال جماعتها المحلية من أجل؛ استخلاص المدينة وأرضها من الشركة [الكومبانية] المملوكة للأجانب.
وخلال مئة سنة كاملة، حلت الشركة العالمية لقناة السويس محل الدولة في ملكية الأرض، سواء تلك المخصصة للنفع العام مثل، تلك المخصصة لحفر “ترعة الإسماعيلية” أو حتى تلك التي خصصت للنفع الخاص؛ حيث خططت الشركة مدينة بور سعيد؛ لتحتوي على حي للأجانب [الإفرنج] في شمال شرق المدينة الناشئة، وغربها. قرية العرب التي خصصت لسكن المحليين، واستقبلت أول موجات الهجرة للمدنية. وعند تتبع سجلات الضرائب العقارية في محافظة بور سعيد، يمكننا بسهولة اكتشاف المالك الأول للأرض في أحياء الشرق (حي الأجانب سابقًا)، والعرب ومدينة بور فؤاد، وهي الشركة العالمية لقناة السويس التي تملكت الأراضي في بورسعيد ملكية خاصة، بشكل مستقر مع صدور القانون المدني القديم سنة 1883، وفي ظل نظام تسجيل الملكية أمام المحاكم المختلطة، وأعادت بيعها للأجانب والمصريين على السواء.
ومنذ تأميم الشركة العالمية لقناة السويس، وتحويلها لشركة مساهمة مصرية قبل استقرارها كهيئة عامة، أو كجهاز من أجهزة الدولة المركزية، ويتدخل رئيس الجمهورية من حين لآخر؛ لإعادة تعيين الأرض التابعة لهيئة قناة السويس، وتلك المخصصة لمجلس محافظة بور سعيد، بعد فصل مدينة الإسماعيلية، وإلغاء محافظة القنال في سنة 1959، وهو القرار الذي فصل الجماعتين المحليتين في بور سعيد والإسماعيلية، وأعاد تشكيل مكوناتهما البشرية. من هنا، تبدأ قصة أرض المتحف القومي ببور سعيد التي تم تخصصيها للنفع العام – أي بغرض إنشاء المتحف القومي عليها – بموجب قرار رئيس الجمهورية الراحل جمال عبد الناصر رقم 125 لسنة 1963؛ بشأن تعديل حدود مرفق قناة السويس[2] الذي انتقلت بمقتضاه ملكية 4200م2من الهيئة إلى محافظة بور سعيد التي وافق مجلسها الشعبي المحلي على تخصيص تلك الأرض بالإيجار الاسمي؛ لإنشاء المتحف القومي.
في أعقاب هزيمة يونية سنة 1967، توقفت أعمال بناء المتحف القومي، ولم يستأنف هذا المشروع الإنشائي إلا في ثمانينيات القرن العشرين. ولغرض توسعة قاعات عرض المتحف، صدر قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1508 لسنة 1982، بضم مساحة 6767.75 م2 إلى المشروع، وإضفاء صفة النفع العام عليها وعلى ضوء هذا القرار، وافق مجلس إدارة هيئة قناة السويس على تأجير هذه المساحة بالإيجار الاسمي، لصالح هيئة الآثار المصرية التي تملكت عن طريق الشراء بعد ذلك بنحو عقد مساحة 1190م2 من القاعدة البحرية في بور سعيد، كانت قد انتقلت ملكيتها من الهيئة بقرار جمهوري. وعلى هذا النحو أصبح إجمالي مساحة مشروع المتحف 12173.5م2 استقر عليها مبنى المتحف، وشملت حديقته وساحته الخلفية؛ ليفتح أبوابه للجمهور بالتزامن مع احتفال محافظة بور سعيد بعيدها القومي (أي عيد النصر في سنة 1986).
أرض الدولة بين النفع العام والخاص
مع الإرهاصات الأولى لظهور الملكية الخاصة في مصر – وهو بلا شك ظهور ارتبط بالامتيازات الأجنبية، وعلى رأسها امتياز قناة السويس – وكما رأينا كانت تتعين الأرض الأميرية بالسَّلْب، وانقسمت هذه الأرض لمجالين هما: ما يقال عنهما [دومين] عام و[دومين] خاص. والفارق ما بين المجالين يتحدد على ضوء الغرض من استغلال الأرض، فبينما تعتبر الأرض المستغلة في تحقيق النفع العام، (أي التي تمثل مرفق عام) يستهدف تقديم خدمة عامة لجمهور المنتفعين بها، جزء من [الدومين] العام لملكية الدولة للأرض، وتخضع لأحكامها الاستثنائية، وأبرزها عدم جواز تملكها بالتقادم المكسب للملكية الخاصة، كما نص على ذلك صراحة القانون المدني القديم وكذا الجديد، بينما تعتبر الأرض غير المخصصة لتكون ذات نفع عام داخلة في المجال الخاص للملكية، وتخضع لأحكامه.
ومع بزوغ عصر الجمهورية، وفي ظل نموذج دولة التحرر الوطني التي تبنت ما نعتبره استراتيجية كاملة؛ لتصغير الملكية الخاصة من خلال سلسلة من التشريعات، أبرزها قوانين الإصلاح الزراعي، والإيجار الاستثنائي، وحظر جواز تملك أرض الدولة المملوكة لها ملكية خاصة، بطريق التقادم المكسب للملكية، وهو ما يعتبر أبرز تعديل أدخلته الجمهورية على القانون المدني الجديد. وكما ورد بالمذكرة التفسيرية لهذا التعديل التشريعي، أن عدم قدرة الدولة وأجهزتها على حماية هذه الأراضي ’’مهما أحكمت الرقابة والإشراف عليها، فإن ذلك لن يمنع من تملكها بهذا الطريق[3]‘‘ أي التقادم المكسب للملكية. وهو ما نراه تحوط من دولة التحرر الوطني؛ لمنع ظهور الملكية الكبيرة بشكل متسق مع استراتيجيتها المتكاملة إلا بإجازة منها، وهو ما تأخر حتى تسعينيات القرن العشرين مع بداية ظهور التجمعات السكنية المسورة على أطراف القاهرة.
هذا الاستطراد بالغ الأهمية في تقديرنا، لأنه يحدد خلفية قصة أرض المتحف القومي ببور سعيد التي تدخل ملكيتها في مجال الملكية العامة، كما أوضحنا بقدر من التفصيل مع ملاحظة، أنها نموذج يظهر تعدد [الدومين] العام، إذ يتعدد هذا المجال بتعدد الأشخاص الاعتبارية العامة التي تتملك الأرض الداخلة في نطاقه، وهو التعدد الراجح في الفقه، والقضاء جوازه، وما سنعود لمناقشته لاحقًا، والسؤال الذي يطرح نفسه هو، هل يجوز أن تخرج أرض المتحف من [الدومين] العام، وتتحول إلي ملكية خاصة للدولة أو إلى جزء من [الدومين] الخاص؛ تمهيدًا لبيعها لمطور عقاري؟ الأصل هو عدم جواز التصرف في الدومين العام؛ أو كما يقول العميد عبد الرازق السنهوري: ’لا يجوز للشخص الإداري أن يبيع الشيء العام، أو يهبه أو أن يرهنه، أو أن يجري فيه (أي تصرف يتعارض مع تخصيصه)[4]‘ إلا أن هذا الحظر غير مطلق، إذ يجوز في أوضاع معينة تحويل الأرض المخصصة للنفع العام إلي ملكية خاصة للدولة، مما يجوز التصرف فيه بالبيع أو غيره من التصرفات الناقلة للملكية.
وينظم القانون المدني – وهو الشريعة العامة – طرق زوال صفة النفع العام عن المال، سواء عقارا أو منقولا بطريقين: الطريق الرسمي (أي بموجب قانون أو قرار جمهوري أو قرار من الوزير المختص) والطريق الفعلي الذي يجب أن يكون نتيجة سلوك جهة الإدارة الواضح والمؤكد. وبتطبيق أحكام القانون المدني على نزع صفة النفع العام عن أرض المتحف القومي، سيظهر لنا بسهولة أن أجهزة الدولة الإدارية لم تتخذ الطريق الرسمي، فظل عدم وجود تشريع أو قرار إداري بنزع صفة النفع العام عن تلك الأرض ومن ناحية أخرى، سيتضح لنا أن هيئة الآثار الجهة المنوط بها إعادة بناء المتحف، وتشغيله لا يظهر سلوكها رغبتها في إزالة صفة النفع العام عن أرض المتحف التي تملك جزءا منها، وخصصت لها بالإيجار الاسمي باقي الأرض من هيئة قناة السويس، ومحافظة بور سعيد ومجلسها الشعبي المحلي، إذ حتى الأشهر السابقة على الإعلان عن المشروع السكني المسور كانت الهيئة في محاولات مستمرة؛ لتوفير الاعتمادات المالية اللازمة؛ لإعادة بناء المتحف وتشغيله، ولدى الهيئة رسوم هندسية؛ لإعادة البناء بما يقطع بعدم مشروعية نزع صفة العام عن تلك الأرض الفريدة من نوعها.
التطوير العقاري والملكية ومنظومة الدولة
من وجهة نظري، كانت استراتيجية تصغير الملكية الخاصة للأفراد صيغة للتسوية الطبقية التي أتاحتها دولة التحرر الوطني في مصر، وسهلت لها في أطوار اضمحلالها لعب دور رئيسي في تمكين حفنة من المطورين العقاريين الجدد من الاستحواذ، على مساحات شاسعة من الأرض التي كانت مملوكة ملكية خاصة للدولة بغرض؛ التوسع العمراني على أطراف القاهرة في البداية، وعلى أطراف حواضر الأخرى مثل، الإسكندرية وأخيرًا بور سعيد. وستظل تجربة نزع حيازة سكان شمال قرية الديبة رغم شروعهم في شراء تلك الأرض من المحافظة، وهي إحدى أجهزة الدولة، وأشخاصها العامة ذكرى أليمة للإزاحة الطبقية؛ لصالح الملكية الكبيرة التي تهديها الدولة للمطورين العقاريين لتوفير؛ السكن المنعزل للشريحة العليا من الطبقة الوسطى في حواضر مصر. ورغم أن قضية أرض شمال قرية الديبة ما زالت محل سجال برلماني وقضائي، إلا أن المطور العقاري كان قد مضى قدمًا في مشروعه، وأعاد توزيع تلك الملكية على زبائن يحصلون على السكن كخدمة خاصة، ولن يتمتعوا في الشرط الراهن على الأقل بوضع مواطن محلي.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هل تختلف قصة أرض المتحف القومي ببور سعيد عن قصة أي أرض أخرى، أهدتها الدولة لمطور عقاري؟ بلى تختلف ببساطة، لأنها لم تكن أرض مملوكة ملكية خاصة للدولة قبل التصرف فيها لمطور عقاري، بل كانت أرض مخصصة للنفع العام، كما سبق أن أوضحنا. هذا الاختلاف جوهري بلا شك. قد يكون هذا التصرف “سابقة” إذ لا أعرف واقعة مشابهة له. وتضطلع الأجهزة المركزية مثل، هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة (التي انتقلت لها تبعية شمال قرية الديبة بغرض؛ عرقلة المساءلة البرلمانية، وتثبيت وضع تلك الأرض كملكية خاصة كبيرة)، وهيئة قناة السويس، فيما يخص أرض المتحف القومي بدور يجب لفت الانتباه لخطورته، خاصة عندما تمتد التصرفات في ملكية الأرض الواقعة داخل المدن، بل في أكثر المواقع تفردًا، إذ لدينا من المبررات ما يكفي للاعتقاد بصحة المزاعم التي تطالب بأن تكون كل الأراضي الواقعة في المدن، خاضعة للإدارة المحلية، ولا سيما مجالسها الشعبية المحلية التي تختص بموجب القانون بالتصرف في تلك الأراضي، بما يلائم الاحتياجات والأولويات المحلية الاجتماعية قبل الاقتصادية.
لقد كانت رحلة أرض المتحف القومي ببور سعيد من “المالك الأول” (الشركة العالمية صاحبت الامتياز) إلى “المالك الأخير” (زبون السكن المسور المعزول عن الجماعة المحلية) كاشفة لتطور علاقات القوة الاجتماعية بطريقة لافتة، وكأنها تحكي وحدها جانب من جوانب قصة الملكية في مصر. وتعكس بطريقة كاشفة عن عدم مشروعية تلك العلاقات، ومدى افتقادها للعقلانية الاجتماعية، ما التقطه الرأي العام في المدينة الاستثناء، وجعله زادا لحركته الواعية في المطالبة بوقف التصرف في الأرض، وإعادتها للغرض المخصص لها، وهو إعادة بناء المتحف القومي عليها. ولهذا يجب إنهاء تعدد [الدومين] العام في الدوائر المحلية، هو ما يتطلب تعديل معياري واسع النطاق في منظومة الدولة، وهو ما نسيمه سريان قانون اللامركزية الذي يتيح من وجهة نظري، تحول ديمقراطي ذو طابع جذري، يسمح للجماعات المحلية في السيطرة على شروط تجديد حياتها الاجتماعية.
إن ضخامة مصر، وتنوع أقاليمها المحلية، والاختلاف في أولويات تنمية الجماعات المحلية في طول البلاد، وعرضها يفترض إعادة تعيين الملكية العقارية في تلك الدوائر المحلية، أي إعادة تحديدها، سواء تلك الملكية المملوكة ’ملكية محدودة‘[5] للأفراد أو تلك المملوكة للدولة أو للأشخاص الاعتبارية العامة. وسيظل السجال الدائر في بور سعيد عبر مجالها العام السياسي (المحلي) حول الأرض، والملكية العامة والخاصة (وهو سجال يتسع لمناقشة مستقبل كل قطعة أرض يمكن أن تكون موقعًا لمشروعات الإسكان الاجتماعي، والتعاوني في مدينة ضاقت بسكانها) وما يرتبط بها من حقوق أبرزها الحق في السكن، والمدينة مصدر للأمل في أن هناك حراك اجتماعي ذي طابع محلي، يطالب بتعديلات معيارية في منظومة الدولة، وعلاقتها بالاقتصاد والحياة الاجتماعية، سوف يمهد لبزوغ نموذج الدولة الديمقراطية الاجتماعية حتى ولو تكن النخب المركزية في السلطة، والمعارضة غير واعية بهذا الحراك أو ملمة بسياقته.
-
محام بالنقض والدستورية العليا وباحث مهتم بالقانون الدستوري والنظم السياسية ودراسات القانون والمجتمع.
[1] See: Richard A. Debs, Islamic Law and Civil Code: The Law of Property in Egypt (New York: Columbia University Press, 2010)
[2] انظر: الجريدة الرسمية العدد رقم 201، بتاريخ 5/ 9/ 1963.
[3] المذكرة التفسيرية للقانون رقم 147، لسنة 1956، نقلًا عن: عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني: حق الملكية مع شرح مفصل للأشياء والأموال، ط. 1 ج 8 (بيروت: دار إحياء التراث العربي 1968).
[4] عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني: حق الملكية مع شرح مفصل للأشياء والأموال، ط. 1 ج 8 (بيروت: دار إحياء التراث العربي 1968).
[5] انظر لمزيد من التفاصيل عن مفهوم الملكية المحدودة: إسلام عوض عبد المجيد، وشيماء فؤاد كحله، ’ما وراء سر رأس المال: تأمل في إصلاح نظام شهر الملكية العقارية”مصر 360″ مايو 2022.