حذف 640 كلمة من ترجمة سمير جريس لكتاب “فهرس بعض الخسارات” الصادر عن مشروع “كلمة” الإماراتي، ليس حدثا فريدا في ثقافتنا العربية، من ناحية تاريخ الرقابة على الترجمات، لكن الفريد هو إعلانه كمترجم عما تعرضت له ترجمته، ووصفها باسمها الصحيح: “مذبحة”، فإعلان كهذا قد يهدده لاحقا بعدم التعامل معه من قبل دور النشر، خاصة الدور العربية والخليجية التي تدفع مقابلا مجزيا لإنجاز ترجماتها.
وسمير جريس واحد من أهم المترجمين في الوطن العربي عن اللغة الألمانية، وبرز اسمه، بوصفه أحد أهم التجارب العربية، التي راكمت مشروعا في الترجمة الأدبية وغدت تمثل جسرا قويا بين الثقافتين العربية والألمانية. وفاز العام الماضي بجائزة الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة تكريما عن منجزه في الترجمة طيلة 40 عاما، ترجم فيها نحو أربعين كتابا، كان آخرها “فهرس بعض الخسارات” لـ”يوديت شالانسكي”، الذي تعرض للحذف.
يعد الكتاب من أبرز إصدارات الأعوام الأخيرة بألمانيا ووصلت ترجمته بالإنجليزية إلى جائزة مان بوكر، ويصفه جريس بأنه نموذج لفن المقالة الأدبية في أرفع صورة، أما عن الجزء المحذوف، فهو فصل بعنوان “دائرة في الغابة” حول موضوع الجنس والأعضاء الجنسية لدى المرأة، وهو بحسب وصفه” مكتوب بأسلوب علمي يكاد أن يكون جافا، لا علاقة له بالإثارة من قريب أو بعيد” وبدون الرجوع للكاتبة أو المترجم.
لم تكن الواقعة الأولى للتدخل الرقابي من دار كلمة، وهو ما أعلنه أيضا المترجم أحمد فاروق في عام 2021، إثر تدخلات تمت دون الرجوع لـ” دواع أخلاقية مزعومة”، بترجمته لرواية “مجد متأخر”، للكاتب النمساوي الشهير أرتور شنيتسلر، والصادرة عن مشروع كلمة للترجمة، يقول فاروق في حوار منشور معه في موقع رصيف 22:” عقد الترجمة ينصّ على التزام المترجم بالأمانة ودقة المعنى، كما أن الغلاف الداخلي للكتاب يحتوي على العبارة القائلة إن المؤسسة المذكورة غير مسؤولة عن آراء المؤلف وأفكاره، لكن ها هي تتدخّل وتبدّل ما لا يتناسب مع ذائقة المسئولين عن النشر فيها.
المأساوي هو أن القارئ الذي سيلاحظ هذا التدخّل الفجّ، لن يلوم المؤسسة بل سيلوم المترجم الذي يتصدرُ اسمه عنوان الكتب وربما تم هذا التغيير برضاه. وربما هذه مناسبة أيضاً للقول بأن كتابي ليس الوحيد الذي تعرض للرقابة.
لقد فوجئ صديقي الكاتب والمترجم ياسر عبد اللطيف، بأسئلة وُجهت له من باحثين في جامعة الجزائر، عن حذفه لكلمات مثل نبيذ وخنزير من ترجمته لـ”حكايات أمي الإوزة” لشارل بيرو، وقد أُدخلت هذه التعديلات أيضا من دون علمه ومن دون إذنه”.
يلفت المترجم السوري صبحي حديدي، إلى نوع آخر من الرقابة الخفية تمارسها دور النشر، وإلى أن التحديات على المترجم العربي لا تنحصر في المشكلات اللغوية ودقة النقل وترجيح كفة المعنى، بل تشمل أيضا تحديات الرقابة، والأسوأ، بالطبع، أن يختار مترجم ما عملا إشكاليا ينذر بإثارة مشكلات مع الرقيب، لكنه يلجأ إلى تخليصه من كلّ الأقسام ذات الأخطار، فلا يترجم بالدرجة المطلوبة من الأمانة، بقدر ما «يشذّب» النصّ و«يهذّب» محتواه. وبهذا فإنّ أنساق الرقابة الخفية قد تكون أشدّ مضاضة من الأنساق الجلية، على المترجِم والنصّ المترجَم في آن معا.
الباحثة سارة رمضان في ورقتها البحثية “حضورٌ خفي” … عن ضوابط ورقابة المركز القومي للترجمة“، رصدت عددا كبيرا من التدخلات الرقابية، تعود إلى ما هو أبعد من إعلان المركز القومي للترجمة آلية للتقدم بطلبات ترجمة الكتب إلى المكتب الفني للمركز مما تسبب في إثارة مخاوف حول وضع حرية التعبير والإبداع في مصر، بعد أن تضمنت المعايير شروطا رقابية تعلن بوضوح عبر منصات المركز الرسمية، بعدم تعارض الكتاب مع الأديان والقيم الاجتماعية والأخلاق والأعراف،
في أغسطس 2020، أعلن المركز القومي للترجمة عن آلية جديدة للتقدم بطلبات ترجمة الكتب إلى المكتب الفني للمركز وذلك ضمن خطة تطوير أداء، كانت قد أعلنت عنها الدكتورة علا عادل المدير السابق للمركز والتي كانت قد تولت إدارة المركز في فبراير 2020.
وقد تسبب الإعلان في إثارة مخاوف حول وضع حرية الإبداع والتعبير في مصر، خاصة بعد أن تضمنت المعايير شروطًا رقابية تعلن بوضوح لأول مرة عبر منصات المركز الرسمية، وتتعلق بألَّا يتعارض الكِتاب مع الأديان، والقيم الاجتماعية والأخلاق والأعراف، كما تضمنت المعايير كذلك، شرطَ أن يكون الكتاب حديثا ولم يمر على نشره أكثر من خمس سنوات، وبحسب بيان المركز، فإن الضوابط جاءت بعد ورود مقترحات ترجمات لكتب تضمَّن محتواها تطاولًا على رموز ومؤسسات دينية، وكذا أعمال تروِّج لـ”المثلية والشذوذ والإلحاد”. وهو ما يتنافى مع الحق في التعبير والإبداع الفني المكفولين بنص المادة 76 من الدستور المصري، كما يتنافى مع أهداف المركز، ويعصف بفلسفة الترجمة في حد ذاتها، ومن كونها ترجمة الآخر.
لكن بحسب سارة، ففي عام 2011، أوصى]المركز القومي بحذف فصلين من كتاب الفيلسوف داود روفائيل خشبة “أبو الهول والعنقاء” “The Sphinx and the Phoenix”، بدعوى أن الثقافة العربية غير مهيئة للفصلين المعنونين: “ما هو الله؟” وخواطر نحو نقد الدين”، بقيت الترجمة معطلة في الأدراج، تنتظر قرارًا من المركز بنشرها كاملة منذ سبتمبر 2011.
رفض المركز كذلك في هذا التوقيت نشر كتاب “أقنعة جنسية.. الفن والانحطاط من نفرتيتي إلى إميلي ديكنسون”، تأليف كاميلي باليا، وترجمة ربيع وهبة، نشر الكتاب بعد ذلك عام 2015 في عهد الدكتور أنور مغيث الذي تولى إدارة المركز مرتين، الأولى في 2014 والثانية في 2015، وامتدت إلى مطلع 2020 غير أن المركز رفض الكتاب مرة أخرى، وأوقفت طباعته في عهد الدكتورة علا عادل، وبعد نفاد الطبعة من السوق، وافقت الدكتورة علا على إعادة طباعته بعد طلب قُدم بهذا الخصوص، إلا أنها تراجعت دون إبداء أسباب.
يسأل الكاتب سمير جريس، في نهاية إعلانه عما حدث لكتابه: لماذا الترجمة من الأصل، إذا كنا نريدها -فقط- متوافقة مع أفكارنا وثقافتنا وآرائنا؟