في سبيل مختلف عما قدمه المسرح التقليدي، أُنشئ المسرح العمالي أو “مسرح العمال”، بهدف تنمية الوعي ونشره بين صفوف الطبقة العاملة. كما استهدف دفع عجلة الإنتاج، إلى جانب دوره الترفيهي. كما عالج بوعي قضايا حقيقية ارتبطت بهموم قطاع العمال، ومشكلاتهم.

وفي مسرح العمال، يمكن أن يصبح العامل ممثلا ومتفرجا، وتصبح خشبة المسرح كـ”ساحة المصنع”، مساحة للتعبير عن آراء وقضايا وهموم العمال. كذلك يدفع المسرح العمال للمطالبة بالحقوق والدفاع عن قضاياهم، يدفعهم كذلك إلى الوقوف ضد أي انتهاك يٌمارس ضدهم.

اقرأ أيضا.. من دفتر “الرزق المجهول”.. عمال اليومية.. ملايين لا تعلم ماذا تكسب غدا أو بأي أرض تجوع

يتصل المسرح العمالي بهموم العمال وقضاياهم، الاقتصادية والاجتماعية، يقيمون المسرح، ويعدون إضاءاته، يكتبون مسرحياته ويمثلونها، ينهون ورديات العمل الخاصة بهم ويطيرون سريعا إلى خشبة المسرح يتدربون على الإلقاء والتمثيل. ثم عند العرض يسحبون بأيديهم ستارة المسرح الحمراء.

يضم المسرح العمالي كتابا ومخرجين تناولوا القضايا العمالية وقدموها للجمهور بشكل سهل ومبسط، ومن خلاله سلطوا الضوء على هموم العمال. من هؤلاء الشاعر والكاتب المسرحي فؤاد حجاج والكاتب أبو العلا عمارة، وهم الأكثر تناولا لقضايا ومشكلات العمال، نظرا لعملهما وخبرتهما السابقة في المواقع العمالية.

وشهد المسرح العمالي رواجا منذ منتصف الخمسينيات مع تأسيس هيئات عمالية، ونوادي ومؤسسات تثقيف. بينما تراجع مع سياسات الانفتاح الاقتصادي وخصخصة الشركات العامة، تقلصت الأنشطة وأخذ في التلاشي حتى انتهى تقريبا، ليبقى مجرد نشاط هامشي وتنافس بين الشركات لكسب الجوائز.

بداية قوية

مسرحية النساجون

كانت أول مسرحية عمالية حقيقية ذات تأثير اجتماعي في بيئتها وزمنها، مسرحية “النساجون”، عام 1881، وهي عمل للكاتب الألماني جيرهارت هاوبتمن والذي حصل على جائزة نوبل في الآداب. ومثلت أعماله صرخة على المسرح في مواجهة قسوة الرأسمالية الألمانية آنذاك.

بُنيت مسرحية “النساجون” على مشاهد تصور صراع عمال النسيج في مواجهة استغلال ملاك المصانع، ترصد الظلم والإجحاف الواقع عليهم، وهو ما جعلها عملا مسرحيا رائدا في معالجة قضية الصراع الاجتماعي. كما دفعت قوة المسرحية السلطات إلى منع عرضها.

خلال عشرينيات القرن الماضي انتقل المسرح العمالي إلى مرحلة جديدة، أخذ يمتلك نظرية جمالية واعية، ورؤية مستقبلية تطرح الاشتراكية كحلم إيجابي يحقق الخلاص للعمال.

في أمريكا تصدى المسرح العمالي بشجاعة لمأساة التفرقة العنصرية، كما ناقش بقوة ما يعانيه الملونون والمهاجرون الأوروبيون. فقد تناولت مسرحية (آلة البرق) عام 1930 التي مثلتها فرقة عمالية أمريكية في لوس أنجلوس، أجواء المحافظة الفكرية والقمع السياسي الذي تزامن مع تخوف أمريكي من غزو الفكر الاشتراكي عقب انتصار الثورة الروسية، خاصة مع تفاقم البطالة والأزمة الاقتصادية العالمية.

المسرح العمالي المصري

بدأ الاهتمام بتأسيس منظمات عمالية منذ بداية الخمسينيات، أُنشيء نادي للعمال عام 1953 ومكتب للعمل بالاتحاد القومي عام 1960. بينما أُنشئت المؤسسة الثقافية الاجتماعية العمالية عام 1961 ومعها تأسس مسرح للعمال بحسب ما تشير الكاتبة المسرحية نهاد صليحة في كتابها “ومضات مسرحية”.

لم يكن يخلو مصنع أو شركة من فرقة مسرحية لها جمهورها، علاوة على تميز بعض الشركات بوجود قاعات مسرح مجهزة تقنيا كما في شركة المحلة الكبرى للغزل والنسيج، تزامن هذا النشاط مع المشروعات الصناعية الكبرى.

المسرح أداة للتعبير

الكاتب المسرحي نعمان عاشور

تعد مسرحية “ساعة إخلاص” للسيد فرج أبرز المحطات كعمل مسرحي عمالي خالص، وهي نتاج مسابقة أعلنت عنها المؤسسة الثقافية العمالية عام 1964 لتأليف مسرحيات تعالج موضوعات بروح ثورية.

واختار المؤلف حي السبتية قلب القاهرة الصناعي (أحد الأحياء العمالية المهمة في تلك الفترة) مكانا لها، وقدمت فرقة غزل كفر الدوار مسرحية (أمل مصر) من تأليف السيد سالم وإخراج عبد الله سعيد، وهما عاملان في شركة الغزل والنسيج، بحسب ما جاء في كتاب “العمال والمسرح”.

كتب العديد من المبدعين المصريين حول قضايا العمال، أو ما يمكن وصفها بـ”المسرحيات العمالية”، من ضمنهم نعمان عاشور في مسرحيتيه (وابور الطحين) و(بلاد برة).

وكتب محسن مصيلحي مسرحة “آدي البيضة” عام 1994، على خلفية عمالية حقيقية وارتباط أصيل بالعمال في منطقة شبرا الخيمة بالقاهرة، والعمل يتناول قضية خصخصة وبيع شركات القطاع العام، بينما كتب أبو العلا عمارة مسرحية “التفتيش النهائي” عام 1995 قدم خلالها صورة واقعية ساخرة لحياة العمال بالشركات والمصانع. كذلك كتب فؤاد حجاج مسرحية “وبعدين” عام 1996 عالج نصها مشكلة الغربة لعمال التراحيل.

الانفتاح والخصخصة

اُسُتخدم المسرح بالأساس كأداة للتعبئة الاجتماعية والسياسية من خلال حركة العمال التي ظهرت في حقبة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي للتصدي لسياسات الرأسمالية وتوحشها. كذلك ليطرح بديلا فنيا وفكريا معارضا ومناهضا للمسرح الرأسمالي التقليدي.

وترى نهاد صليحة: “أن المسرح العمالي هو المسرح المعارض للمسرح الرأسمالي، فالأول يعبر عن الفئات المهمشة فكريا وفنيا واجتماعيا واقتصاديا. ويخرج إبداعها المعارض إلى الجمهور”. لكن في مصر السبعينيات ومع إقرار سياسة الانفتاح الاقتصادي متزامنا مع تهديد الصناعة الوطنية كان لابد من نزع أهم أداة تعبيرية ونضالية للعمال ألا وهو المسرح، من خلال الإهمال تارة وتحويل الاهتمام إلى قضايا اجتماعية عامة تارة أخرى.

ومع إقرار سياسات الخصخصة في مصر التسعينيات بإتمام صفقات بيع مصانع القطاع العام وشركاته، بدأ المسرح العمالي في الخفوت تماما بالتبعية وهذا ماعبر عنه الخبير العمالي والنقابي صلاح الأنصاري. إذ قال إن المسرح العمالي كان أهم أدوات النضال والتعبير عن هموم ومشكلات العمال.

يقول الأنصاري: “كان هناك فرقة مسرحية في نادي الحديد والصلب وكانت هناك أخرى تسمى فرقة الشارع وقدمت مسرحية بعنوان (الكاتب والشات) وكانت تعرض أمام المقاهي وكان بطل هذه المسرحية الفنان أحمد كامل الذي قام بدور سليمان في فيلم الكيت كات”.

ووصف الأنصاري تهميش المسرح وانحساره بأنه “مثل حاجات كتير ذابت مع توجه الدولة في كل مرحلة، يعني المؤسسة الثقافية العمالية ليس لها أي دور مهم في التثقيف والمؤسسة الاجتماعية العمالية أصبح لا يستدل عليها إلا بكونها محطة أتوبيس”.

يقول الممثل والمخرج مجدي عبيد: “بالطبع هناك تعمد لإهمال هذا النوع من المسرح لأن سياسات كل مرحلة تأتي بفنونها وثقافتها”.

تراجع المسرح العمالي

ومع تراجع حركة التصنيع، بدأ مسرح العمال يخفت تدريجيا حتى انتهى مع بداية الألفية الجديدة. ورغم محاولات إحيائه مرة أخرى اليوم، إلا أنها لا تتعدى كونها محاولات متفرقة لا يربطها نظام ولا خطة، بحسب المخرج عبدالغني زكي.

ويقول “زكي” إن المسرح العمالي الذي ازدهر في فترات عديدة من تاريخ مصر، أخذ في الآونة الأخيرة في الانحسار، بل وخرج عن الأهداف المرسومة. فبالإضافة إلى قلة الأعمال المسرحية المقدمة أصبح يقتصر هدفه على عملية تسابق بين الشركات، وينتهي الأمر عند هذا الحد.

ويضيف “زكي”: “يصبح أكثر ما يشغل بال القائمين على إنتاج العروض، نتائج التسابق، وعدد الجوائز التي يعود بها الفريق إلى مؤسسته العمالية. وهو ما يخرج عن نطاق وظيفة هذا النشاط الفني العمالي”.

دعوة للإحياء

تهدف الدعوة لإحياء المسرح العمالي إلى تحقيق اشتراك العمال في مشروع ثقافي حضاري، عن طريق تنمية مواهبهم ومداركهم واكتشاف قدراتهم الإبداعية باعتبارهم أكثر طبقات المجتمع فاعلية والتحاما ببنية الواقع وهمومه.

وإذا كانت وزارة الثقافة ترعى طلاب المعاهد الأكاديمية الفنية، وتدعم مسرح الدولة وتقدم الدعم أحيانا لبعض الفرق الخاصة بدعوى نشر الثقافة، فإن من واجبها أيضا رعاية الفرق العمالية المسرحية من خلال المؤسسات العمالية المختلفة كالاتحاد العام لنقابات عمال مصر والمؤسسة الاجتماعية الثقافية العمالية واتحاد الشركات، والاتحاد العام لشباب العمال.

كما يتعين على معهد العمال (الجامعة العمالية سابقا) القيام بدور في الارتقاء بالمسرح العمالي شأنه في ذلك شأن أية مؤسسة تعليمية أخرى كالجامعات. إذ يلزم هذا الدور في حد ذاته الإعلام النقابي بالقيام به، وعلى رأسه صحيفة “العمال” التي تصدر عن اتحاد نقابات عمال مصر.