بينما يواجه نظام السيطرة الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي معارضة فلسطينية قوية، تشير الدلائل إلى أن الطرق التي تسعى بها إسرائيل للهروب من هذا الوضع لن تؤدي إلا إلى جعل الأمور أسوأ بالنسبة للدولة العبرية.
بالفعل، ابتداءً من منتصف عام 2022، كانت هناك زيادة ملحوظة في عدد الهجمات التي يشنها الفلسطينيون ضد المستوطنين والجنود الإسرائيليين في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وكذلك في إسرائيل نفسها.
في تحليلها، تشير نور عرفة، زميلة مركز مالكولم كارنيجي للشرق الأوسط، إلى أن هذا النمط كشف عن أوجه قصور كبيرة في سياسات إسرائيل للسيطرة على الفلسطينيين تحت الاحتلال واستقرار حكمها. وأنه لإيجاد طريق قابل للتطبيق للمضي قدمًا، يجب على الإسرائيليين التفكير في الخيار الوحيد الذي يرضي الفلسطينيين على المدى الطويل. وهو إنهاء الاحتلال.
تقول: استندت استراتيجية إسرائيل لتحقيق الاستقرار، المستوحاة من عقيدة مكافحة التمرد الحديثة، على ركيزتين: توظيف تدابير التهدئة لاستمالة الفلسطينيين، والاعتماد على السلطة الفلسطينية لمراقبة سكانها نيابة عن إسرائيل.
اقرأ أيضا: الممثل الأمريكي للشؤون الفلسطينية: نعمل مع الإسرائيليين والفلسطينيين لمصلحة الشعبين
ومع ذلك، فإن العديد من الفلسطينيين يقاومون الآن هذا النهج. في حين أن شرعية السلطة الفلسطينية -الآخذة في التآكل- زادت من حدة رفض السكان لقبول أساليبها التقييدية.
استراتيجية الاحتواء
ترى عرفة أن هذا الوضع سيؤدي إلى عدة نتائج محتملة، تحتوي جميعها على العديد من التعقيدات لحفاظ إسرائيل على الوضع الراهن فيما يتعلق بالفلسطينيين.
تقول: على المدى القصير، مع انجذاب المجتمع الإسرائيلي لليمين وأقصى اليمين، وهو ما انعكس في نتائج الانتخابات الإسرائيلية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، من المرجح أن يكون هناك تصعيد في الاشتباكات بين الفلسطينيين واليهود في الأراضي المحتلة.، وداخل حدود إسرائيل عام 1948.
وتشير إلى أن هذا “قد ينهي هذا اتفاقيات أوسلو لعام 1993، ويؤدي إلى مرحلة جديدة في العلاقات الفلسطينية- الإسرائيلية، تتسم بمزيد من إراقة الدماء، حتى يتم وضع إطار سياسي جديد، ينهي الاحتلال، ويحقق تقرير المصير للفلسطينيين، ويضمن الحقوق للجميع”.
تتناول عرفة استراتيجية إسرائيل لتثبيت حكمها في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في يونيو/ حزيران 1967، وكان الهدف الأساسي لإسرائيل هو فرض حكمها من خلال إدارة واحتواء السكان الفلسطينيين، وقمع طموحاتهم السياسية، وردعهم عن دعم أنشطة المقاومة.
وتوضح أنه بالإضافة إلى الانخراط في التدخلات العسكرية وهدم المنازل والقتل المستهدف والاعتقالات، استخدمت إسرائيل طريقتين أخريتين مدروستين لإسكات الفلسطينيين. أولهما توفير ما يسمى بـ “التسهيلات الاقتصادية للفلسطينيين وتحسين ظروفهم المعيشية”، بهدف صنع الموافقة على الحكم الإسرائيلي.
وتقتبس أن “الحرمان الفلسطيني يسبب اضطرابات سياسية ومعارضة أكبر لإسرائيل، في حين أن توفير منافذ اقتصادية يزيد من تكاليف معارضة الاحتلال”. وهو تفكير روّج له موشيه ديان.
نفس المنطق شكل السياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة خلال مرحلة ما بعد أوسلو. نظرًا لأن الوصول إلى جميع أنواع التصاريح مشروط بتصريح أمني إسرائيلي، أصبح نظام التصاريح أداة تأديبية لمكافأة الفلسطينيين على امتثالهم أو لمعاقبتهم على مقاومتهم.
الاعتماد على السلطة الفلسطينية
الاعتماد على السلطة الفلسطينية يمثل الركيزة الثانية لاستراتيجية إسرائيل لتحقيق الاستقرار. بعد تأسيسها في عام 1994 كجزء من اتفاقيات أوسلو، لم تبرز السلطة الفلسطينية فقط كمدير رئيسي لحياة الفلسطينيين، مما أدى إلى إعفاء إسرائيل من تلك المسؤولية، بل “أصبحت أيضًا مؤسسة للحكم الإسرائيلي غير المباشر”، وفق عرفة.
تقول عرفة: حملت السلطة الفلسطينية مسؤولية حماية الأمن الإسرائيلي، بقمع المقاومة الفلسطينية مقابل الحصول على مزايا. لكن، على الرغم من هذه الأساليب، فقد كشفت الموجة الأخيرة من الهجمات ضد الإسرائيليين عن عيوب سياسة إسرائيل وفشلها في ضمان خضوع الفلسطينيين.
تفسّر قولها: ازدادت المقاومة الفلسطينية المسلحة، التي يقودها بشكل كبير شبان هاجموا جنودا ومستوطنين إسرائيليين، بشكل تدريجي بعد انتفاضة الوحدة، في مايو/ أيار 2021، التي أعقبت القرار الإسرائيلي بطرد العائلات الفلسطينية من حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية.
وتؤكد زميلة كارنيجي أنه “في حين أن الهجمات الحالية لا تزال محدودة النطاق، فقد كشفت مرة أخرى حدود استراتيجية التهدئة الإسرائيلية في الضفة الغربية. والدليل على ذلك هو استمرار المطالب السياسية الفلسطينية، والثورات التي لا حصر لها ضد الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967”.
وأشارت إلى أنه ليس من الصعب فهم أسباب ذلك “بينما يُمنح الفلسطينيون تصاريح ومزايا اقتصادية أخرى، لا يزالون يتعرضون للإذلال على أساس يومي، ويواجهون العنف المستمر من الوجود العسكري والأمني الإسرائيلي. بما في ذلك المداهمات الليلية، وسرقة الأراضي، ونزع الملكية، والهدم، والتهجير القسري، والتهميش الاقتصادي، وعنف المستوطنين المتصاعد، والمراقبة، والاعتقالات الجماعية، وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية، وعمليات القتل خارج نطاق القضاء. إضافة إلى خمس عمليات عسكرية في السنوات الخمس عشرة الماضية ضد غزة.
وأكدت أن القمع الذي يتعين على الفلسطينيين مواجهته، إلى جانب إنكار إسرائيل الكامل لتطلعاتهم السياسية، لم يؤد إلا إلى تأجيج الغضب والاستياء الفلسطيني.
اقرأ أيضا: نتائج انتخابات الكنيست.. الخروج من الانقسام إلى هيمنة الصهيونية الدينية
التداعيات طويلة الأمد والسيناريوهات المحتملة
يمكن أن تؤدي الصعوبة التي تواجهها إسرائيل في تثبيت حكمها إلى ثلاث نتائج. تشير عرفة إلى أنها ليست متعارضة، وقد لا تتحقق جميعها، وفي بعض الحالات قد تظهر فقط على المدى الطويل.
ومع ذلك، فإنهم جميعًا -إذا فشلوا في إنهاء الاحتلال- لا يمكن تحملهم، ولن يجلبوا الاستقرار الذي تسعى إليه إسرائيل.
النتيجة الأولى المحتملة، هي أن إسرائيل ستحاول فرض سلطتها على الفلسطينيين باللجوء إلى مستويات أعلى من العنف. ترى باحثة كارنيجي أن هذا السيناريو معقول في ضوء نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، والتي سمحت بعودة بنيامين نتنياهو إلى السلطة بفضل دعم أحزاب اليمين المتطرف العنصرية.
هنا، تلفت عرفة إلى أنه من المرجح أن يؤدي ظهور شخصيات في السياسة الإسرائيلية من اليمين المتطرف بجوار نتنياهو، مثل إيتمار بن جفير وغيره، وانجذاب الشباب الإسرائيلي نحوهم، سيؤدي إلى اشتباكات أكثر حدة بين الفلسطينيين والجنود الإسرائيليين واليهود المستوطنين في الضفة الغربية.
وإذا اتخذت الحكومة الإسرائيلية خطوات أكثر استفزازية -مثل انتهاك حرمة المسجد الأقصى، وتصعيد استخدامها للقوة المميتة ضد الفلسطينيين- فقد تندلع انتفاضة جديدة وتمتد إلى المناطق العربية داخل حدود عام 1948.
تحذر عرفة بأنه “في مثل هذه الحالة، إذا شاركت السلطة والفصائل الفلسطينية في الانتفاضة، فسيكون ذلك بمثابة ضربة قاضية لعملية أوسلو، خاصة إذا حلت السلطة الفلسطينية نفسها وأنهت التنسيق الأمني مع إسرائيل. وهذا من شأنه أن يترك الإسرائيليين أمام خيارين لملايين الفلسطينيين تحت سيطرتهم، الطرد، أو القمع إلى أجل غير مسمى.
ومع ذلك، فإن هذا لن يكون مقبولاً في نهاية المطاف. مما يترك إسرائيل في معضلة لا يمكنها حلها إلا من خلال إنهاء احتلالها، والوفاء بمطلب الفلسطينيين لتقرير المصير.
توسيع التحالف الداخلي
قد تلجأ إسرائيل، التي ترى ضعف السلطة الفلسطينية المتزايد وعجزها عن سحق المقاومة في الضفة الغربية، إلى استراتيجية لا مركزية أكثر لمكافحة التمرد، وتوسع تحالفاتها مع شخصيات فلسطينية رئيسية.
تشير عرفة إلى أنه يمكن جعل هؤلاء النخبة مسؤولين عن الشؤون الأمنية والإدارية -ويمكن تصور ذلك من خلال المجالس المحلية الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية- في مقابل الوصول الحصري إلى الامتيازات. يمكن أن تشمل النخب التي تتعاون معها إسرائيل رجال أعمال وشخصيات عشائرية، لا سيما في جنوب الضفة الغربية، المعروفين بشبكاتها القبلية القوية.
وتشير إلى أن هذا من شأنه أن يعيد صدى المحاولات الإسرائيلية في أواخر السبعينيات لإضعاف منظمة التحرير الفلسطينية. من خلال إقامة روابط قروية، وبناء علاقات مباشرة مع قادة القرى، في محاولة لإنشاء مؤسسات يمكن أن تولد الدعم الفلسطيني للاحتلال.
هذا السيناريو مرئي بالفعل في بعض الأماكن. على مدى العقد الماضي، طورت إسرائيل علاقات مع شخصيات رئيسية من رجال الأعمال والشخصيات القبلية والمنظمات غير الحكومية في أجزاء مختلفة من الضفة الغربية، متجاوزة السلطة الفلسطينية، التي -من حيث المبدأ- يجب أن تعمل كوسيط بين الإدارة الإسرائيلية والسكان الفلسطينيين.
توضح: على سبيل المثال، بينما يتعين على الفلسطينيين -نظريًا- التقدم بطلب للحصول على تصاريح من خلال وزارة الشؤون المدنية التابعة للسلطة الفلسطينية. فإن بعض النخب المحلية تتقدم مباشرة إلى إسرائيل، ولديها علاقات مع ضباط إسرائيليين.
أيضا، في جنوب الضفة الغربية، أصبح عدد قليل من رجال الأعمال لاعبين جددا في جهود مكافحة التمرد الإسرائيلية. حيث تم تكليفهم ببناء بنية تحتية لـ “مكافحة الإرهاب” ونظام للمراقبة الذاتية في شركاتهم، مقابل إجراءات تيسير التجارة الحصرية.
وتؤكد أن التوسع في مثل هذه الترتيبات “من شأنه أن يُقسِّم بشكل فعال الفلسطينيين إلى جيوب صغيرة يسيطر عليها قادة محليون، مما يؤدي إلى مزيد من التشرذم والتفتيت في المجتمع الفلسطيني.
اقرأ أيضا: تحديات تعرقل قدرة حكومة إسرائيل الجديدة على تقويض “السلطة”
انهيار السلطة
في ختام تحليلها، تشير عرفة إلى أن النتيجة الثالثة المحتملة هي أن “السلطة الفلسطينية ستنهار، وستتحرك إسرائيل لإعادة تشكيل حكومة عسكرية في الضفة الغربية”. هذا من شأنه أن يعيد الفلسطينيين إلى حقبة ما قبل أوسلو. عندما كانت إسرائيل تحكم حياتهم بشكل مباشر، وتدير شؤونهم الإدارية والأمنية من خلال الإدارة المدنية الإسرائيلية.
ومع ذلك، من غير المرجح أن تحدث مثل هذه النتيجة لسببين رئيسيين.
أولاً، سيترتب على ذلك تكاليف مالية كبيرة لإسرائيل. تقول عرفة: في الواقع، كان أحد العوامل وراء عملية أوسلو، وإنشاء السلطة الفلسطينية كآلية للحكم غير المباشر، هو أن الحكم المباشر أصبح عبئًا ماليًا وعسكريًا على إسرائيل، خاصة بعد اندلاع الانتفاضة الأولى في عام 1987.
لذلك، كان إنشاء السلطة الفلسطينية ملائمًا، لأن إسرائيل احتفظت “بسلطة السيادة في الأراضي المحتلة دون التزامات”. كما قال ذات مرة مستشار سابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل أرييل شارون.
السبب الثاني، هو أن السياق الجيوسياسي الذي ستتم فيه إعادة تأسيس الحكم العسكري الإسرائيلي المباشر قد تغير، لا سيما في ظل الإجراءات الروسية في أوكرانيا.
تلفت زميلة كارنيجي إلى أنه مثلما أدت جهود روسيا لفرض هيكل حكم على أجزاء من أوكرانيا إلى إدانة عالمية، فقد يؤدي هذا السلوك من قبل إسرائيل أيضًا إلى ردود فعل مماثلة، والتي قد يرغب القادة الإسرائيليون في تجنبها.
في ضوء ذلك، من المرجح أن يتم تحدي أساليب تحقيق الاستقرار الإسرائيلية. ليس فقط من قبل الفلسطينيين، ولكن من قبل المجتمع الدولي أيضًا، لا سيما وسط التحولات في التصورات عن إسرائيل، مثل تصويرها كدولة فصل عنصري، من قبل المنظمات الدولية لحقوق الإنسان.