في رحلة البحث عن الخلاص، ينفصل البعض عن الأرض ويرتبط روحيًا بالسماء، فتكون له خصوصية وخروقات يتمتع بها دونًا عن غيره، وهي ما يطلق عليه “الكرامات”.
وعلى مدار عقود، كانت الكرامات تمثل جدلًا كبيرًا، ما بين مصدق بها، وبين مكذب، وما بين مغالى فيها وبين راصد لمعجزات، ورغم هذا الجدل، ظلت الكرامات في عقول الغالبية العظمى، حقيقة لا شك فيها.
وارتبطت “الكرامات” في العالم الإسلامي بالطرق الصوفية، التي تعتبرها شرطًا للولاية، ودليلًا على صلاح الأشخاص وتقربهم من الله، فيما تمنح الأولياء درجة الأنبياء في العصمة من الخطأ، والتسليم بكل ما يقولون، ويبقى السؤال من أين تأتي تلك الكرامات ومدى حقيقتها، وأبرز تلك الكرامات وأشهرها.
حقيقة الكرامات ومن أين تأتي
الكرامات في معناها العام، هي ظواهر خارقة للمعتاد، يتمتع بها بعض الأشخاص ممن عرف عنهم التقوى والصلاح والتقرب من الله، وتنفيذ أحكامه والالتزام بها.
والكرامات غير مرتبطة بدين معين، فلكل دين أولياء، ولكل ولي كرامات اُختص بها دون غيره من البشرية، فنجد كرامات لدى اليهودية، وكرامات بالمسيحية، وكرامات بالإسلام، وجميعها تشترك في أمر واحد وهو صلاح صاحب الكرامة، وتأتى الكرامة من الله سبحانه وتعالى تأييدًا لعبد، أو تثبيتًا أو نصرًا للدين، ويكتشف الولي وجود الكرامة لديه، والتي تكون خارقة للمعتاد، وتأتي على أشكال عدة مثل السير على الماء، وسماع الجماد، وشفاء المرضى، ورؤية الملائكة وإخضاع الجان
ومع مرور الزمان تم الربط بين الولي وبين الكرامة، فالشخص الذي لا يملك كرامات خاصة به لا يعتبر وليًا، خاصة عند الصوفيين، أما المُعتزلة فهم يُنكرون الكرامات ولا يقبلون بها إحكامًا للأية الكريمة “عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍۢ فَإِنَّهُۥ يَسْلُكُ مِنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِۦ رَصَدًا”، بينما يختلف الأشاعرة، فبعضهم يراها كذبًا، وآخرون يرونها حقيقة موجودة، ولكن يوجد مغالاة لدى البعض في سردها، كما ينكر الأشاعرة ربط الولاية بالكرامة، وأن الهدف منها تثبيت العبد على طريق الله، وكلما زاد التثبيت انتفت الكرامة، وأن الشخص الذي يسعى للكرامة، هو في الحقيقة ليس ولى، بينما الأساس في الولاية الاستحياء من الكرامة ومحاولة إخفاؤها
وذكر ابن خلدون في حديثه عن الكرامات، أنها أمر صحيح وغير منكر، وتعجب من إنكار بعض العلماء لها، وقال إن هذا ليس من الحق، فيما اعتبر ابن سيناء أن المعجزات والكرامات، تدخل ضمن القضاء والقدر، فهي صحيحة ومقدرة للبعض دون البعض الأخر.
حكايات من دفتر الكرامات
تتناقل الأجيال بعد الأجيال، قصص الأولياء والصالحين، التي لا تخلو من المعجزات والأمور الخارقة، ما جعلهم قبلة البسطاء والمرفهين، من الباحثين عن شفعاء لهم لدى السماء، لتحقيق الخلاص، ونيل أمانيهم.
وربما تحمل بعض تلك القصص، شيء من المغالاة، والخروق العظيم عن المعتاد، ما جعلها مثار شك من الرافضين للأمور الروحية، والموقنين بمفاهيم العقل، إلا أنها تظل دليلًا على وجود غير معلوم وغير مرئي، وعن قدرات لا ترتكن للأسباب في حدوثها، وعن خالق يمنح الفضائل بين يدي من يريد من عباده.
تعد قصة السيدة مريم، من أهم القصص المعبرة عن الكرامات، فهي الفتاة التي لم تكن نبية أو تحمل رسالة سماوية، ولكنها كانت عابدة متقربة من الله، ما جعلها من اولياؤه الصالحين، فمنحها كرامات اختصت بها دونما غيرها من النساء، مثل وجود الثمار لديها في غير أوانها، كما أنها حملت دون زوج، وعند ولادتها أًجرى تحتها نهرًا عذبًا.
من الروايات أيضا، السيدة رابعة العدوية، والتي تعد أهم نموذج نسائي بالطرق الصوفية، والتي كان لها العديد من الكرامات، نتيجة زهدها وتقربها من الله، ومن تلك الكرامات ما قبل عن دخول لصًا لغرفتها بغرض سرقة ملابسها، فبينما هي نائمة، حاول اللص الخروج من النافذة ومعه ملابسها، ولكنه كان يصطدم بحائط، وعندما يضع الملابس أرضًا يرى النافذة، وعندما يأخذها يرى الحائط، وظل هكذا حتى سمع صوتًا يأمره بتركها.
من كرامات رابعة العدوية أيضًا، أن سيدها قام يتجسس عليها وهي نائمة، فوجدها مستيقظة تناجى الله، وتشكو له ظلم سيدها، الذي رأى قنديلًا ينير فوق رأسها أثناء المناجاة، ولم يستطع النوم طوال الليل، وفى الصباح استدعاها ومنحها حريتها، وخيرها ما بين البقاء في منزله والجميع في خدمتها، أو الانتقال إلى المكان الذي تريد.
وهناك قصة الشيخة زكية، والتي تعد من أبرز الشخصيات النسائية في تاريخ الصوفية، وكانت من صعيد مصر، وتناقل روادها العديد من الكرامات التي كانت تتمتع بها، مثل تحويلها الجدران إلى ذهب بمجرد لمسها أو النظر فيها، بخلاف حديثها بلغات مختلفة لم تدرسها، وإتقانها لها، كذلك عرف عنها الظهور في عدة أماكن في وقت واحد
ومن النساء، ننتقل إلى رجال الكرامات، والذين تتعدد الروايات عنهم، وتحمل الكثير من الظواهر الخارقة للطبيعة، والمعتاد في عالم البشر، ومن تلك الروايات، ما قيل عن السيد البدوي، أحد أشهر مشايخ الصوفية، حيث قيل عنه أنه دعي الله بثلاث أشياء، فأجيب الأولى والثانية ورُفضت الثالثة، فأما الأولى فكانت أنه دعا الله أن يشفعه في كل من زار قبره، فقبل الله الدعوة، والثانية أن دعي الله أن يكتب لكل من زار قبره حجة وعمرة فقبل الله ذلك، أما الثالثة فكانت أن دعي الله أن يدخله النار، فلم تقبل دعواه، فسألوه لماذا، فقال لأنى لو دخلت النار فتمرغت فيها تصير حشيشًا أخضرًا .
من الروايات أيضًا والمذكورة في كتاب لواقح الأنوار في طبقات الأخيار والمعروف بكتاب الطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعرانى، قال عن شهاب التشيل أنه كان يمشى على الماء، ولا يحتاج إلى مركب وكان بوله كاللبن الحليب، وقيل عن إبراهيم الدسوقي أنه أنقذ طفلًا ابتلعه تمساح بأن أمر النيل أن يخرج التمساح الذي ابتلع الطفل وعندما ظهر التمساح أمره أن يخرج الطفل حيًا فنفذ الأمر، ثم مات.
كذلك قيل عنه أن أحد تلاميذه تعارك مع شخص، فاشتكاه لقاضي كان يكره الأولياء فقام بسجنه ولما استنجد بالدسوقي أرسل للقاضي ورقة فور وعند قراءتها خرج منها سهمًا استقر في صدره.
وعن المرسى أبو العباس، روي إنه كان لديه القدرة على قراءة ما يجول في الخواطر، دون أن ينطق صاحبها، فيما كان أبو الحجاج الأقصري صديقًا للخضر عليه السلام وكان الخضر دائم الزيارة له.
ومن كرامات الصحابة والتابعين ما قيل عن البراء ابن مالكم أنه إذا أقسم على الله بر قسمه، فيما كان سعد بن أبي وقاص مستجاب الدعوة، كما روت القصص أن العلاء بن الحضرمى أحد أمراء جيوش الإسلام، مشى على الماء هو وجنوده عندما اعتراضه البحر ولم يكن معهم سفينة، وقيل عن أبو مسلم الخولانى أنه وضع في النار فلم تحرقه.
وفى كتاب أدبيات الكرامة الصوفية، روى الكاتب محمد بدران عن الفنان يوسف وهبي تعرضه لكرامة من أحد الأولياء والذي كان مصاحبًا له في السفر، وبينما هم في طريقهم للصعيد، قام الرجل بإحضار مائدة طعام كبيرة للفنان يوسف وهبي من المطعم الذي يحبه، رغم أنهما كانا في القطار وقتها.
كما يروى الكتاب قصة لعبد القادر الجيلانى، والذي أنقذ المئات من الناس المتواجدين في ساحته، حيث خرج عليهم وطلب منهم ان يسرعوا إليه وما أن خرج جميع الناس حتى سقط سقف الساحة، فكانت كرامته السبب في إنقاذهم.
وفى كتاب للهولندي نيكولاس بيخمان، سفير هولندا الأسبق في مصر، والذي يحمل عنوان ” الموالد والتصوف في مصر”، ذكر وضع الكرامات في حياة المصريين، ورصد العديد منها، مشيرًا إلى أن راوى الأسطورة أو الخرافة حول الأولياء كأنه كان يتعمد أن يرويها وفقًا لاحتياجات الناس للخرافات والأساطير.
ونقل بيخمان رويات الناس عن ولى يسمى هريدى وله ضريح في الجبال ما بين أسيوط وسوهاج، إنه قام بشق البحر واختبا فيه للهروب من أعدائه، كما نقل عن ضريح الشيخ منصور والذي يمنح بركاته للمتزوجين حديثًا حتى ينجبوا أبناء في حين أن الشيخ نفسه لم يكن ينجب، ولكنها كراماته الخاصة في جعل المتزوجين حديثا ينجبوا الأطفال.
من الكرامات التي نقلها بيخمان عن الناس ما روي عن أحمد الرفاعى، من إنه من كثرة زهده وتعبده، ذاب في وعاء ماء، وقامت ابنته بالبحث عنه فلم تجد سوى نقطة سوداء بالوعاء، فأخرجتها ليتبين بعد ذلك إنها عين أبيها، كما نقل حكاية رجل يدعى الشيخ موسى بمحافظة أسوان، والذي قيل إنه كان يظهر بأشكال عدة، كما كانت له القدرة على عبور الماء على منديل، وإنه دفن نفسه.
ولم تتوقف حكايات “بيخمان” عند حدود أولياء وشيوخ الإسلام، بل والأقباط أيضًا، حيث كتب عن “الست دميانة” وهي قديسة يؤمن أهالي الصعيد أنها تتجلى لهم في صورة حمامة، يميزها رفرفة الأجنحة التي تتخذ شكلًا معينًا.
التكذيب بالكرامات
لم تكن كرامات الأولياء، أمرًا مستحبًا عند الكثيرين، ممن يرفضون الاعتراف بها، ويقصرون الأمور الخارقة على الأنبياء، مطلقين عليها المعجزات، مثل المعتزلة الذين يرفضون الاعتراف بوجود كرامات للأولياء، وأنها مجرد خرافات لا أساس لها من الصحة كذلك السلفيون، حيث يطلقون على الصوفية عباد الأضرحة، ويعتبرونهم فرقة مجانبة لمنهج أهل السنة والجماعة، ويرون أن أصل كلمة صوفية، تعود للتراث اليهودي، ولا علاقة لها بالدين، معتبرين كراماتهم خرافات.
ويدللون على أحاديثهم بما جاء في كتاب الطبقات للأشعرانى، من بعض الروايات مثل ما روي عن ولي يدعى إبراهيم العريان، من أنه كان يخطب الخطبة عريانًا، وشخصُ آخر كان يظهر جسده عاريًا عند خطبة فتاة، وهو الأمر الذي رد عليه الدكتور على جمعة، مفتي مصر السابق، والذي أكد أن الكرامات موجودة وإن كانت ليست غاية للأولياء، ولا يشترط وجودها في الولي، مؤكدًا أن مسودة كتاب الطبقات قد سرق باعتراف الأشعراني الذي تبرأ من الكثير مما يحتويه الكتاب، منها قصة إبراهيم العريان.
وهو ما يرفضه الباحثين عن المعجزات والخوارق لتلبية سؤالهم، والذين يؤمنون بكرامات الأولياء ومكانتهم الخاصة في السماء، ويرفضون التشكيك فيها، وكان ابن تيمية من أكثر المصدقين بكرامات الأولياء، حيث قال ” إن جزءًا من أصول أهل السنة التصديق بالكرامات”
وحول المكذبين بالكرامات يقول الشيخ عبد الخالق الشبراوى شيخ الطريقة الشبراوية، إن من ينكرها جاحد أو لا يريد خيرا بعباد الله الصالحين وأولياؤه، فهي أمر ثابت ثبوت قاطع من خلال القرآن والسنة النبوية، ومنها ما ذكر عن السيدة مريم ووجود الطعام لديها في غير أوانه، ومنها ما ذكر عن موقعة جالوت وطالوت، التي انتصر فيها الأول، بعد التبرك بقطعة خشبية من صندوق سيدنا موسى.
أضاف الشبراوى، أن من يكذبون بالكرامات لن يحجروا على فضل الله على عباده، فقد أعطاهم الله فضل الكرامة بينما الأنبياء لهم المعجزة والعصمة، ولا يمكن إنكار ذلك، خاصة إن الناس وهي لسان الحق سبحانه يشهدون للولي ويرونها بأنفسهم.