منذ 25 عامًا، وفي 19 أبريل 1995، قاد اليميني العنصري “تيموثي ماكفي” شاحنة مفخخة بعبوة ضخمة وزنت حوالي طنيّن من المتفجرات، ثم تركها خارج مبنى “ألفريد مورا”، حيث كانت تقع مكاتب إدارة المباحث الفيدرالية (إف. بي. آي) في وسط مدينة أوكلاهوما، وغادر المكان، ثم فجر السيارة عن بُعد، فأحال المنطقة برمتها إلى جحيم.

sss

وقع الهجوم عند الساعة التاسعة ودقيقتين صباحًا، وأودى بأرواح 168 شخصًا كان من بينهم 19 طفلًا، وأصاب 680 آخرين، وأتى على ثلث المبنى المكون من 9 طوابق، كما دمر التفجير أو تسبب بأضرار في 324 مبنى آخر، وأحرق 86 سيارة، مسببًا في خسائر قُدرت بحوالي 652 مليون دولار.

 

الهجوم الإرهابي المروع خطط كل من “ماكفي”، وهو جندي سابق في الجيش الأمريكي، وصديقه اليميني المتطرف “تيري نيكولز”، وذلك انتقامًا من رجال المباحث الفيدرالية بعد أن شنوا حملة مسلحة للقبض على عصابات المتطرفين البيض المسلحة في ولاية تكساس.

 

واعتبر المراقبون تفجير “أوكلاهوما سيتي“، أكثر هجمات الإرهاب الداخلي دموية في تاريخ الولايات المتحدة، والهجوم الأخطر على الإطلاق في مسيرة اليمين الأمريكي، ما دفع إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون، الذي كان يحكم البلاد وقت وقوع هذه المذبحة، إلى إقامة متحف ونصب “أوكلاهوما سيتي الوطني” في مكان الحادث.

ومازال جموع الأمريكيين يتذكرون كلمات كلينتون حتى هذه اللحظة، حيث قال الرئيس الديمقراطي الأسبق أمام الجموع عشية الهجوم، إن الطريقة التي تعامل بها المجتمع المتضرر كانت مصدرًا للإلهام، وتابع كلينتون “أنتم ألهمتمونا بقوة تعافيكم وذكرتمونا بأننا جميعا يجب أن نحيا وفقًا لمعايير أوكلاهوما”.

 

الأفكار الرخيصة

يضم متحف “أوكلاهوما سيتي الوطني” سيارة الجاني تيموثي ماكفي من نوع «ميركوري ماركيز» موديل عام 1977، فضلا عن نسخة من رواية «يوميات تيرنر»، التي تحظى بشعبية كبيرة في أوساط المتطرفين اليمنيين، عُثر عليها في المقعد الأمامي للسيارة، وتحكي الرواية عن رجل عنصري أبيض يفجر بسيارة مفخخة مقر مكتب التحقيقات الفيدرالي، كما فعل “ماكفي” تماماً.

 

وأُدين “ماكفي” بارتكاب جريمة القتل العمد وجرائم أخرى أمام المحكمة الفيدرالية في عام 1997، وحُكم عليه بالإعدام قبل ثلاثة أشهر فقط من هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001.

وألغيت هذا العام فعاليات إحياء ذكرى الحادث بسبب تفشي وباء كورونا. وتم تسجيل القراءة السنوية لأسماء الضحايا بصورة مسبقة، إلى جانب الكلمات المصاحبة من جانب عدد من الشخصيات السياسية والعامة.

مؤلف كتاب “التفوق العنصري الأمريكي”: لقد نسي الشعب الأمريكي تلك الحادثة الرهيبة بسرعة عجيبة، وإنها من الروايات المؤلم للغاية تلاوتها

ويقول ديفيد نيورات، مؤلف كتاب “التفوق العنصري الأمريكي”: «لقد نسي الشعب الأمريكي تلك الحادثة الرهيبة بسرعة عجيبة، وإنها من الروايات المؤلم للغاية تلاوتها، فهي تتعارض مع كافة ما يطرحه الاستثناء الأميركي من سرديات لا لشيء إلا لأن المهاجم كان أمريكي الجنسية والمنشأ والموطن، ويفضل المواطنون الأميركيون الاعتقاد بأنهم أرقى من أن يخرج من بينهم من يفعل هذه التصرفات المشينة، بل إنها مقصورة فقط على الرجال من أصحاب اللحى والعمائم”!

من جانبه، يقول ديفيد هولت، عمدة أوكلاهوما: «أسمع، في البيئة السياسية الداخلية اليوم، أصداء خطابات يمينية متطرفة من النوع الذي أعتقد أنه كان مصدر إلهام لمرتكب الحادث المريع، وأعتقد أننا جميعاً مسؤولون عن معاودة النظر إلى أوكلاهوما سيتي، وإمعان النظر في الندبة الغائرة التي خلفتها الحادثة على وجه مجتمعنا، لكي نتذكر إلى أين تقودنا تلك الأفكار الرخيصة عندما يصف مواطنونا بعضهم بعضاً بالأعداء، وعندما نحاول تعزيز الانقسام والتشرذم والاختلاف بين أبناء المجتمع الواحد».

موجة جديدة من التطرف

من جهة ثانية، حذرت صحيفة “الإندبندنت” البريطانية في تقرير لها نُشر مؤخرًا، بعد مرور ربع قرن على العملية الإرهابية الكبرى، من أن الولايات المتحدة قد تشهد موجة جديدة من التطرف اليميني بعد 25 عاما من حادث أوكلاهوما الدامي، مشيرة إلى أنه خلال العام الماضي فقط، كان المتطرفون اليمينيون مسؤولين عن الغالبية العظمى من الهجمات الإرهابية وحوادث إطلاق النار عشوائيًا، مقارنة بعدد محدود من العمليات التي نفذها موالون لتنظيم “داعش” والمتطرفون ذوو الميول اليسارية في البلاد.

“الإندبندنت”: الولايات المتحدة قد تشهد موجة جديدة من التطرف اليميني بعد 25 عامًا من حادث أوكلاهوما الدامي

ورغم محاولات الرئيس الحالي دونالد ترامب الرامية إلى التقليل من التهديد المتصاعد لقوى اليمين المتطرف منذ توليه الحكم في البلاد، إلا أن كريستوفر راي، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، أكد للكونغرس في نوفمبر الماضي أن التطرف المحلي بات أشد خطورة من ذي قبلن قائلا: “سأقول لكم بصراحة إن غالبية حالات الإرهاب المحلي التي حققنا فيها خلال الفترة الماضية، كانت مدفوعة بقوة من قبل عقيدة ما يُعرف بعنف التفوق الأبيض”.

من جهته، قال مارك بيتكافيد، الخبير في شؤون اليمين المتطرف في الولايات المتحدة ومستشار رابطة مكافحة العنف، وهي مجموعة تراقب جرائم الكراهية: “نحن نواجه في عام 2020، موجة جديدة من التطرف اليميني المتعصب للعرق الأبيض والذي استفحل بعد انتخاب باراك أوباما في 2008”.

وأوضح بيتكافيد أن المتطرفين انقسموا إلى مجموعتين رئيسيتين: “المتعصبون البيض، والمناهضون للحكومة”. فبعد انتخاب باراك أوباما، أول رئيس للبلاد من أصل أفريقي عام 2008، لاحظ الخبراء زيادة في نشاط اليمين المنادي بـ “سيادة وتفوق البيض” على غيرهم من الأعراق البشرية، وهو الاعتقاد الذي يمثل حجر الزاوية في أدبيات جماعات اليمين الغربي عموما، أي الأوروبي والأمريكي معا.

وظلت هذه الجماعات خاملة إلى حد كبير طوال السنوات الثلاث الأولى من حكم ترامب، لكن العام الماضي شهد زيادة كبيرة في نشاطها، ويرجع ذلك جزئيا إلى ما يسمى بـ “قوانين العلم الأحمر” التي تسعى إلى السيطرة على عنف الأسلحة النارية، ومؤخرا في الاحتجاجات الغاضبة ضد أوامر الإغلاق التي فرضتها الدولة بسبب انتشار فيروس كورونا مؤخرًا.

باحثة في جامعة جورج واشنطن: تهديد المتطرفين اليمينيين ما زال نشطًا للغاية

وقالت جيجي ماكناب، الباحثة في جامعة جورج واشنطن وخبيرة شؤون الإرهاب، إن تهديد المتطرفين اليمينيين ما زال نشطًا للغاية، مشيرة إلى المخطط الإرهابي الفاشل في مدينة كانساس سيتي مؤخرًا، الذي كشفته وثائق المحكمة، والتي أظهرت اعتزام تيموثي ويلسون، 36 عامًا، الجندي السابق في الجيش، مهاجمة مستشفى كان يعالج فيه مصابون بوباء كورونا.

وذكرت تحقيقات “الإف بي آي” أن ويلسون، الذي قُتل بالرصاص في تبادل لإطلاق النار الشهر الماضي، في مواجهة مع عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي حاول إحداث فوضى كافية لبدء ثورة دموية، وذلك بعد غضبه من الإغلاق الذي فرضته الولاية نتيجة تفشي الفيروس. مع الإشارة إلى أن أشخاصًا مسلحين ينتمون إلى الجماعات العنصرية، هم الذين قادوا المظاهرات الأخيرة المناهضة لاستمرار سياسة الإغلاق في الولايات المتحدة.

وأخيرًا، يقول الكاتب الأمريكي أندرو غامبل، إن أهم الدروس التي يمكن تعلمها من “تفجير أوكلاهوما” هو أن رجال إنفاذ القانون الفيدرالي في ذلك الوقت قللوا من شأن تهديد اليمين المتطرف. واليوم، يجري أيضًا التقليل من شأن التهديد اليميني ذاته بنفس القدر أيضًا. علينا أن نأمل ألا يتطلب الأمر كارثة أخرى واسعة النطاق لفهم خطر تشجيع مزاعم “التفوق الأبيض”.