مقال اليوم الأول في السنة مُحيِّر، البعض يجعله جردة حساب عن عام مضى، وآخرون يريدونه نظرة أملٍ على سنةٍ جديدة، أما حديث السياسة فلا ينظر إلى رأس السنة كما يراها البعض بابًا للخروج من سنة مضت، وبوابة الدخول إلى سنة جديدة.
هي سنواتٌ تتتابع، من 2013 وحتى سنتنا الجديدة، يحملن نفس الجينات، وربما نفس الملامح، مع بعض التغيير الذي يُضيفه الزمن، أو نُضيفه نحن إلى الزمن، وربما تأتي طبق الأصل من سابقاتها، أو مجرد استكمال روتيني لها.
ونحن إذ يحدونا الأمل في أن يكون القادم أفضل مما مضى، لا ننسى -ولا يجب أن نتناسى- أن الحاضر هو ابن الماضي، وأنه أبو المستقبل، ويبقى أملنا في الله أن يخلف من ظهر 2022 ما يخالفها، ولا يكون مثلها، ومن ناحيتي أظن أن 2023 سوف تكون مغايرة، وربما تكون فاصلة.
لي موقفٌ مختلفٌ في مثل هذا اليوم، إذا صادف مقالي الأول في أول أيام السنة الجديدة، أهرب من حديث السياسة المباشر، ولكن لا أبتعد عنه كثيرًا.
**
لعل أهم حدث في ظل مجالٍ سياسيٍ مُغلق منذ سنوات، هو دعوة رئاسية إلى المعارضة للبدء في حوار سياسي وطني، بحسبان أن مصر وطن الجميع، وتتسع للجميع، وأننا جميعًا صرنا أمام أوضاع مأزومة على كل الأصعدة، نتيجة أزمة في الداخل معروفة، وأزمات تأتينا من الخارج مشهودة.
المعارضة في السياسة هي على الحقيقة معارضات مختلفة في المنهج والأسلوب والطريقة.
منها المعارضة الجذرية التي لا ترى أي إمكانية، أو أي أهمية لإجراء حوار سياسي مع نظام يقتل السياسة، ويسجن السياسيين، ويعادي أصحاب الرأي، ويغلق المجال العام بالضبة والمفتاح، ولا يترك هامشًا لحركة سياسية، ويقطع على القوى السياسة كل الطرق إلى تفاعلها واتصالها بجمهورها.
في مثل هذه الحالة ترى المعارضة الجذرية أن الحوار ليس إلا «مكلمة»، لا فائدة تُرجى من وراءها، ولا أمل في أن تنقلنا نقلة جديدة تسمح بالمشاركة الفعَّالة في صناعة القرار الوطني على أرض مصر.
مثل هذه المعارضة -كما أثبتت التجارب القريبة والبعيدة- تصطدم عادة بعناد سلطوي غشوم من أنظمة الاستبداد، وتجد نفسها في حالة تناطح مع صخرة العناد السلطوي، وينتهي بها الحال إلى مفارقة لا رجعة فيها بين النظام ومعارضته.
**
هناك نوعية أخرى من المعارضة تتلقف كل فرصة للتعاون، أو التعامل مع النظام الحاكم، تقف دائمًا في حالة استعدادٍ مستمرٍ للاقتراب، وتقريب المسافات، وردم الفجوات، يحدوها دائمًا الأمل في تحقيق أيَّ تقدم على الصعيد السياسي، ولكنها تجد نفسها في النهاية أسيرة عطاءات النظام، إن شاء أعطى واقترب، وإن أراد أبعدهم وتركهم في عراء الأمل الكاذب.
وهناك معارضة ثالثة بين الاثنتين.
معارضة لا تترك فرصة أتيحت بدون أن تحاول تعظيم إمكانيات نجاحها، وفي نفس الوقت لا تكون أسيرة هذه الفرصة، ولا شك أن الحوار الوطني جاء كفرصة لا يمكن التغافل عنها، ولا يجب أن تكبل حركة المعارضة أو تضعها في خانة لا تخرج منها إلا بشروط النظام.
هي ورطة على كل جانب من جوانب القبول بدعوة الحوار.
تجد المعارضة نفسها أمام موقفين أحلاهما مر، إن لم تقبل تنعزل، وتعزل نفسها، وإن قبلت تنخرط في لعبة لا تملك أن تتحكم في شروطها، وليس في يدها تحديد قوانينها وقواعدها، وفي النهاية تجد نفسها كالمعلقة، لا يُمسكونها بمعروفٍ، ولا يسرحونها بإحسان.
**
حديث المعارضة السياسية ونماذجها وأنواعها ذكرني بواحدة من طرق المعارضة كان يسلك دروبها باقتدار أديب مصر العالمي نجيب محفوظ، وله طريقة في ذلك تجمع بين كل هذه المعارضات في صيغة لم أر عبقريًا من المعارضين يفْري فَرِيَّـه من قبل، حتى صارت طريقة مسجلة باسمه.
لا يمكن وصف نجيب محفوظ في المجال السياسي إلا بأنه إصلاحي بامتياز، كان (يرحمه الله) أبعد ما يكون عن صفة المثقف الثوري، بل كان يعتبر استعداء السلطة نوعًا من الشطط يُخلف آثارًا سلبية دائمًا، والصدام مع الحاكم في نظره هو عمل خارج المنطق، وكل الذين اقتربوا من الأستاذ يعرفون أن محفوظ لم يكن يصرح علانية عن آرائه في مجريات السياسة، ولذلك ستجد أدبه ورواياته هي التي تحمل حقيقة رأيه.
لم ينتقد نجيب محفوظ حاكمًا يعتلي كرسي الحكم.
ظلَّ يأمل أن ينتصر جمال عبد الناصر على نظامه ويحد من سلطويته، وأيد أنور السادات في جوهر سياساته، وكان مبارك عنده حاكمًا ظلمته الظروف التي واكبت صعوده إلى سدة الحكم، ورث بلدًا منهكًا، يقوده الاستبداد، ويستولي عليه الفساد، وأنه وعى مشكلة وتجربة كل من عبد الناصر والسادات، وقدم نموذجًا للحاكم العادي الذي يتطلع إليه نجيب محفوظ.
**
نظر محفوظ إلى عبد الناصر باعتباره ناصرًا للفقراء، محققًا لهم ما حرموا منه طويلًا، ومع ذلك لم يغفر له ما يراه سلطوية الحكم في عهده، ولم يشفع للسادات عنده اتفاقه معه في الصلح مع إسرائيل، وتوجهه إلى بناء علاقات متوازنة مع الدول الكبرى، واتجاهاته الليبرالية، لم يشفع له كل هذا التوافق مع جوهر سياسات السادات أمام الردة على الديمقراطية، والانقلاب على وعوده بالحرية، والتخفف من مظاهر الاستبداد في الحكم.
بعد رحيل السادات كتب «يوم مقتل الزعيم»، و«أمام العرش» التي حاكم فيه حكام مصر منذ الفراعنة إلى أنور السادات، في تلك المحاكمة ستجد محفوظ في أصرح حالاته تجاه الحكام السابقين، ولكننا لا نستطيع أن نقطع بحقيقة رأيه النهائي في حسني مبارك، لأنه هو الذي سبقه إلى القبر، وغادر دنيانا قبل أن تتخلص مصر من حكم مبارك، لكننا نعرف على وجه اليقين كيف نظر إلى حكم من سبقوا مبارك على دكة الحكم طوال القرن العشرين.
**
«بوسعك أن تجد السياسة في كل ما كتبته»، هكذا قال لجمال الغيطاني وهو يحاوره، ولكنه كان بعيدًا كل البعد عن الانخراط في «المعارضة بالسياسة»، لكن يمكنك حسابه على «المعارضة بالأفكار»، فقد ظل طوال مسيرته الأدبية والفكرية منحازًا بدون لبس للديمقراطية، والتحديث، ورفض رفضًا قاطعًا تجريم الفكر، أو تقييده.
كانت فكرة المستبد العادل تثير غضبه على من يعتنقها، والذين يرددونها كالببغاوات.
كان يمتعض من الفكرة التي يروجها إعلام الصوت الواحد من أن «الرئيس» يجب أن يكون مستبًدًا ليقضي على المؤامرات والفتن، ويحقق الاستقرار، في رأيه أن الديكتاتورية لا تنهض بالأمة، وأنه لا يكفي لقيادة نهضة شعب أن تحبه، ولكن يجب أن تحترمه أيضًا، المستبد الذي يدعي محبة الشعب هو على الحقيقة لا يحترمه مهما ادعى عكس ذلك، وإلا فما كان ليفرض وصايته عليها، كأنه قاصر وما زال.
**
شارك نجيب محفوظ في بناء وعي مصر الحديث، وقاد ثورة ناجحة في مجال الابداع الروائي، ولكن تظل كتاباته خارج تصنيف الأدب كتابات عادية، وحتى العمل الذي خصصه لتقديم رؤاه في حكام مصر «أمام العرش» لا يمكنك تصنيفه في دائرة الابداع المتوقد الذي عرفناه عنه في سائر أعماله الابداعية، حتى أن البعض تساءل عن النوع الأدبي الذي ينتمي إليه مثل هذا العمل.
كثيرون ممن يتفقون على نجيب محفوظ الأديب، يختلفون على مواقفه السياسية، هو الذي نقد المعارضة لصالح السلطة، واعتبرها أحيانًا تشتط في تصعيدها، ومع ذلك ظل منحازًا لأن تمارس دورها بعد حرمان طويل، وتجارب مريرة، ومعاناة أليمة.
جامل نجيب محفوظ في السياسة، ولكنه لم يتنازل في الأدب.
كان يرى أن المعارضة في أسوأ حالتها، أفضل كثيرًا من الاستبداد في أحسن أحواله، وأنها وإن جاوزت الحد المسموح به، للحفاظ على استقرار الدولة، فهناك قضاء عادل يرد المتجاوز لحدوده.
كان الاستبداد عنده هو الداء الذي لا شفاء منه بغير نظام ديمقراطي حقيقي، وكان يرى أن أخطاء الاستبداد مثل الهزائم، والديون والفساد والإرهاب، لا أمل في إصلاحها، إلا مع زمنٍ طويل، وعناءٍ مرير، وتضحيات الشعب جيلاً بعد جيل.
**
مثل معظم المصريين كان محفوظ يتجنب السلطة، لا يتقرب منها، ولا ينافقها، إلا في الحدود الدنيا، وربما بعد ضغط وإلحاح، وهو إن فعل فمن منطقة «المسالمة» وتجنب ضررها، عاملاً بالحكمة الشعبية المصرية القائلة: «يا نحلة لا تقرصيني ولا عايز عسلك»، لم يكن يتوقع من السلطة خيرًا، فقط كان يتحاشى أن تلدغه.
تجنب محفوظ السلطة قدر ما أمكنه، وظل حريصًا على عدم الصدام مع رأس الدولة، في كل العصور التي عايشها، فالصدام مع الحاكم في نظره، عمل لا معنى له، ولم يكن يرى أية جدوى من استعداء السلطة، وكان يرى عاقبة هؤلاء الذين استعدوها.
وظل عازفًا عن الخوض في أي حديث مباشر في السياسة، أو التورط في تفاصيلها اليومية، يدفعه إلى ذلك حرصه على حماية نفسه وتجنبه صراعاتها من ناحية، وحرصه على أن يهيئ لنفسه الظروف اللازمة لاستمرار إنتاجه الأدبي من ناحية أخرى.
أقام محفوظ على الدوام «أسوارًا» صدت عنه الكثير من العواصف التي اجتاحت حياة كثيرين من المثقفين في جيله، والأجيال التالية، خصوصاً العواصف السياسية وتقلباتها وما يترتب على الانغماس فيها من مصاعب ومنغصات كثيرة إذا ما اصطدم رأي الكاتب بالسلطة، وكان يرى أنه في غنى عن ذلك كله، وأن كل إنسان مُيَّسرٌ لما خُلق له.
حضرت السياسة بالمفهوم العام لها في رواياته، وغابت السياسة بمفهومها الحركي اليومي وبتفاصيل صراعاتها الحزبية من حياته.
**
بدأت علاقته بالحياة السياسية مبكراً، تأثر أولاً بميول أبيه الوفدية، وتشرب منه حبه لزعيم الأمة سعد زغلول، كان يرى نفسه أحد براعم ثورة الشعب في مارس 1919.
عاصر انطلاقتها صغيراً، وكانت بحق أول تمرد شعبي واسع ضد الاحتلال والاستبداد، تجلت فيها الروح الوطنية بأوضح معانيها، واشتركت فيها طوائف الشعب كافة، وقد انخرط طلاب المدارس العليا والثانوية في موجة المد الوطني، وامتدت تلك الموجة إلى تلامذة المدارس الابتدائية بتحريض من طلاب المدارس العليا.
وكانت أول تظاهرة شارك فيها تلك التي اندلعت في ركاب الخلاف بين سعد زغلول والملك فؤاد في عام 1924، وكان عمر محفوظ يومها لا يتعدى 13 عامًا، وكانت المرة الثانية في عام 1929 أثناء حكومة محمد محمود الثانية، وطارده ضابط هو وصديقه فلاذ محفوظ ببيت الأمة، وكانت الثالثة ضد إسماعيل صدقي، وتعرض لمطاردة أيضاً لكنه هذه المرة لاذ ببيت في حارة ضيقة، وتمكن ـ بمساعدة إحدى نساء المنطقة ـ من الهرب إلى سطح بيت مجاور.
**
حرص دومًا على الابتعاد عن أية علاقة مباشرة مع المسؤولين السياسيين، ولم يحدث أن شارك في أي حزب سياسي، بما فيها «الوفد» الذي انتمى إليه وجدانيًا، واعتنق مبادئه وأفكاره، اكتفى بأن يعبر في رواياته عن رؤيته النقدية للواقع الاجتماعي والسياسي المصري على مر العصور.
ومن موقع المبتعد عن أية جماعة سياسية انتقد محفوظ النخبة السياسية الحاكمة في كل أعماله الروائية.
ما قبل ثورة يوليو في نظر محفوظ كان حكمًا أوتوقراطيًا، ولا يمكن اعتباره حكمًا ديمقراطيًا «كان ثمة ملك، وإنجليز، وشعب يمثله الوفد» صاحب الأغلبية الكاسحة، ومع ذلك لم يُمَكَّن من الحكم إلا ست سنوات طول الفترة من1924 إلى 1952.
ما يشده إلى تلك الفترة من تاريخنا الحديث هو ما يعتبره نجيب محفوظ حيوية سرت في بنيان الشعب الذي ظل يقاوم تسلط الاحتلال وسلطوية الملك، ولكن كان هناك دائمًا معه مجلس نواب، ومجلس شيوخ، وصحافة، وفي أسوأ الظروف كان ثمة قضاء مستقل وقدر من الحرية الثقافية، و«كانت في العصر مظاهر الحياة الديمقراطية وليس فيه ديمقراطية».
كان محفوظ يرى أن العيب الأكبر فيما قبل ثورة يوليو يتمثل في غياب البعد الاجتماعي، «لا يمكننا الدفاع عن الظلم الاجتماعي في تلك الفترة».
**
أقبل محفوظ على ثورة يوليو مؤيدًا ولكنه أعرض عنها فيما بعد ناقدًا، وبقي على ولائه الأول من دون أن يهتز أو ينقص، ويمكن أن تحسبه على يسار «الوفد».
كان بلا شك أكثر اهتمامًا بقضية العدل الاجتماعي، ولذلك ظل يشعر بالامتنان لنظام عبد الناصر بسبب إجراءاته الاقتصادية وما فعله للفقراء، ولكنه لم يغفر له إجراءات عدة رآها ديكتاتورية. ولم يكن على استعداد لأن يتغاضى عن القيود المفروضة على الحريات في سبيل تحقيق التقدم في مجال العدالة الاجتماعية.
وكان أكثر إدراكاً بدور الديمقراطية في تقدم الأمم، ومن هذا الإدراك تناول النظام السياسي في كثير من رواياته، وإن لم يتجاوز الخطوط الحمر التي يمكن أن تعرضه لمشاكل مع السلطة، يقول: «كنت أكتب بحرية تامة، ولكن لا شعوريًا أقف عند حدود معينة قبل الثورة وبعدها، رغم ذلك كتبت أمورًا أثناء حكم جمال عبد الناصر اعتبرها البعض ضرباً من الجنون».
**
تلك كانت ملامح عامة للطريقة المحفوظية في المعارضة، وأعتقد لو أنه بيننا اليوم لحرض السلطة على التحرك بجدية وحسن نية نحو تحقيق الكثير من مطالب المعارضة المحقة، في الوقت الذي يوصي فيه المعارضة ويشدد عليها بعدم قطع الحبل الممدود اليوم في الحوار الوطني.
لعل الله يُبرم لهذا الوطن أمر رشد، يُعيد صياغة الحاضر، ويتوجه إلى المستقبل، ويُخرجنا من هذا النفق الذي يكاد ينسد.