يشهد الشمال السوري حلقة جديدة من مخطط أردوغان للاستحواذ على المنطقة، حيث فرض العملة التركية بديلا عن الليرة السورية في التداول اليومي، وهذه ليست الواقعة الأولى من نوعها في المخطط الاحتلالي، فأردوغان يعتقد أن بإمكانه إعادة إمبراطورية أسلافه إلى الحياة، ونهب ثروات الدول المحيطة، وإعادة احتلال مناطق في الدول المجاورة وضمها لتركيا، كما كشفت الخرائط التي تُعرض مؤخرًا في وسائل الإعلام التابعة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، والتي تُظهر أن الحدود التركية وقد وصلت إلى حلب في سوريا والموصل في العراق، بل وأجزاء من أراضي اليونان وبلغاريا.

فرضت تركيا التعامل بعملتها الليرة التركية بدلا من العملة السورية، وهو الأمر الذي بدأ من سنوات التحضير له، من خلال دفع رواتب المرتزقة في الميليشيات التابعة لها بالعملة التركية بدلا من الدولار، وبعد احتلال شمال سوريا بدأت تركيا بضخ كميات كبيرة من العملة في ماكينات الصرف الآلي ومكاتب البريد التركية التي انتشرت في “المنطقة الآمنة”.

عضو المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية “أصلي أيدينتاسباس” اعتبر أن استخدام الليرة التركية في الشمال السوري هو مؤشر آخر على أن تركيا تعتبر هذه المناطق امتداداً لحكمها، وأن تواجدها سيطول هناك.

كما أشارت صحيفة “وول ستريت جورنال” إلى أن استبدال الليرة السورية بالليرة التركية يساعد أنقرة على دمج هذه الأجزاء في نسيج الاقتصاد التركي بشكل أكثر إحكامًا.

 

انهيار الليرة السورية

أرجع عمر كور، نائب رئيس المجلس المحلي لمدينة مارع “الوقعة في ريف حلب الشمالي”، سبب تحويل المدينة لعملتها من الليرة السورية إلى الليرة التركية إلى تدهور العملة السورية على مدار شهرين متصلين، معتبرًا أن العملة التركية أكثر ثباتًا وهو ما دفع المجلس لإصدار بيان موجه للأهالي بالتعامل بالليرة التركية.

وهو القرار الذي ترتب عليه تحويل المعاملات في شمال سوريا لليرة التركية لدرجة أن بعض محطات الوقود رفعت لافتات أعلنت خلالها أن التعامل بالليرة التركية فقط، كما سيطرت العملة التركية على جميع المعاملات داخل الشمال السوري.

 

اقرأ أيضا:

“التحقيق الدولية ” : مستويات “غير مسبوقة” من المعاناة والألم في سوريا

 

وساهم تسارع انهيار الليرة السورية في إقبال سكان المنطقة الشمالية المحتلة من تركيا على العملة التركية للحفاظ على قيمة مدخراتهم، خاصة بعد دخول قانون قيصر الأمريكي بفرض عقوبات على سوريا موضع التنفيذ، وهو ما دفع المحال التجارية إلى تغيير قائمة أسعارها لليرة التركية.

وكانت “الحكومة المؤقتة” التي عينتها تركيا قد أعلنت أنها طلبت من الأتراك تداول الليرة التركية في مناطقها لتدارك أزمة انهيار الليرة السورية والحفاظ على قيمة مدخرات المواطنين.

استعادة أمجاد الدولة العثمانية

الدكتور رشاد عبده، الخبير الاقتصادي ورئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية، أكد أن أردوغان يحاول استعادة أمجاد الدولة العثمانية، ويسعى لفرض الهيمنة على شمال سوريا من خلال ربطه اقتصاديا بدولته، والمرحلة الأولى هي ترك التعامل متاحًا بأي عملة من الثلاث “ليرة سورية أو ليرة تركية أو دولار”، وستعقبها مرحلة الإبقاء على العملة التركية فقط لتسيطر وتهيمن على المعاملات داخل الشمال السوري.

 

وأضاف في تصريحات خاصة لـ “مصر 360″، أن تركيا تُحول الحياة بالكامل في الشمال السوري لتبعيتها، فقد فرضت أيضًا مناهج التعليم التركية في المدارس، وتحولت أسماء بعض الشوارع إلى أسماء تركية، ونشرت شركة البريد التركية مكاتبها في المنطقة.

وأكد الخبير الاقتصادي أن وجود روسيا في المشهد حال دون قدرة أردوغان إعلان سيطرته على الشمال السوري علنيًا لذا يدار الأمر من خلال الاقتصاد، بربط الإقليم بتركيا من خلال البنية التحتية مثل الكهرباء والماء والبريد.

 

اقرأ أيضا:

سوريا : أطفال يتجمدون حتى الموت

 

وعن تأثير فرض العملة التركية في هذه المنطقة، أكد “عبده” “أن تركيا تعانى من أزمة اقتصادية معلنة، وهو ما جعلها تتحرك باحثة عن بدائل في دول الجوار مثل ليبيا التي يُستهدف فيها السيطرة على النفط، وكذلك الشمال السوري وما يمثله من إضافة للسوق التركية، مشيرًا إلى أن ما يقوم به أردوغان في المنطقة هو لعب بأوراق مختلفة مستغلًا ضعف بعض الدول، وبالطبع يقع الاختيار على الدول التي تحتوي على موارد كبيرة، بينما تجنب اليمن مثلا لكونه بلد فقير، كما ترفض أمريكا تدخله هناك لأهمية مضيق باب المندب لها، لافتا إلى أن أمريكا هي التي أعطت الضوء الأخضر لتركيا لدخول سوريا بعد سحب قواتها منها قبل العملية التركية بأيام، وأردوغان أحد أذرعها في المناطق التي لا تستطيع التواجد فيها”.

 

تغيير العملة

تُشكل العملة جزءًا من السيادة الوطنية للبلدان، وكما يقال في الاقتصاد “النقود ترسم الحدود”، والعملة جزء من الهوية والتكوين النفسي للمواطنين في كل بلد، وإن كان المواطنون لديهم كل العذر في محاولة الحفاظ على قيمة نقودهم، لكن الحكومة ليس لها ما يدعم مطالبها أو في الحقيقة تغطيتها للمخطط التركي في تغيير هوية الشمال السوري وترسيخ الأمر الواقع للاحتلال من خلال ربط المنطقة بالدولة التركية، وهو ما يصعب معه عملية التحرير والعودة الى الوطن السوري في حال انتهاء أزماته القائمة.

وأكد الخبراء أن ما حدث للعملة السورية يصعب تكراره في أي مكان في العالم، فالمخطط التركي نجح حتى الآن في الشمال السوري بسبب الدعم الأمريكي الهائل عبر “قانون قيصر” بفرض عقوبات على سوريا، وهو ما تسبب في انهيار العملة السورية، بالإضافة إلى وجود ميليشيات المرتزقة وجزء كبير منهم يدين بالولاء للإخوان المسلمين، وهم لم يعترفوا أبدًا في أدبياتهم بالهوية الوطنية، وتبنوا مبدأ الإسلام الأممي، وبالتالي تصبح تركيا “أردوغان” أقرب إليهم من بلدانهم وولائهم الوطني وهو المشهد المختلف عن جميع دول الجوار التي تطمع تركيا في الاستحواذ عليها.

 

رحلة السيطرة على الشمال السوري

سعت تركيا منذ بداية الثورة السورية في 2011 إلى تخريب نهجها الشعبي وعسكرتها عبر تجميع المرتزقة من كل دول العالم وتسليحهم والدفع بهم إلى الشمال السوري عبر الأراضي التركية، ميليشيات مثل “جبهة النصرة” التابع لتنظيم القاعدة و”فيلق الشام” الذي تأسس من اتحاد 19 فصيلًا إسلاميًا مقربًا من “الإخوان”، صنفت تنظيمات إرهابية من قبل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، سيطرت على مساحات واسعة من الأراضي السورية بدعم وتسليح من تركيا.

لم تتمكن الميليشيات الإرهابية التابعة لتركيا من إيقاف تقدم داعش حتى أصبحت تسيطر على كل المناطق المتاخمة للحدود السورية مع تركيا، واضطرت الولايات المتحدة إلى الضغط على تركيا للسماح لقوات “سوريا الديمقراطية” المكونة من الأكراد والعرب بالمرور إلى شمال سوريا لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، وهو ما نجحت فيه بكل شجاعة.

 

اقرأ أيضا:

فاتورة الدم السوري : قتل 13841 مدنيا في 64 شهرا

 

شكل تحرير الشمال السوري من داعش واستقراره تحت حماية مقاتلي “سوريا الديمقراطية” ضربة للمشروع التركي الاستعماري ومخططها لاحتلال شمال سوريا، ادعت تركيا وجود عناصر من حزب العمال الكردي الذي يتبنى “الكفاح المسلح” ضد القمع التركي للأكراد منذ عقود، والذي تصنفه تركيا فقط تنظيمًا إرهابيًا بينما تعتبره أغلب دول العالم حركة مقاومة للإرهاب التركي، وجعلتها ذريعة لشن عملية عسكرية ضد الشمال السوري بهدف احتلال منطقة أعلنت أنها ستكون بعمق 32 كيلومتر بطول الحدود السورية التركية البالغة 480 كيلومترًا، أطلقت عليها اسم “المنطقة الآمنة”.

لكن أهداف الاحتلال التركي لشمال سوريا سرعان ما بدأت ملامحه في الظهور بعد إعلان أردوغان خلال خطابه في الأمم المتحدة في جنيف “بأنه يريد حصة من النفط المستخرج في المنطقة، وأنه سيمول بهذه الحصة المساكن التي يريد إنشاءها في المنطقة الآمنة وعودة اللاجئين”.

 

تتريك الشمال السوري

وكشفت الإجراءات التركية في شمال سوريا عن مشروع “تتريك الشمال السوري” عبر المحاور التالية:

تغيير الطبيعة الديموغرافية للمنطقة من خلال توطين اللاجئين السوريين على أراضيها في مناطق الأكراد في الشمال بعد تهجيرهم منها قسريا تحت قصف المدافع التركية، ونقل اللاجئين القادمين من دول مثل تركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان وأذربيجان وأفغانستان، ليحدث بذلك تغييرًا سكانيًا جذريًا، وفقا لتقرير أعدته الاستخبارات التركية.

تحوي التركية إلى لغة التعليم الأساسي في مدارس المنطقة الآمنة بعد افتتاح عدد من المدارس بها.

إنشاء جدار حدودي بين المنطقة الآمنة وباقي الأراضي السورية في الحسكة وتل أبيض لفصلها عنها تماما كما حدث في عفرين.

طرح منتجات “المنطقة الآمنة” مثل الزيتون وزيت الزيتون في الأسواق التركية على أنها منتجات محلية وليست سورية.

ربط البنية التحتية بشبكة الخدمات التركية وفصلها تماما عن باقي سوريا كما حدث في شبكة الطرق والاتصالات وإقامة منطقة تجارة حرة مربوطة مباشرة بالسوق التركية.

 

مشروع أردوغان

تستغل تركيا الفراغ الذي سببه الانسحاب الأمريكي في المنطقة في ظل حكم ترامب، الذي يتبنى سياسة الاعتماد على وكلاء محليين للسيطرة مع الاكتفاء بالمشاركة في الكعكة بالصفات الاقتصادية وفرض حصة إجبارية للشركات الأمريكية في استغلال ثروات المناطق المستهدفة.

كما يستخدم “أردوغان” ورقة المهاجرين غير الشرعيين التي يبتز بها دول أوروبا المذعورة من موجات اللاجئين التي تقصد أراضيها من سوريا وليبيا، وهي ورقة أثبتت نجاحها من قبل في سوريا وتعمل الآن بنجاح في المثال الليبي.

وعبر الاستيلاء على الثروات النفطية والغاز في ليبيا وسوريا والعراق، تسعى تركيا لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي سببت تراجع قيمة العملة التركية بنسبة 40% من قيمتها منذ 2018 والتي قاربت على سبعة ليرات مقابل الدولار، بعد أن كانت قيمتها 3 ليرات للدولار في 2016، وانخفاض الاحتياطي النقدي من 81 مليار دولار في 2019 الى 51.5 في أبريل الماضي.

تحركات تركيا الاستعمارية دفعت مصر للتحرك لحماية الأمن القومي المصري الذي أصبح مهددا بعد نقلها لآلاف الإرهابيين إلى حدود مصر الغربية في ليبيا وتدخلها العسكري هناك، وهو الأمر الذي حذرت مصر من أنها لن تستطيع تجاهله، وأنها ستدافع عن أمنها ومصالحها في ليبيا بكل الوسائل، وأن لديها الشرعية اللازمة من خلال طلب البرلمان الليبي من مصر مساعدتها في مواجهة ميليشيات الإرهاب المدعومة من تركيا.