رغم انطلاقته القوية في دور السينما قبل ثماني سنوات، لم يفلح الفيلم الأميركي الأسترالي “آلهة مصر” (Gods of Egypt) في تحقيق إيرادات تتجاوز ميزانيته، تكلف الفيلم الذي أنتج سنة 2015 حوالي 140 مليون دولار، وحقق في صندوق الإيرادات 150 مليون دولار، وهي نتائج لا تعد فشلا لكنها قريبة جدا من الفشل. انصبت العديد من الانتقادات على الفيلم ووصفت فكرته بالمفككة، لكن أشدها سخونة كان وصف الفيلم بالسخافة لأنه جعل آلهة مصر “بيضاء البشرة تتكلم بلكنة بريطانية”. لم يشارك في بطولة الفيلم أي ممثل أسمر البشرة وكان ذلك في وقت حساس تصاعدت فيه أصوات المقاطعة من الممثلين الأمريكيين من ذوي الأصول الأفريقية احتجاجا على ما اعتبروه إقصاءً لهم من ترشيحات جوائز الأوسكار. هكذا جاءت تقييمات النقاد سلبية جدا للفيلم، فلم نعد في الزمن الذي يليق فيه أن تقدم هوليود الأفلام الفرعونية وقصص علاء الدين وألف ليلة والقصص التوراتية بممثلين هم جميعا من البيض أمريكيين وألمان وفرنسيين. في عصر الصوابية السياسية صار ذلك يعد ضمن طيف من الأوصاف يتراوح بين العنصرية والسخافة.

لدينا – كما قد تتذكر – نسختنا المحلية من الاعتراض على “الفرعوني الأبيض”، حين توقف مشروع مسلسل “الملك” بسبب تجسيد الفنان عمرو يوسف، ببشرته البيضاء المشوبة بالحمرة، وعينيه الملونتين، شخصية الملك الفرعوني أحمس طارد الهكسوس. المسلسل الذي كان سيقتبس رواية نجيب محفوظ الشهيرة “كفاح طيبة”، وعلى عكس الفيلم الأميركي، لم يصل إلى مرحلة الإنتاج ولا الإيرادات، توقف المشروع بمجرد أن انفجرت الإنتقادات – والسخرية – بعد ظهور “بوستر” العمل، والذي وصف فيه عمرو بأنه “أحمس أبيض، ملتح، ويرتدي مثل فيلم أسبرطة”.

حين احتج الجمهور المصري على “أحمس عمرو يوسف” قبل عامين لم يكن قد خرج للنور بعد مشروع مسلسل “كليوباترا” الذي أنتجته الممثلة الأمريكية جادا سميث (زوجة النجم ويل سميث الذي اعتدى على الكوميديان كريس روك في واقعة شهيرة بسبب سخريته من جادا خلال حفل أوسكار العام الماضي). وعلى عكس فيلم “آلهة مصر” وحتى مسلسل “الملك” فإن مسلسل نتفلكس يقدم نفسه بوصفه عملا وثائقيا، مما يتطلب – بالبداهة – قدرا أكبر من الدقة التاريخية. وإذا كانت إليزابيث تايلور، النجمة الأمريكية البريطانية، التي قدمت أشهر الأفلام عن كليوباترا في العام 1963 لم تكن شبيهة في الملامح بالملكة القديمة، فإنها بالمقارنة، بوصفها أوربية على الأقل، أقرب بالتأكيد إلى كليوباترا، ذات الأصول اليونانية البطلمية المقدونية، من الفنانة الأمريكية ذات الأصل الأفريقي، أديل جيمس، بطلة كليوباترا/ نتفلكس.

من أول استعراض لتريلر مسلسل كليوباترا/ نتفلكس، يمكن بسهولة أن نرى ما يصفه اليوتيوبر الأمريكي Clifton على قناته بأنه “فاتنازيا، بروباجندا، وليس وثائقيا” إنه “التاريخ كما يريد المسلسل أن يكون لا كما كان حقا”. إنه استبدال للمصادر التاريخية بحكايات من قبيل “أخبرتني جدتي بألا أصدق ما أخبروني به في المدرسة، كليوباترا كانت سوداء!”.

ما يرجح فرضية البروباجندا هنا هو سؤال بسيط، لو أن الغرض هو تقديم ملكة فرعونية بوصفها “إفريقية” و”سمراء”، فلماذا لم يقدم المسلسل قصة الملكة حتشبسوت أو قصة نفرتيتي؟

لكن قصة كليوباترا بالتأكيد أكثر تشويقا، وأشهر لدى الجمهور “العالمي”، والغربي خصوصا، و”بتحويلها” إلى امرأة سوداء، تتحقق الدعاية للعمل قبل أن يبدأ عرضه. لعبة إنتاجية، أو لعبة ثقافية سياسية، الأكيد أنها ليست لعبة تاريخية ولا “وثائقية”.

بتحويلها إلى امرأة سوداء تتحقق الدعاية للعمل قبل أن يبدأ عرضه في لعبة إنتاجية أو لعبة ثقافية سياسية

من هنا، فإن احتجاجات الجمهور المصري على “كليوباترا نيتفلكس” ليست من فراغ، وليست من منطلق  عنصري حتى لو تخللتها خطابات عنصرية، فيبقى الخطاب العنصري مسؤولية أصحابه، وثمة فارق  بين أن “يستسهل” و”يتساخف” منتجون أمريكيون باستخدام ممثلين بيض لأدوار آلهة مصر القديمة، وبين أن تحاول ثقافة لها سماتها العرقية والثقافية الخاصة في قارتنا أن تنتحل صفة وتاريخ مصر القديمة. ولهذا فإن اتهام المحتجين على هذه “الفانتازيا” غير البريئة بأنهم جميعا عنصريون أو يتحدثون بخطاب عنصري هو أيضا نوع من الابتزاز، واستيراد لخطاب “أبيض” اعتذاري حينا وجاهل أحيانا، لا يستطيع ولا يهتم في الواقع بالتمييز بين “الملونين”. إنه خطاب السيدة الألمانية اللطيفة التي سألتها في برلين إن كانت قد زارت مصر من قبل، فقالت إنها لم تفعل. ثم أضافت بحماس: “لكن أصدقائي ذهبوا العام الماضي إلى غانا”! مثل هذه السيدة ستشاهد مسلسل نتفلكس وربما تتحمس له، ولكن حماسها لن يكون له أي علاقة بالعلم ولا بالتوثيق.

تُتهم حركة “المركزية الأفريقية” (الأفروسنتريك) بأنها “وراء المسلسل”، وهو “اتهام” قد يكون صحيحا بالمعنى شديد العمومية، لا بمفهوم المؤامرة المحكمة، وصحيح أن ثمة مبالغات وتضخيم في دور تلك الحركة التي نشأت منذ حوالي قرن من الزمان في الولايات المتحدة الأمريكية لإلقاء الضوء على الهوية والتاريخ الأفريقي في مواجهة “التعالي الأبيض”، إلا أنه في زمن الإنترنت تنتقل المعلومات والأفكار وتتضخم سريعا، وفي الزمن نفسه يحق للجمهور، ومنه الجمهور المصري، أن يحتج – بمختلف الوسائل- على ما يراه نوعا من “السطو الفكري” على تاريخه، وإذا كانت مثل تلك “الفانتازيا” لا تصمد أمام المؤسسات العلمية الراسخة، لكن من قال أن المسلسل يستهدف جمهورا من العلماء، إن الجمهور العام، غير العلمي، لا يقل أهمية،

على كل حال، فالمسلسل سوف يعرض في موعده العاشر من مايو المقبل، والاحتجاجات عليه، هي رسالة مشروعة، لكن العمل، مهما كان الرأي فيه، هو في النهاية جزء من حرية التعبير، وربما كان في عرضه رسالة لنا، كي ننظر إلى أنفسنا، وإلى الحجم الذي منحناه لمصرنا القديمة في تراثنا السينمائي والتلفزيوني عبر مئة عام، بل حتى في مدارسنا، ربما وجدنا في ذلك الكثير من الإجابات.