في منتصف شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري وعلى هامش مؤتمر عُقد في العاصمة الكازاخية أستانا، سار رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، بخطوات بطيئة -تتناسب مع تقدم عُمره- فاتحًا ذراعيه بحفاوة بالغة لتحية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي استقبله بنفس “الحفاوة” و”الحرارة الشديدة”، بتعبير وكالة الأنباء الروسية الرسمية (تاس).
وخلال اللقاء الأول بين الرئيسين منذ إعلان الحرب الروسية على أوكرانيا، أكد بوتين لنظيره الفلسطيني أن موقف روسيا من الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني “ثابت”، وأنه مبني على قرارات الأمم المتحدة. بينما أطلع “أبو مازن” نظيره على أبرز المستجدات في الساحة الفلسطينية وانتهاكات الاحتلال الإسرائيلي المستمرة. ذلك بالإضافة إلى حصار المدن والبلدات والمخيمات، واستهداف الأسرى في سجون الاحتلال، وفقا لوكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية (وفا).
قبلها بشهر تقريبًا، زار وفد من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) العاصمة الروسية موسكو بناءً على دعوة من وزارة الخارجية الروسية. التقى الوفد وزير الخارجية، سيرجي لافروف. وقد ضم إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي للحركة، ونائب الرئيس صالح العاروري ورئيس مكتب العلاقات الدولية، موسى أبو مرزوق، وعضو المكتب السياسي ماهر صلاح،
اقرأ أيضًا: حسين الشيخ: ملاءة خلافة عباس الواسعة
لم تكن زيارات “حماس” إلى موسكو بجديدة، ولكن ما استجد أنه ولأول مرة كانت المقابلة على صعيد هذا المستوى الوزاري، الممثل في لافروف. كذلك لم يكن لقاء “أبو مازن” مع بوتين بطبيعة الحال مستجدا. إذ كانت زيارته الأخيرة إلى روسيا في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي. وناقشا حينها “سبل إحياء العملية السياسية، خاصة وأن روسيا تؤمن بحل الدولتين القائم على الشرعية الدولية”.
ما استجد في الزيارتين أنها تمت على صعيد تمثيل من المستوى الأول لطرفي المعادلة الفلسطينية (هنية وأبو مازن)، وفي سياق تشتعل فيه الحرب الروسية على أوكرانيا، وتصل التوترات بين روسيا وإسرائيل لذروتها. وهنا يبدو أن الجميع يرغب في إيصال رسائله الدبلوماسية إلى كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، على اختلاف مواقعهم، ويبحث عن أوراق مقايضة كي تفيده في اللعبة السياسية.
وكانت موسكو بدأت قبل الحرب في أوكرانيا بسنين بمحاولات “لمنع استفراد واشنطن بملف القضية الفلسطينية”. واهتمت بالحفاظ على علاقاتها مع السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير. ولكن الأبرز كان فتحها قنوات اتصال مباشرة مع الفصائل الفلسطينية خاصة حركتي حماس والجهاد الإسلامي اللتين ترفض تصنيفهما حركتين إرهابيتين.
تصعيد من عباس وغضب في الولايات المتحدة
خلال اللقاء الذي جمع عباس وبوتين، أعاد الرئيس الفلسطيني التأكيد على عدم ثقته في واشنطن لحل الصراع مع إسرائيل وعبر في الوقت نفسه عن تقديره للموقف الروسي. وجدد دعمه لما يسمى باللجنة الرباعية (تضم روسيا والولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي) المعنية بالوساطة في مفاوضات السلام. لكنه قال إنه لا يمكن ترك زمام الأمور للولايات المتحدة لتتصرف بمفردها.
وقال، على هامش قمة مؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا (سيكا) “نحن فخامة الرئيس مطمئنون تماما لموقف روسيا تجاه الشعب الفلسطيني. روسيا تتمسك بالعدالة والقانون الدولي وهذا يكفينا”. وتابع “عندما تقول أنا مع الشرعية الدولية أنا أكتفي بهذا منك لأن هذا ما أريده. ولذلك نحن سعداء بالموقف الروسي وراضون عنه تماما”.
ولم يتوقف أبو مازن عند هذا الحد من التصعيد العلني، بل أشار “نحن لا نثق بأمريكا وأنتم تعرفون رأينا. إننا لا نثق بها ولا نعتمد عليها، ولا نقبل أن تكون أمريكا تحت أي ظرف طرفا وحيدا في حل مشكلة”. وأضاف “يمكن أن تكون ضمن الرباعية لأنها دولة عظمى، لا مانع، لكن أن تكون وحدها فهذا لن نقبل به إطلاقا”.
اقرأ أيضًا: “عرين الأسود”.. قصة تنظيم أحيا روح المقاومة في نابلس
وتتناغم تصريحات عباس مع التقارير التي أشارت إلى غضبه وإحباطه من موقف الإدارة الأمريكية خلال زيارة الرئيس جو بايدن إلى بيت لحم في يوليو/تموز الماضي، وعدم دفعها نحو أي مسار سياسي مع الاحتلال يبعث أمل حل الدولتين.
تصريحات رئيس السلطة الفلسطينية تردد صداها في البيت الأبيض. إذ قال متحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي لموقع “أكسيوس” إن البيت الأبيض “يشعر بخيبة أمل شديدة” وأن بوتين “بعيد كل البعد” عن نوع الشريك الدولي المطلوب للتصدي بشكل بنّاء للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. فيما ذكر مصدران أمريكيان أن مسؤولي إدارة بايدن غاضبون وأوضحوا ذلك لمستشاري عباس.
ويشير الموقع الأمريكي إلى الصورة الكبيرة، وهي أن الجمود الدبلوماسي في عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية يؤدي إلى تآكل شرعية عباس، في الوقت الذي لم تسفر زيارة بايدن عن أي نتائج سياسية. وتتصاعد التوترات بين إدارته والقيادة الفلسطينية وسط تصاعد العنف في الضفة الغربية المحتلة.
وتعود جذور العلاقات الرسمية بين موسكو (الاتحاد السوفييتي سابقا) ومنظمة التحرير (ممثلة في حركة فتح المسؤولة عن السلطة حاليا) إلى ستينيات القرن الماضي حين اصطف السوفييت إلى جانب العرب في الصراع مع إسرائيل.
وفي عام 1976 افتُتحت في موسكو ممثلية لمنظمة التحرير، ثم سفارة بعد إعلان الاستقلال الفلسطيني عام 1988، حيث كان جميع الممثلين الفلسطينيين في موسكو “فوق العادة وكاملي الصلاحيات” وكذلك الممثلين الروس لدى منظمة التحرير الفلسطينية. وفي عام 1990 أعلنت موسكو رفع مستوى تمثيل ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية إلى درجة سفارة.
حماس والبحث عن تطوير العلاقات
رحبت “حماس” بشكل شبه فوري بالحرب الروسية على أوكرانيا، واعتبرتها “بداية لنهاية عهد الهيمنة الأميركية المنفردة على العالم، وتأسيس لعالم متعددة الأقطاب”، وفق مسؤول العلاقات الدولية في الحركة موسى أبو مرزوق.
وكان أبو مرزوق زار موسكو في مايو/أيار الماضي، حيث قال إن “العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا دشنت مرحلة تصبح فيها الشعوب المظلومة قادرة على التحرر من استغلال النظام العالمي القديم”. وأوضح أن “تغيير النظام العالمي الحالي سيكون انعكاسه أفضل على الشعب الفلسطيني”.
تعود جذور علاقة الحركة بروسيا إلى ما قبل عام 2006، خلال تواجد حماس في العاصمة السورية دمشق، قبل أن تتطور بشكل واضح مع فوزها في الانتخابات التشريعية في قطاع غزة خلال الفترة ما بين 2006 و2007. وتواصلت الزيارات واللقاءات بين الحركة والمسؤولين الروس في قطر وكذلك في موسكو إلى جانب استضافة مؤتمر جمع الفصائل بهدف الاتفاق على رؤية مشتركة للخروج من الانقسام.
وقد قال إسماعيل هنية رئيس الحركة إن زيارته الأخيرة متعلقة بعدة أسباب “البُعد الأول متعلق بالقضية الفلسطينية وطبيعة الصراع المحتدم مع الاحتلال الإسرائيلي، والثاني متعلق بالمنطقة العربية والإسلامية ومحاولات تشكيل ناتو شرق أوسطي، والثالث يتعلق بالمسرح الدولي وما يجري فيه من أحداث كبرى”.
اقرأ أيضًا: الجزائر في جولة مصالحة فلسطينية جديدة.. تحقيق منجز أم رغبة في الظهور؟
وأعرب عن ارتياحه للقاء الذي جرى مع وزير الخارجية لافروف ونائبه، معتبرًا إياه فرصة للتشاور والحوار المعمق مع الدبلوماسية الروسية، مؤكدًا أن العلاقة بين الشعب الفلسطيني وروسيا حتى منذ الاتحاد السوفييتي هي علاقة راسخة وقوية ومستقرة، وأن روسيا دائمًا تقف إلى جانب الحق الفلسطيني.
“خلال أقل من أربعة أشهر، استضافت موسكو وفدين من حركة حماس باعتبارها لاعبا مهما في المعادلة الفلسطينية. وهو عامل لا يمكن فصله عن التوتر الروسي الإسرائيلي”، يقول مركز “رؤية للتنمية السياسية“.
ومنذ بدء الحرب على أوكرانيا، تصاعد التوتر بين تل أبيب وموسكو. إذ عبّرت الأخيرة عن استيائها من الدعم الإسرائيلي لأوكرانيا واعتبرته مهددا للعلاقات بين البلدين. وردت عليه بإغلاق الوكالة اليهودية في موسكو، وتقييد الضربات الإسرائيلي على سوريا، والتي كانت تتم بتنسيق بين الطرفين. هذا إلى جانب الدور المهدد التي تلعبه إسرائيل لروسيا فيما يخص كونها بديلا لإمدادت الطاقة الروسية إلى أوروبا.
الرغبة في تقليص الدور الأمريكي
يرى مدير عام مؤسسة فيميد للإعلام، إبراهيم المدهون أن “حماس” تتطلع إلى توسعة الدور الروسي في القضية الفلسطينية “كي تقلّص من تغوّل الدور الأمريكي في القضية”. وإلى “وجود دور روسي أكبر في القضية للضغط على الاحتلال ووقف انتهاكاته”. وهو ما يبدو أنها تتفق فيه مع السلطة الفلسطينية.
“روسيا لاعب مركزي في الشرق الأوسط، نتيجة علاقاتها المباشرة مع جميع اللاعبين في المنطقة: إسرائيل، مصر، السلطة الفلسطينية، حماس، وإيران. في حين أن مثل هذه العلاقات غير موجودة في الجانب الأمريكي ليقوم بدور الوسيط الحيادي”، يشير الكاتب ماهر الحلبي.
لكن الكاتب الصحفي محمد أبو الفضل يعتقد أن حماس لا تريد الارتماء تماما فى أحضان موسكو من منطلق يقينها من التأثير السلبى لهذه الخطوة فلسطينيا وعربيا وإسرائيليا ودوليا “فقد تجلب من كل الوجوه قلقا لها، وتفقد الحركة علاقات راكمتها من خلال براجماتيتها الكبيرة مع جهات متعددة”.
ما يجعل الزيارة الأخيرة -بحسب أبو الفضل- أقرب إلى حملات العلاقات العامة التى تريد منها الإيحاء بامتلاك أوراق دولية مؤثرة، لأن حماس مثل غيرها تعتقد أن هذه فترة رواج لسوق موسكو والمتاجرة السياسية فيه لمواجهة ضغوط يمارسها الغرب.
اقرأ أيضًا: كيف تتصرف أمريكا لو استخدمت روسيا النووي في أوكرانيا؟
ويظن تحليل لصحيفة “العرب” اللندنية أن حماس تريد توصيل رسالة تفيد بأن زيادة انفتاحها على إيران يقود أيضا إلى انفتاح مواز على روسيا (وبالتبعية دمشق التي استعادت الحركة علاقاتها معها) “ما يُعقّد مهمة الإدارة الأميركية في التعامل مع بعض قضايا المنطقة، والتي يمكن أن تتسرب من بين يديها إذا استمرت في تجاهل الحركة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي تتقاطع مع العديد من الأزمات الإقليمية”.
بينما يلفت مركز “رؤية” إلى جانب آخر متعلق بشؤون الغاز والطاقة. إذ “تقدم حماس نفسها على أنها الرافض الأبرز لأي مشاريع تعاون مع الاحتلال في مجال الطاقة على المستوى الإقليمي؛ لما تراه غازا مسروقا من قبل الاحتلال، وأن الأخير يحرم الشعب الفلسطيني من الاستفادة من ثرواته”.
كما أن حماس تطرح نفسها على القيادة الروسية، باعتبارها قوة ناعمة ولها حضور وتأثير كبير في العالم الإسلامي بشكل عام والجمهوريات المسلمة في روسيا الاتحادية على وجه الخصوص.
إذ تعتبر موسكو أن الجمهوريات المسلمة وشعوبها في الداخل الروسي؛ هم بمثابة حلقة وصل بينها وبين العالم الإسلامي. وهذا ما يبدو أن روسيا قد قرأته -والحديث لا يزال للمركز البحثي الفلسطيني- من خلال تسهيل عقد لقاءات بين وفد حماس، وزعماء جمهوريات مسلمة في الاتحاد الروسي. وهو ما يحدث لأول مرة في تاريخ العلاقات بين الجانبين.
روسيا وتعزيز الأوراق
“الروس يعتقدون أن (يائير) لابيد -رئيس الوزراء الإسرائيلي- هو ألعوبة في يد الأمريكان إلى جانب وجود شواهد لدى الروس عن مشاركة مرتزقة إسرائيليين في العمليات العسكرية في أوكرانيا إلى جانب محاولات استقطاب المزيد من المهاجرين الروس”، يلفت الباحث والمختص في الشأن الروسي علي البغدادي.
ووفقًا للبغدادي فإن المرحلة الحالية من المستبعد أن تشهد عودة العلاقات بين موسكو والاحتلال لسابق عهدها مع غياب الشواهد على ذلك، في ظل الشرخ الكبير الحاصل في العلاقات.
بينما يشير المختص في الشأن الفلسطيني، ساري عرابي، إلى أن العلاقات الحالية تندرج في إطار التحولات الإقليمية الجارية. فروسيا تقاتل لخلق نوع من التغيير في النظام الدولي، وهي تدرك أن إقامة علاقة مع الفصائل الفلسطينية، ولا سيما حماس أمر مهم في محاولة تعزيز أوراق قوتها.
ويضيف عرابي “هناك تراجع في العلاقات الروسية الإسرائيلية ولكن لا ينبغى التوهم بأن التراجع كبير، فروسيا ما تزال ملتزمة بالقواعد في الملف السوري بدليل أن الاحتلال يقصف سوريا دون أن تتدخل موسكو حتى بتشغيل منظومة s300”. وبحسب عرابي فإن ما يجري حاليًا هو نوع من الاستكشاف والنكاية بالاحتلال الإسرائيلي.
ولم تتراجع موسكو عن مواقفها في تأييد حل الدولتين والموقف من وضع مدينة القدس. وهو ما برز في إدانتها الشديدة لقرار واشنطن نقل سفارتها عام 2018، مما جعلها طرفا إيجابيا ولاعبا مهما بنظر الفلسطينيين.
يقول “معهد الدراسات العربية الأوراسية” إن الدور الروسي النشط على الساحة الفلسطينية، وارتباطه بقضايا أمنية تهم إسرائيل وداعميها من القوى الدولية، يشكل ورقة مقايضة لروسيا في ملفات أخرى تهمها في المنطقة، وفي محيطها السوڤيتي السابق.
وبينما تعتقد موسكو أن القيادة الفلسطينية المقبلة ستكون تشاركية ولن تعتمد على زعيم واحد، على الأقل بالمرحلة الأولية حتى يتمكن طرف ما من فرض زعامته. فإن هذا يفسِّر انفتاحها على الجميع، ليكون لها تأثير ونفوذ لدى أي قيادة مستقبلية للشعب الفلسطيني.