إهدار للموارد وإهمال على الطريق إلى الخصخصة
أوضحت في المقالات السابقة كيف غابت الرؤية عن استراتيجية شاملة للإصلاح، وكيف تنبع كل جهود الإصلاح من روشتة البنك الدولي. وتحدثنا باختصار عن الفساد في الهيئة وأن ما يسمى خطة التطوير هو خطة الخصخصة ومشاركة القطاع الخاص والأجنبي في إدارة وتشغيل المرفق وبعقود امتياز طويلة الأجل. والتطوير بالديون والتي يتحمل أعباءها المواطن البسيط الذي يستخدم السكك الحديدية في تنقلاته. وكيف أدت هذه السياسات إلى انخفاض استخدام الركاب، إضافة إلى تقلص نقل البضائع بالسكك الحديدية لصالح أصحاب المقطورات والجرارات. ولكن يبقي السؤال: ألم يكن هناك رأي للخبراء الوطنين في أزمة السكة الحديد وكيفية مواجهتها والخروج منها؟! ذلك ما نركز عليه في الحلقة الرابعة والأخيرة من هذه الدراسة.
عام 2016 نشر الأستاذ عصام رفعت في الأهرام مقالا بعنوان “فخ البنك الدولي في قطارات مصر” وجاء فيه “يحوم البنك الدولي حول السكك الحديدية ويربط بين منح مصر قرضا وبين إسناد إدارتها لشركة أجنبية منذ عام 2006 ثم عاد للظهور بقوة مؤخرا. وفي الأيام الأخيرة أطلق وزير النقل تصريحا بإسناد إدارة السكك الحديدية لشركة أجنبية لأننا وفق ما تداولته الصحف فاشلون، ثم حدث نفى من وزارة النقل، ولقد تعلمنا في بلدنا “أن النفي يؤكد ما قيل ولا ينفيه”. ويقول: لا يجوز إخفاء الحقائق عن الشعب إذ المؤكد أن وزارة التعاون الدولي نظمت لذلك ورشة عمل برئاسة الوزيرة وحضور وزير النقل ورئيس هيئة السكك الحديدية ووزير التنمية المحلية وخبيرين بقطاع النقل بالبنك الدولي، وبالتالي يصبح نفي الخبر أمرا مرفوضا. وهو يعيد إلى الذاكرة ما أثير عام 2006 من اعتزام البنك الدولي تقديم قرض لمصر قيمته 500 مليون دولار لإعادة هيكلة السكك الحديدية. ما يعنى باللغة العامية (حاططها في دماغه) ثم يعود الآن وبإصرار على ذلك.
يخلص عصام رفعت إلى: “التسليم بتردي السكك الحديدية وحاجتها إلى تغيير جذري شامل فإن هذا لا يعنى تسليمها لشركة أجنبية إن ما نحتاجه هو إدارة مصرية جيدة تمتلك إرادة التطوير والصيانة ورفع المهارة وتدبير التمويل وليكن بطرح سندات بالدولار والجنيه كما نجحت تجربة قناة السويس بدلا من الوقوع في فخ البنك الدولي والتفريط في واحدة من اهم ممتلكات الدولة والشعب”. (الأهرام 12 فبراير 2016)
رغم تحذيرات رفعت منذ 2016، فقد كشف الفريق كامل الوزير، وزير النقل، عن أنه لم يجد تعاونا كافيا من قيادات وموظفي هيئة السكك الحديدية منذ توليه مهمة حقيبة النقل، لتحقيق آمال الشعب في التطوير والتحديث في مرفق السكة الحديد، على الرغم من أنه قدم كل أنواع الدعم لهم للعمل على النهوض به. وأوضح كامل الوزير، في بيان صحفي، “أنه في حال استمرار هذا التكاسل والتخاذل سيقوم بالاستعانة بالشركات الأجنبية المتعاونة مع وزارة النقل في مجال السكك الحديدية، لإدارة وتشغيل خطوط هذا المرفق الحيوي المهم”. (الوطن – 23 يونيو 2021)
أما الأستاذ عبدالفتاح الجبالي، فإن له كراسة منشورة ضمن كراسات الأهرام الاستراتيجية إضافة للعديد من المقالات، ومنها مقال منشور عام 2015 بعنوان “روشتة علاج لمشكلات هيئة السكك الحديدية”. كتب: تجدر بنا الإشارة إلى أن الهيئة يعمل بها نحو 79410 موظفين وعمال، مع ملاحظة التدني الشديد في مرتبات العاملين بها خاصة السائقين.. ناهيك عن الظروف التي يعملون بها وما يتعرضون له من مخاطر بدنية وصحية جسيمة تتطلب سياسة علاجية معينة، وهو ما لا يتم حتى الآن.
تحدث أيضًا عن تآكل الأصول الحقيقية وارتفاع قيمة مصاريف الصيانة وتهالك وتقادم أسطول العربات وتناقص حركة البضائع عبر السكك الحديدية، ويضاف إلى ما سبق “وجود مجموعة كبيرة وضخمة من التخفيضات والتصاريح المجانية والامتيازات وعدم الاستغلال الأمثل لما تملكه الهيئة من أصول، وعدم تحصيل المديونيات المستحقة لها على الغير، مع تحميل الهيئة بالعديد من الأعباء الإضافية، وأخيرا وليس آخرا بعد الهيئة عن الرقابة الحقيقية”. وفي هذا السياق تم وضع العديد من خطط التطوير المستقبلية لهذا القطاع، وتكلفت ملايين الجنيهات، ولكنها لم تغادر الأدراج حتى الآن. عموما فإن الوضع السيئ الذي يوجد عليه مرفق السكك الحديدية، منذ فترة طويلة، يتطلب الإسراع بالعلاج، لأنه لا يؤدي فقط إلى الكثير من الخسائر المادية، ولكنه يؤدي بالأساس إلى الإضرار بأغلى ما تملكه مصر من ثروات وهي البشر.
ابحث عن الفساد في الهيئة؟!
عرضت الوفد لدراسة المركز المصري للحقوق الاقتصادية، أكدت أن “فساد السكة الحديد سبب الحوادث المتكررة”. ذكر المركز “أن عمال السكة الحديد قد بدأوا إضرابا تصاعديا للمطالبة بتطهير الهيئة القومية لسكك حديد مصر من الفساد، وإقالة مجلس الإدارة كاملا، والمطالبة بتطوير الهيئة التي حمّل العمال إدارتها الفاسدة المسئولية الكاملة للحوادث المتكررة”.
وأضاف المركز أن عمال الهيئة يحصلون على أجور هزلية مقارنة بباقي القطاعات الأخرى في الدولة مثل التعليم والصحة، رغم أن الهيئة، لديها العديد من الموارد المالية مقارنة ببقية القطاعات الخدمية في مصر، حيث يحصل العمال على 19% فقط من ميزانية هيئة السكك الحديد، رغم عملهم في ظل ظروف عمل ومعيشية صعبة ولمدد تصل إلى 24 ساعة في اليوم. (الوفد – 17 يناير 2013)
كذلك نشرت “النبأ” أن المستندات توضح ، وجود نية لعدم تطهير الفساد في السكة الحديد، خاصة بعد قرار الدكتور هشام عرفات، وزير النقل، بإصدار قرار وزاري بعودة “الطفل المعجزة” المهندس مصطفى أبو المكارم، ليشغل وظيفة رئيس مجلس إدارة الشركة المصرية، لتجديد وصيانة خطوط السكك الحديدية، رغم وجود كتاب الأمن القومي الذي يحمل رقم “49996” بتاريخ 15/11/2015، وصدر على إثره القرار الوزاري رقم 705 لسنة 2015، بتاريخ 16/12/2015، وتم نقله لشغل وظيفة مستشار “ب” في هيئة الموانئ البرية، ما يؤكد وجود شبهات أمنية حوله تتعلق بالأمن القومي.
ويتخوف صغار الموظفين في السكة الحديد، والذين يزيد عددهم على 72 ألف موظف، من عودة “الطفل المعجزة” للسكة الحديد؛ بسبب فصله عدد كبير من عمال الـ”55 يوم”، من العمالة المؤقتة، إضافة إلى وجود العديد من المخالفات الخاصة بعمليات شراء قطع الغيار، ومنها فضيحة سيارات “غبور” غير المطابقة للمواصفات، التي كبدت السكة الحديد ملايين الجنيهات، بخلاف فضيحة “شركة سالسيف” الإيطالية، ومحاسبته عن العقود التي تمت خلال توليه منصب رئيس الإدارة المركزية للمشتريات والمخازن، وبدلا من محاسبته، يتم وضعه في لجنة إعادة دراسة الجزاءات والتدريب في السكة الحديد، وهذه الخطوة هي المرحلة الأولى في خطة عودة مصطفى أبو المكارم، إلى السكة الحديد؛ لكي يتم تسكينه على درجة “نائب رئيس السكة الحديد لقطاع الموارد البشرية”، بخلو المنصب بخروج المهندس رضا أبو هرجة، نائب الموارد البشرية حاليًا، والمتحدث الرسمي للسكة الحديد، على سن المعاش منتصف نوفمبر 2017. (النبأ – أخطر 4 ملفات تفضح “الفساد والتلاعبات” في السكة الحديد- 7 أكتوبر2017)
أما التليفزيون الألماني فقد رصد أن الحكومة المصرية حشدت أموالا ضخمة بحجم يزيد على 16 مليار دولار لتمويل مشاريع المترو والسكك الحديدية وربطها ببعضها البعض. ويأتي قسم من هذه الأموال عن طريق عائدات وقروض محلية، أما القسم الآخر فسيكون على شكل قروض وتسهيلات من دول ومؤسسات مالية أجنبية على رأسها بنك الاستثمار الأوروبي الذي وافق إلى الآن على برامج تمويل في قطاع النقل بقيمة 1.1 مليار يورو، حسب وزيرة التعاون الدولي المصرية رانيا المشاط. ويثير إنفاق الأموال التي تم حشدها في مشاريع كبيرة كمشاريع السكك الحديدية شهية الفاسدين وما أكثرهم في الكثير من الإدارات الحكومية ومن بينها إدارات شبكة السكك الحديدية. وما إقالة مسؤولين كثر والتحقيقات التي شملت العشرات منهم خلال السنوات القليلة الماضية سوى بعض الأدلة على ذلك. وإضافة إلى الفساد تعاني هذه الإدارات من الفلتان والتسيب وغياب ثقافة الانضباط في العمل.
ومن هنا فإن السؤال المطروح: هل يتم إصلاح الإدارات بشكل يسمح بإنفاق الأموال على المشاريع بكفاءة عالية؟ وفيما عدا ذلك فإن قسما كبيرا من الأموال سيجد طريقه إلى جيوب الفاسدين وأعوانهم عن طريق صفقات شراء مستلزمات المشاريع بنوعية رديئة وتنفيذ العقود بشروط لا تلبي المواصفات المطلوبة. (DW – 7/12/2020)
إهمال ونقص في التمويل
عانى مرفق السكة الحديد لعقود طويلة من الإهمال ونقص التمويل. وفي عام 2019 نشرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية دراسة مهمة، تتبعت فيها تطور الإنفاق على السكة الحديد خلال ربع قرن من 1990 وحتى 2016.
خلال الفترة محل الدراسة، زادت النفقات الجارية والاستثمارية (مع استبعاد الديون)، من 1.47 مليار في السنة المالية 1990/91 إلى نحو 8.57 مليار في السنة المالية 2015/2016، بمعدل زيادة أقل من ستة أمثال، لكن القيمة الشرائية للجنيه في عام 1990 تساوي نحو تسعة جنيهات ونصف في 2016، أي أكثر من تسعة أضعاف. بذلك تبلغ القيمة الحقيقية لميزانية السكك الحديدية في 1990 حوالي 14 مليار جنيه (بأسعار 2016). يعني هذا باختصار أن الإنفاق الحقيقي على السكك الحديدية، باستبعاد خدمة الديون، انخفض في الربع القرن الأخير بنحو 39%.
وتعرضت الدراسة للمال المهدر في الهيئة من خلال قرض البنك الدولي. وجاء فيها: “حين تعاقدت هيئة السكة الحديد مع البنك الدولي في عام 2009 على إصلاح السكك الحديدية، اختارت تطوير خطين من القطارات المكيفة، وهي الخطوط التي يستخدمها الأغنياء. ثم لم تلتزم الهيئة بأيٍّ من بنود التطوير التي وقعت عليها لمدة تقترب من عشر سنوات، رغم أنها تلقت شرائح من القرض، بل وشرعت في سداده. وافق البنك الدولي على إعطاء مصر قرضا بهدف “إصلاح السكك الحديدية” في عام 2009 وبلغت قيمة القرض وقتها 270 مليون دولار. ثم زادت إلى أكثر من الضعف في 2017، لتبلغ 645 مليون دولار(10.1 مليار جنيه).
يمتد سداد أقساط القرض على ثلاثين عامًا، ويستحق السداد ابتداء من عام 2014 وبدأت الحكومة في تلقي دفعات القرض، ولكنها لم تشرع في تنفيذ أيّ مما نص عليه الاتفاق الخاص به، بحسب المراجعات التي تمت في عام 2013، ثم 2015 حتى نجحت في عام 2017 في مد فترة تنفيذ الإصلاحات المتفق عليها مع البنك الدولي إلى نهاية يناير 2019 ثم توصلت إلى مده إلى عام آخر، ليغلق القرض في عام 2020.
هكذا أكدت الدراسة انخفاض الإنفاق الحقيقي على السكة الحديد من ناحية والإهمال في استخدام القروض التي بدأ سدادها ولم تتم الاستفادة بها.
وفي مقال للأستاذة سلمي حسين عرضت لأهم التحديات الخاصة بسكك حديد مصر، كما تراها دراسة صادرة عن المركز المصري للدراسات الاقتصادية، منها عدم الاستغلال الأمثل للشبكة الكاملة من خطوط القطارات التي تربط بين كافة الموانئ المصرية، بسبب طول وتعقيد الإجراءات التي تدفع الشركات إلى استخدام الطرق السريعة. أو بمعنى أشمل، التحدي البالغ في زيادة حجم نقل البضائع عبر السكك الحديد والذي لا يتجاوز 1-3٪ من إجمالي نقل البضائع، في مقابل 19٪ في الدول المتقدمة. أو انخفاض معدلات الأمان على السكك الحديدية في مصر، وتقليص عدد الخطوط. أو قل ضعف التمويل، كما أشار الرئيس المصري. ويمكن إضافة البعد الإقليمي لتلك التحديات، مثل غياب شبكة خطوط حديد تربط بين الدول العربية، وبين الدول العربية وأفريقيا، من شأن إقامتها أن تضاعف التجارة البينية وتحسين الموارد الدولارية لمصر.
وتعرض سلمي حسين لقضية الخصخصة ودور البنك الدولي. تقول “وحين تقرأ دليل البنك الدولي لإصلاح السكك الحديدية، تلمح تغيرا في موقفه. فقد صار أكثر تواضعا في توصيته بالخصخصة كطريق وحيد لإصلاح السكك الحديدية، بعد أن دقت على رأسه الطبول. نعم، يصر البنك على أن التنافسية التي يخلقها دخول القطاع الخاص في نشاط تشغيل الخطوط والصيانة تجب مشكلات أخرى. إلا أنه أولا، يضع عدة مقترحات (درجات من الخصخصة والشراكة، مع ذكر عيوب كل نوع)”.
والأهم، صار البنك الدولي أكثر إدراكا لأهمية دور الدولة والذي أفرد له ثلاثة أبواب في الدليل. ويشدد على أن هذا الدور هو مفتاح النجاح في إصلاح السكك الحديدية. وهو إدراك حري بأن ينتقل إلى الدولة المصرية قبل أن تفكر في بيع سريع لهذه الأرض أو حق استغلال لهذا الخط أو ذاك. من تلك الأدوار الضرورية للدولة وضع القوانين، والرقابة على حساب التكلفة والتسعير، ويد قوية ضد الممارسات الاحتكارية، وضد التجنب الضريبي. وحين تقرأ تفاصيل تلك الأدوار في ضوء واقع السكة الحديد الحالي، تدرك أننا في مصر بعيدين كل البعد كمؤسسات عن القيام بالأدوار المنشودة.
فإذا كان هدف التوفير غير متحقق، وإذا كان التوسع في الخطوط غير مفيد للفقراء وغير ذي جدوى لنقل البضائع، والدور المطلوب من شبه الدولة أصعب من أن تقوم به في الوقت الحالي. وإذا كانت عشرات التجارب حول العالم باءت بالفشل، حتى استقرت معظم الدول على إبقائها في يدها، فلماذا تصر الحكومة على تكراره؟ (الشروق – 29 سبتمبر 2017)
هكذا عرضنا للعديد من الدراسات والمقالات لخبراء وطنين حريصين على تطوير السكك الحديدية ولكن بمواجهة الإهمال والفساد ووضع رؤية استراتيجية للتطوير بدلا من الاستسهال والاعتماد على القروض أو منح الامتيازات للشركات الأجنبية والمصرية. وكأن الخبير المصري والمهندس والعامل الذي أدار السكك الحديدية بكفاءة منذ أكثر من 167 سنة اختفي. ليأتي كامل الوزير متحدثًا عن الاستعانة بشركات أجنبية للإدارة، رغم أن الهيئة صنعت على مدى تاريخها الآلاف من الخبراء الوطنين المتميزين. ولكن للأسف يتم تجنيبهم وإزاحتهم لصالح الفاسدين وأهل الثقة.
رغم تعثر وفشل العديد من مشاريع خصخصة السكة الحديد في العالم ورغم تهدئة خطاب الخصخصة الذي طرحه البنك الدولي إلا أن الحكومة تصر على الاستمرار في نفس الطريق الفاشل. لم تدرس التجارب الدولية ولم تستخلص الخبرات ولا تملك رؤية استراتيجية متكاملة وتستمر في الاقتراض باسم تطوير السكة الحديد وتفتح الأبواب أمام القطاع الخاص ومشاريع المشاركة ومنح الامتياز لترتفع التكلفة التي يتحملها المواطن، دافع ثمن هذه السياسات الفاشلة. ويستمر وجع السكة الحديد يتزايد ويستمر الإصرار على السير في طريق الخصخصة والديون ولو على حساب خسارة مرفق حيوي من أقدم المشروعات في العالم. لكن كل ذلك يضيع في ظل حمي القروض وأطماع القطاع الخاص والفساد والإهمال. كل هذا ونحن نتحدث عن مرفق السكة الحديد فقط ولم نتعرض لمترو الأنفاق وشبكات الطرق والكباري، فذلك يحتاج لأحاديث أخرى.